fbpx

تقمص الأدوار : من اشتراكيي كمال إلى علمانيي عون

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سوف تمر أحداث زيارة جبران باسيل إلى قضاء عاليه كزوبعة في فنجان. والضحايا الذين سقطوا سينضموا إلى ضحايا الشويفات والجاهليّة وقبلها السابع من أيار والزيادين وباب محسن وجبل التبانة وعبرا.. وغيرها، ولن يتغير شيئاً

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كاد قلب نظيرة جنبلاط يتوقف يوم سألها أحد قاطني قرى الشوف عن مكان “الرفيق كمال”. لم تسطع المرأة التي ورثت الزعامة الجنبلاطيّة الإقطاعيّة عن زوجها المقتول، وهي التي تحضّر ابنها لوراثة تاريخ أبيه وقصره وطائفته، أن تهضم أفكار ابنها “الثوريّة” آنذاك. حاول كمال جنبلاط نقل الدروز في خمسينات القرن الماضي الى رحاب “المواطنيّة والإنسانيّة”. حاول تأسيس حزب “يساري اشتراكي علماني وطني”، ولم تكن مصادفة اختيار مؤسسي الحزب من طوائف ومذاهب مختلفة. كان على المناصرين أن يتعايشوا مع فصام حقيقيّ: هم دروز تحوّلوا من أغلبيّة إلى أقليّة، ومن أسياد إلى عمّال. دروز كبقيّة أبناء الشرق المريض يعرّفون عن أنفسهم، ويحكمون على الآخرين بحسب الكنية. وهم “يساريون” جدد عليهم اعتناق فكر جعل من قائدهم رابع نهرو، وتيتو، وجمال عبد الناصر، في دول عدم الانحياز. نجح كمال جنبلاط في نشر فروع حزبه من دير عمار إلى صور التي سمّت ساحة باسمه، ولكنّه لم يستطع على بعد مرمى حجر من دار المختارة أن يجعل كل الدروز جنبلاطيين. بقوا شمعونيين، إرسلانيين، يزبكيين، وتوارثوا أباً عن جد، انقساماتهم. هذه الصورة الرومانسيّة التي يتغنّى بها الاشتراكيون تماماً مثل رومانسيّات “أمل” عن موسى الصدر، و”المستقبل” عن رفيق الحريري، و”القوات” و”الكتائب” عن بشير الجميّل، وآخرهم في سرد الرومانسيّة التاريخيّة، العونيين عن ميشال عون. 

ما فشل به كمال جنبلاط، نجح به ابنه من بعده. أصبح الدروز بغالبيتهم جنبلاطيين، ولم يعد هناك من اشتراكيين، حتّى أن المنتسبين من الطوائف الأخرى إلى الحزب أصبحوا “لزوم عدّة” ومسايرة لبنانيّة – تماماً مثل الكثير من الأحزاب الأخرى. بغض النظر عمّن ربح أو خسر جولات أكثر في الحرب الأهليّة (طبعاً كل معركة ومجزرة كانت مسماراً يدق بنعش العقد الاجتماعي اللبناني)، فإنّ الفكر الذي ربح نهاية التسعينات كان الفكر اليميني الطائفي. حتّى أنّ محاججة “الاشتراكيين” بشأن فكر “المعلّم” لطالما تبنّت جملاً على شاكلة: “لكل زمن رجله، وليد جنبلاط أنجع من أبيه في وقت الحرب”. 

واضمحل دور الدروز السياسي بعد الحرب الأهليّة والمحاصصة التي انتهجها النظام السياسي دستوراً له. وأصبح نصيبهم من النهب المتواصل باسم “التوافقيّة” 8 في المئة، لا يزيد ولا ينقص، واحتكره جنبلاط. لكنّ المثالثة السنيّة والشيعيّة والمسيحيّة إبّان الوجود السوري، سمحت لجنبلاط أن يتمدد أكثر من حجمه، وأن يكون “بيضة القبّان” فأعطته نواباً ووزراء ومديرين عامين وموظفين وتنفيعاتٍ أكبر من قسمة أرقام أعداد طائفته. وطبعاً هذه الإضافة التي حصل عليها جنبلاط وبرّي والحريري كانت من حصّة المسيحيين المغضوب على زعاماتهم في التسعينات (المنفيين أو المسجونين). وعندما لم يجد جنبلاط معنى للتوسع خارج قواعد طائفته، سعى إلى ضم بقيّة الدروز إليه، فمن لم تحمله البندقيّة إلى المختارة، حملته الحاجة. وصار قصر المختارة محجّة السبت للباحثين عن عمل وطبابة وخدمة. وشارك جنبلاط مثل بقيّة الزعامات في تفريغ الدولة من دورها: رجالاتنا فيها مزاريب تمويل وتوظيف وخدمات للرعيّة، مع حرصٍ على أن تبقى الرعيّة مدينة ومحتاجة وخائفة لتستمر الحاجة وبالتالي بيوت الطاعة.

 

وسوف تمر أحداث زيارة جبران باسيل إلى قضاء عاليه كزوبعة في فنجان. والضحايا الذين سقطوا سينضمون إلى ضحايا الشويفات والجاهليّة وقبلها السابع من أيار وباب محسن وجبل التبانة وعبرا، وغيرها، ولن يتغير شيء، إذ أنّ أحداً من هؤلاء المتخاصمين لن يقدّم جديداً على طاولة البحث.


كان بإمكان تيارٍ سياسيّ علمانيّ أن يغلق أبواب هذه الزعامات وبيوتها، خصوصاً بعد خروج الجيش السوري من لبنان، ولهذا كان جنبلاط أول المبادرين لقيادة “الثورة” عام 2005، وليكون صديقه نبيه برّي (ومن خلفه حزب الله) أول المبادرين لقيادة “الشكر لسوريا الأسد” في العام نفسه. كل ذلك لكي يبقى الانقسام في لبنان عامودياً، ولكي لا تنتج التغييرات السياسيّة أفكاراً وتنظيماتٍ وأفراداً، لا يجيدون اللعب بحسب قواعد الاشتباك وتقاسم المغانم. وحدهما سمير جعجع وميشال عون أعيدا إلى الساحة ليتصرّفا بشأن أفراد طائفتهما، وهنا بدأت المعركة. القسمة على أربعة لا تشبه القسمة على ستّة، وتركت الأمور معلّقة. لا النظام السياسي تغيّر، ولا عقليّة الدولة. الجيش والأمن لحماية النظام ولفض الاشتباكات عند الحاجة، الوزارات والإدارات لتوظيف المحسوبين وعقود العمل للمنتفعين، الخدمات تخضع لنهش “الستة وستة مكرر”، والمطار مفتوح لأصحاب التأشيرات. كان بإمكان اللاعبين الجدد الذين فتحت الأبواب لهما، أن يغيرا قواعد اللعبة، لكنّهما لم يهتما. تصارع “حزب القوات” و”التيار الوطني الحر” على الإمساك بالطائفة المسيحيّة ووثقا كتابةً محاولتهما إغلاق بيوت فرنجيّة والجميّل وغيرها. القوات لم تتذبذب في خطابها ولا تاريخها، ولم تبدّل شيئاً من خطابها. وحدهم العونيّون عاشوا “شيزوفرينيا جنبلاطيّة القرن الماضي”. هم علمانيّون مسيحيون، هم مورّثون ضد الإقطاع، هم رجال دولة ما دامت الدولة إلى صفّهم، هم مناهضو التمديد إلا عندما ينتخب منهم رئيس، هم مناهضو التشريع إلا عندما يختم لهم مليارات دينٍ عام لبناء السدود، هم الإبراء المستحيل حتّى يأتي موعد الصفقة، وهم كارهو “البلطجيّة” حتّى يرتموا في حضنها في ثلاثين صوتاً انتخابياً.

كان يمكن تيار سياسيّ علمانيّ أن يغلق أبواب المختارة، والمصيلح، وحارة حريك، وبنشعي، ومعراب، وخلدة، وقريطم، والرابية وغيرها من البيوتات السياسية. لكن لا يمكن بيت من هذه البيوت أن يعتمد النهج ذاته وأيضاً الخطاب والعقليّة والمذهبيّة والمحاصصة والفساد والمحسوبيّة والتنكيل بجثث الحرب، وثمّ أن يعيّر الآخرين ويذمّهم. أقصى ما يمكن أن تفعله هذه البيوت، أن تخدم بعضها بعضاً، بشدّ الحبال والعصبيّة، وأن تتواجه وتشتبك على طاولات مجالس الوزراء بنعومة، أو في الشوارع  بخشونة مناصريها، وتؤمن أسباب بقائها.
كان يمكن أن يغلق تيار سياسيّ علمانيّ أبواب الإقطاع والطائفيّة، و”ضب” السلاح من البيوت. إنما تيار سياسيّ يصرح ليلة الانتخابات النيابيّة عن كسر رأس كمال جنبلاط في 1958. تيار سياسيّ يقول وزير مهجّريه إن المسيحيين يخافون النوم في قرى الشوف (على رغم أنّ ابنته لم تخف من اللعب بزمامير الخطر في سيارته الديبلوماسيّة احتفالاً مع صديقاتها)، وتيار سياسيّ ناشطته تعلن أن الدروز “فركوشين ونص”، وتيار سياسيّ يغطّي أفعال حليفٍ يوزّع مناصروه مسلحين ليجوبوا قرى الشوف تشفياً وتهديداً وتحدياً، وتيار سياسيّ يفاخر بالقضاء ثمّ يقبل بتهريب قاتلٍ (أو مشتبهٍ به) إلى سوريا. تيار سياسيّ لا يتوانى رئيسه عن نبش الماضي في كل منبر، والحديث بلغة العنصريّة والطائفيّة والتعالي. لا يمكن لهكذا تيار إلا أن يزرع عند الدروز والسنّة والشيعة تعصباً أكثر، وتبعيّة عمياء لزعاماتهم التاريخيّة.
ولهذا، ستتقابل في القريب العاجل زعامات “الجنبلاطي” و”الإرسلاني” و”الوهابي” معاً، ثمّ مع زعامات “الباسيلي” و”الجعجعي” و”الفرنجي”، وبمباركةٍ من “البريين” و”الحريريين” و”النصرلاويين”، وسيتبادلون القبل، ويعيدون ترتيب المشهد، وترسيم الخطوط والحصص.

وسوف تمر أحداث زيارة جبران باسيل إلى قضاء عاليه كزوبعة في فنجان. والضحايا الذين سقطوا سينضمون إلى ضحايا الشويفات والجاهليّة وقبلها السابع من أيار وباب محسن وجبل التبانة وعبرا، وغيرها، ولن يتغير شيء، إذ أنّ أحداً من هؤلاء المتخاصمين لن يقدّم جديداً على طاولة البحث. سيشيّع الضحايا، وستقام الصلوات، وتستمر العدوات ولن يعبر أحد إلى الدولة من شريعة الغاب. قد يغلق بيت سياسي أو يصغر حجمه، أو يكبر، أما اللعبة فواحدة: “فرّق تسد”، تعلّموها من أربعة قرون من الأتراك، ومن قرنٍ من البيعة والولاء وتبديل الكتف والسلاح بين أمراء الخليج وأسياد الشام وقناصل الدول ومرشدي طهران. 

الصراع على الزعامة الدرزيّة في لبنان (1/ 2)