fbpx

جمهورية جبران باسيل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

للقذيفة على مكتب باسيل وظيفة في هذا المشهد. الرجل أحسن توظيفها. عمل وفق الحكمة التي قالها يوماً حافظ الأسد لبيار الجميل الجد في لقائهما الوحيد. قال له حينها: “ضع فلسطين في فمك واحكم لبنان”. باسيل اليوم هو الديكور المسيحي لسلطة “حزب الله” في لبنان

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سبقني جبران باسيل صباح اليوم وأضاف مقدمة للمقال الذي كنت باشرت بكتابته منذ الصباح، فقبل أن أنهي مقالي أقدمت قوى أمنية على توقيف المواطن داوود مخيبر الذي كان ظهر في مقطع فيديو غاضباً وضعيفاً ومحتجاً على إقدام وزارة الكهرباء، وهي إحدى الوزارات المطوبة باسم الوزير، على تمديد أسلاك تشكل خطراً على أهل منطقة المنصورية. مشهد توقيف مخيبر كان مروعاً وكاشفاً لـ”قوة” الوزير، ولهشاشتنا نحن مواطنو جمهوريته.

وعندما يقرر وزير خارجية لبنان، صهر رئيس الجمهورية، ورئيس أكبر تكتل في مجلس النواب جبران باسيل، أن الوعاء الذي سيضعه على مكتبه ويضع فيه زهور الصباح هو قذيفة مدفعية أهداه إياها “حزب الله”، فهذا أمر يقول الكثير عن موقع لبنان مما يحصل في المنطقة، وأيضاً عن طبيعة السلطة التي يقف باسيل على رأس مثلثها. فالرجل صهر الرئيس وممثله في السلطة التنفيذية، وهو صهره وممثله في المجلس النيابي، وهو أيضاً وأيضاً صهره وممثله في السياسة الخارجية. وباسيل البالغ النشاط والحضور يصول ويجول في كل شاردة وواردة، وهو إذ تفوق على نفسه وعلى موقعه، إنما جعل يتحرك بين نقطتي ضعف أصابتا التركيبة اللبنانية في أعقاب انتصار “حزب الله” عليها، وتتمثلان في رئاسة الحكومة ورئاسة المجلس النيابي. لا أحد في هذين الموقعين تمكن من باسيل، ولا أحد استطاع أن يضع حداً لطموحاته.

للقذيفة على مكتب باسيل وظيفة في هذا المشهد. الرجل أحسن توظيفها. عمل وفق الحكمة التي قالها يوماً حافظ الأسد لبيار الجميل الجد في لقائهما الوحيد. قال له حينها: “ضع فلسطين في فمك واحكم لبنان”. باسيل اليوم هو الديكور المسيحي لسلطة “حزب الله” في لبنان، لكن السياسي الشاب صهر الرئيس لن يقبل بوضع القذيفة على مكتبه مجاناً. يريد أثماناً، وهو يعرف أن الحزب لن يفرط به طالما أن الأثمان لا تطاول موقع لبنان في خريطة الصراع في المنطقة. أُطلقت يد جبران في الداخل. القذيفة على مكتبه فعلت فعلها. على نبيه بري أن يقبل بهذه الواجهة المسيحية، على رغم المرارة التي يتسبب بها غريمه الجديد، وعلى سعد الحريري أن يقبل طالما أنه خسر المعركة مع “حزب الله”.

إنما لتصدر جبران الشأن العام في لبنان أثمان أخرى، فالعونية في طورها الباسيلي تحضر بصفتها قوة لا يقتصر حضورها على أبواق أصحابها. هي تقاتل بسيف “حزب الله”، وعلينا نحن المتطيرين من تدفقها على حياتنا أن نأخذ حذرنا. حين ينشر موقع العونية الباسيلية خبراً عن أن “السوريين يحاصرون ساحة ساسين”، علينا أن نتحسس رقابنا، فالخبر ينطوي على دعوة للقتال. إنها “ساحة ساسين”، الموقع الذي ينطوي على رمزية في وعي “المسيحية المقاتلة”، إذا ما جاز لنا استعارة العبارة من “السلفية المقاتلة”، لا سيما أن القذيفة على مكتب رئيس التيار تساعدنا على فعل الاستعارة هذا.

 

القذيفة هنا هي ابتذال للقذيفة على رغم أنها صورتها، والعنصرية أيضاً في نسختها هذه هي ابتذال للعنصرية، على رغم أنها صورتها.

 

القول بأن فرن مناقيش لسوري تم افتتاحه في ساحة ساسين هو ما دفع التيار لنشر هذا الخبر يدفع إلى ذهول أكبر، ذاك أن “العنصرية” التي ينطوي عليها الخبر تفوق نظيراتها لجهة الذهاب في الابتذال إلى أقصاه. العنصرية جوهرية في تعريفها، وهي غالباً ما ترتكز إلى إرث ثقافي يملي تمييزاً عرقياً أو قومياً أو اجتماعياً، لكنها في نسختها اللبنانية تنطوي على ابتذال لـ”قيم العنصرية” نفسها. فرن مناقيش هو القاعدة النفسية لاشتغال العنصرية اللبنانية. تماماً كما هي القذيفة المفرغة على مكتب وزير الخارجية، والزهور البرتقالية المتدلية منها. القذيفة هنا هي ابتذال للقذيفة على رغم أنها صورتها، والعنصرية أيضاً في نسختها هذه هي ابتذال للعنصرية، على رغم أنها صورتها.

ولتدفق العونية بصيغتها الباسيلية على حياتنا الكثير الكثير من الصور والمشاهد والوقائع. ها هو القضاء اللبناني يصدر حكماً بالسجن 22 شهراً على الصحافي فداء عيتاني لكتابته “بوستاً” على “فيسبوك”، تناول فيه باسيل. لا بأس ففداء قرر أن يغادر الجمهورية العونية، وأن يلجأ إلى لندن، ويبدو أنه لن يعود قبل انقضاء زمن هذه الجمهورية، وهو زمن ربما يطول.

لكن الذهاب بالقضاء اللبناني إلى حد الحكم على عيتاني كان سبقه حكم قضائي آخر قضى بمنع اللبنانيين خلال تشكيلهم أحزاباً من استعمال عبارة “التيار” حين يختارون لأحزابهم أسماء. هذا الحكم لم يُثر حفيظة “تيار المستقبل” الذي سمى نفسه قبل الحكم، ذاك أن هذا التيار لا تعنيه هذه التفاصيل، على رغم أنها تنزع حقه باسمه.

لكن لبنان يعيش في زمن هذه الجمهورية وقائع أخرى. الجميع يبشرنا بانهيارٍ اقتصادي وشيك، بعد انهيار القيم وانهيار ما تبقى من حريات. لبنان صاحب القذيفة المدفعية على مكتب وزير خارجيته، ستفلس دولته قريباً، وهي تسعى اليوم إلى معالجة ذلك عبر تخفيض رواتب موظفيها، فيما أرقام الفساد على مستويات أخرى تبلغ معدلات خرافية. ولبنان الذي حكم بسجن فداء عيتاني عاجز عن جباية فواتير الكهرباء، وعن حماية المرفأ من التهرب الجمركي وعن استعادة الأملاك البحرية المنهوبة من قبل سياسييه.

لا يقتصر الأمر على ذلك، فالموقع الذي اختاره باسيل لجمهوريته عبر تثبيت القذيفة المدفعية على مكتبه، يعني أن لبنان سيكون جزءاً من المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأميركية وايران. القذيفة على مكتب وزير الجمهورية وصهرها حددت سلفاً موقع لبنان في هذه المواجهة. بلد نفطي مثل العراق أعلن حياده. هادي العامري وهو الأكثر قرباً من ايران في العراق، قال مثلاً إنه يرفض أن تتخذ واشنطن من العراق قاعدة لمعاقبة إيران، لكنه أكد أيضاً أن العراق لن يكون معنياً بمواجهة خارج أراضيه. النسخة اللبنانية من هادي العامري، ويمثلها في هذه الحال جبران باسيل، لم تبادر إلى ما بادرت إليه النسخة العراقية. لا بل ذهبت إلى اعتماد قذيفة بوصفها “لوغو” السياسة الخارجية للجمهورية.

أحزاب المسيحيّين اللبنانيّين: أين تتّفق وأين تفترق؟