لا يغادر ذلك المشهد ذاكرتي، على رغم السنين الطويلة التي باعدت بيني وبينه، وراكمت أحداثاً ومواقف وناساً وأشياء. مضى إلى الفصل الدراسي أحد المعلمين، بينما يطوي في يده ورقة مغلقة، وبدأ يسأل بتجهم وحدّة واضحين: “ريمون زميلكم، طلب تحويل دراسته انتساب. لماذا لا تسألون عن غيابه طوال هذه المدة؟”.
كنا طلبة في السنة الدراسية الأولى من المرحلة الإعدادية. أعمارنا لا تتجاوز 11 ربيعاً. انقطع عن الدراسة زميلنا “المسيحي”، لأكثر من أسبوعين، من دون أن يتفقد أثر غيابه زملاؤه في مقاعد الدراسة، الذين لم يكن من بينهم صديق مقرب له، أو أحد يعرف منزله، ناهيك بإدارة المدرسة التي لم تهتم بالأمر، على أقصى تقدير، إلا حين تقدم الطالب برغبته، في تحويل نظام دراسته إلى ما يعرف في مصر بـ”المنازل”، والذي يعفيه من الحضور إلى المدرسة إلا لأداء الامتحانات.
اللافت، أنه حتى ذلك المعلم الذي تكفل بالبحث عن مشكلة الطالب المتغيب، بدا لي غريباً، فهو مدرس “أنشطة” وليس “الأخصائي الاجتماعي”، مثلاً، المسؤول عن حل مشكلات الطلبة. بيد أن الشيء الوحيد المفهوم في هذا السياق أنه كان “مسيحياً” هو الآخر. لذا، يبدو أن إدارة المدرسة اختارته لهذا السبب.
طالب مسيحي واحد في مواجهة أغلبية من الطلاب المسلمين. لم نفطن، للحظة، إلى أزمته الوجودية في هذا الحيز الضيق الذي تشكل ضده، ومارس عليه سياسة العزل والنبذ، بقصد ومن دون قصد. يحتل مقعده في الصفوف الأخيرة، منفرداً. ينسحب بهدوء في حصة الدين، بصمت يشوبه الخجل والتخاذل، بينما تتجاهله نظرات مدرس الدين حتى يعبر باب الفصل، ويختفي بين الممرات الطويلة.
اعتدنا في كل المراحل الدراسية هذه الحال، فقبل أن يشرع مدرس التربية الإسلامية، في الدرس والشرح، يسأل عن وجود الطلاب المسيحيين بمجرد دخوله، فيأذن لهم بالخروج من قاعة الدرس، ليبددوا أوقاتهم في التردد بين أروقة المدرسة، أو الجلوس في فنائها، باستثناء المرات التي يكون فيها مدرس الدين “المسيحي”، فيمضون معه حصتهم، التي ليست لها قاعة مخصصة، إنما يجلسون في نهاية ممر إحدى الطبقات منفردين، ومعهم كتاب الدين الخاص بهم، وهو أمر يترك غصة مريرة، داخل وعي هؤلاء الطلبة ووجدانهم، وشعورهم بعدم المواطنية، وفقدانهم الانتماء والاندماج مع أقرانهم، ويعمق لديهم الإحساس بالتمايز والغيرية، في ظل دولة تعتمد دين الأغلبية في دستورها مصدراً للتشريع.
هوية واحدة
تحتل واجهة المدارس، ومبانيها الداخلية، الكثير من اللافتات التي تحفل بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، ومآثر تعكس قيماً إسلامية محضة، حتى وإن جاء بعضها يحض على التعاون والمحبة.
لكنها تكرس هوية واحدة وسلطة متينة، تجعل الآخر المسيحي في تبعية ودرجة أدنى. كما أن منهج اللغة العربية الذي يُجبَر على دراسته كل الطلبة، تشمل مقرراته نصوصاً قرآنية وقصصاً دينية إسلامية، يحفظها على مضض، غير المسلمين، للحصول على درجة النجاح.
تصفحتُ مادة “التربية الإسلامية”، من كتاب الوزارة، المقرر للعام الدراسي الجاري (2018-2019)، والمخصص كمنهج لطلبة السنة النهائية من المرحلة التعليمية المتوسطة أو الإعدادية، إذ يشير أحد فصوله إلى أنها تتحدث عن: “الساعة وشدائدها والقيامة وأهوالها”.
وفي تفسير الآيات المقررة من إحدى سور القرآن، يُذكر: “غفلة الناس عن الآخرة، وعن الحساب والجزاء، بينما القيامة تلوح لهم وهم في غفلة عن ذلك اليوم الرهيب، وقد شغلتهم مغريات الدنيا عن الحساب المرتقب، ثم تتحدث السورة عن المكذبين، وهم يشهدون مصارع السابقين، لكنهم لا يعتبرون، ولا يتعظون، حتى إذا فاجأهم العذاب، رفعوا أصواتهم بالتضرع والاستغاثة، ولكن هيهات، فقد فات وقت الندم”.
داخل هذا الكم الهائل من العنف الرمزي والمعنوي، تُبنى صورة معتمة ومتوحشة. تلتهم عقل الفئة “المؤمنة” التي يندفع الدم برأسها، على إثر تلك الحالة الهائجة، باستمرار، قبل أن تنسحب ضد الآخر.
كما تتشكل إكراهاتها المتعددة التي تضغط بمؤثراتها العصبية عليهم. وتظل ترافق معنى الدين وجوهره ومضمونه لدى متلقيه، بالخوف والقلق الدائمين. ويبقى الدين بالنسبة إليهم بمثابة مسدس كاتم للصوت. وكأن شيئاً غامضاً يقتات أرواحهم، ويتوغل داخلهم، بغير رحمة أو لحظة اطمئنان.
إذاً، بحسب المناهج المقررة في التعليم الديني المصري، ثمة دين واحد هو الصحيح، وغيره تتباين وجهات النظر ضده بين “التحريف” أو نفي القداسة التامة عنه”، فضلاً عن عدم اعتباره ديناً من الأساس، ومن ثم، تكفير أو تأثيم تابعيه.
يصبح الدين هو الإسلام ولا شيء غيره، فيما الخارجون عنه هم المطرودون والمنبوذون، بلا جدران أو سقوف تحميهم، إنما تتهدم عليهم، أحياناً، وتظل مصدر قلق وريبة لهم. فتتسرب كل مشاعر الطائفية والاغتراب والإحساس بالأقلية.
الإسلام كبيئة تعليمية
يؤدي الدين الإسلامي دوراً مؤثراً في البيئة التعليمية، وفقاً لما هو مقرر في المناهج الدراسية، ويهيمن بصيغه المنغلقة على التعليم، من ناحية، ويفرض نفسه كنموذج شمولي، يضع بصماته على هوية الأفراد، وسلوكهم، كما يحدد قيمهم، ويشكل رؤيتهم تجاه الدولة والمجتمع والثقافة والفن، وكذا، مواقفهم من الآخرين، من ناحية أخرى.
في الصف الثالث الإعدادي، يدرس الطلبة سورة آل عمران، والتي يرد فيها بشكل قطعي: “ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين”.
وعليه، فإن الطالب في قاعة الدرس تتشكل حصيلته التعليمية، بأن ما يقرب من 10 في المئة، من سكان مصر، مثلاً، وهم من المسيحيين “من الخاسرين”!
وبحسب دراسة في معهد كارنيغي، للباحث محمد فاعور، فإن التعليم الديني وتعليم اللغة العربية يستهدفان، في بعض الأحيان، قيماً متناقضة مع تلك المنصوص عليه في موضوعات التربية المدنية، المدرجة في منهاج الدراسات الاجتماعية، ومع معايير إنسانية أوسع.
ومن بينها، على سبيل المثال، تدريس مسألة المساواة بين الجنسين في الدراسات الاجتماعية، والتي تقرها وتوافق عليها في منهجها، بينما تأتي على نقيض، وبرؤية مغايرة تماماً، في مادة اللغة العربية، والتي تستعير عنوان أحد دروسها المقررة، من عبارة واردة في القرآن، تقول: “للرجال نصيب وللنساء نصيب”.
وتحت وطأة هذه التناقضات، التي تكشف عن مناهج تعليمية ضعيفة ومهترئة، تستهدف طالباً مشتتاً، فإنها، كذلك، تؤبد قناعات وتصورات متشددة، ولانهائية، تفضي إلى تكريس تصوراً عن وجود تراتبية دينية واجتماعية وطبقية. وتظل تعزل الأفراد على مذبحها المقدس، على أساس طائفي، ديني، ومذهبي، وماهوي، وجندري.
تصادف دراسة ابن شقيقتي، الذي لا يتجاوز عشرة أعوام، أحد مناهج التربية الإسلامية، الذي قصدت الإطلاع عليها. وبينما بادرته بالسؤال عن معنى إحدى الآيات المقررة، وكانت تتحدث عن وحدانية الله المطلقة، بحسب المعتقد الإسلامي، فروى لي أن مدرس الفصل، فسر لهم الآية بأنها تنزيه لله عن الشرك، بخلاف المسيحيين، الذين يعبدون ثلاثة، في إشارة إلى “الثالوث المقدس”، وأن المشركين هما: “اليهود والنصارى”، وقد حاربا الرسول في المدينة.
وعندما سألته عن زملائه المسيحيين في الفصل، قال لي: “كان لنا زميل واحد وطلب نقله لفصل آخر يدرس فيه طلاب مسيحيون أيضاً”.
لا يبدو أن ثمة انفراجة لهذا الوضع الذي يترك ندباته السود في وجدان هؤلاء الأفراد، وتطغى على تفكيرهم ومشاعرهم، بل تتجدد، وتجعلهم مرشحين لبيئة حاضنة للتطرف الديني، والتكفير، وسط تغييب وتجاهل لطرف من المجتمع بشكل قسري.
وجوهر الأزمة يتأسس لدى دولة “طائفية”، تعمد إلى تصنيف المواطنين على أساس هويتهم الدينية، لا المواطنية. وعلى الضفة النقيضة، يحدث الأمر ذاته، عند المسيحي، في مدارس الآحاد في الكنيسة التي ينحبس داخلها، فتعوضه شعوره بالفقد واللاانتماء. وتمنحه الجرعة ذاتها من التشدد.
ولئن ظل الدفاع عن الوطن بمثابة “عقيدة” والتزام دينيين، تختلط فيه مفاهيم الجهاد، وجزاؤه الحصول على الجنة؛ فيظل السؤال الصعب: من هم بدقة الأعداء والخصوم؟ ومن هم “جنود الله”؟
يجيبك عن السؤالين درس: “التربية المواطنية”، للصف الابتدائي الخامس، والذي يتضمن قصيدة بعنوان: “نشيد بلادي”، التي جاء فيها:
“ورب العقيدة، لن تهزمي… ومن أكمل الدين للمسلم
سنحمي ثراك ونحمي الدروب… هتافاتنا النصر للمؤمنين”.
مصر: سندٌ قانونيٌ لممارسات عنف ضدّ الأقباط