fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

حمزة… الطفل السوري الذي فتّت قنبلة وأنقذ الحيّ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لدى حمزة جدران أربعة وسقف، تحاول أمه حمايته باستمرار، تحمد ربها بشكل يومي على منحه حياة جديدة، لكنها لا تتوقف عن الخوف عليه، تخاف من الشارع وما تحته، تقول “ماذا لو انفجرت الأرض به؟ سأجنّ يا الله”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


“أحسن شي لما لقيت قنبلة”، هكذا يبدأ حمزة حديثه بكل حماسة، راوياً كيف أنقذ ابن السنوات السبع العمارة من الانفجار في مرة. كانت والدته في المطبخ، تقف أمام المجلى وظهرها إلى الطاولة، جلست جاراتها يتحدثن ويشربن قهوة الصباح، لتلتفت على صوت صراخهن المفاجئ. تحكي الأم: “حين قال لي حمزة أنه سيجلب قنبلة، ظننته يمزح، اعتقدت أنها ستكون لعبة أو بسكويت على شكل قنبلة، حتى رأيته أمام عيني وبيده قنبلة وسط مطبخ بيتي”.
صديق حمزة هو من أخبره عن القنبلة التي وجدها على سطح البناية، لكن والديه لم يصدقاه، ولا حتى أولاد الحارة، وحده حمزة رافق صديقه ليجد القنبلة بين أكوام الحجارة، التقطها حمزة برفق، ذهب بها إلى أمه، ليلقيها جارهم لاحقاً خلف السكة الحديدية بعيداً من الحي السكني.

“حين قال لي حمزة أنه سيجلب قنبلة، ظننته يمزح، اعتقدت أنها ستكون لعبة أو بسكويت على شكل قنبلة، حتى رأيته أمام عيني وبيده قنبلة وسط مطبخ بيتي”.


نتحايل على السماء فتخوننا الأرض



خلال سنوات الحرب السورية، تدربت الأمهات جيداً على الكذب، صوت القصف غالباً وراء الجبل، والجبل بعيد جداً، لذلك لن نتأذى، ليكبر الطفل وهو مقتنع تماماً بأن الجبل بعيد جداً ويحلم بزيارته. ما يُربي الطفل هو فضوله في المرتبة الأولى، أو ربما خوفه، ليكبر وهو يكره الجبال والأصوات العالية.
فضول الأطفال في الأحوال العادية يدفعهم لاكتشاف حواف الطاولة الحادة في غرفة المعيشة، من خلال خدوش وخربشات تترك آثار أيام الشقاوة على سيقانها، ثم الدرج من خلال كدمات الركبة، فالحارة. بعدها يتدرجون في الشجاعة والتهور، ليذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، خلف السكك الحديد، المقابر، الحديقة الذي حذرهم والدهم منها، و”الخرابة”، البيت المهجور حيث يجرب المراهقون تدخين السجائر، لتكشفهم لاحقاً رائحتهم وثيابهم المغبرة.
بعد الحرب كل ما يثير الفضول قد يكون قاتلاً، بعض الأهالي حجزوا أولادهم لسنين في المنور، أو مدخل البيت حيث لا منفذ للرصاص أو القذائف، لكن بعد هدوء الحرب على الأراضي السورية، بقي القاتل تحت الأرض متربصاً بفضول الأطفال، اكتشاف ما وراء السكة الحديد قد يسرق يداً، والخرابة ربما تدفن المتفجرات التي قد تبتر ساقاً، الحرب استبدلت آثار الشقاوة وندبات اللعب على أجساد الأطفال، لتترك تشوهات جسيمة، أطرافاً مبتورة، وجثثاً، وبأحسن الأحوال تترك صدمات عميقة في الذاكرة وجروحاً في القلب من خسارة رفاق الحارة.
بحسب تقرير نشره مرصد الألغام الأرضية لعام 2021، سجلت سوريا كما السنوات السابقة أكبر عدد ضحايا من مخلفات الذخائر العنقودية مقارنة مع البلدان السبعة وثلاثين الأخرى، وعلى رغم الانخفاض السنوي النسبي الذي حققته، إلا أن خسائر سوريا منذ عام 2012 سجلت أكبر عدد ضحايا، والجدير بالذكر أن سوريا من بين البلدان غير الموقّعة على معاهدة حظر الألغام.
بحسب “اليونيسيف“، وصل العدد الإجمالي للقتلى والجرحى من الأطفال، منذ بداية النزاع في سوريا، إلى حوالى 13 ألفاً. عام 2021 كانت الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب والذخائر غير المنفجرة السبب الرئيسي لفقدان 900 طفل حياتهم أو إصابتهم، وهو ما يمثل حوالى ثلث إجمالي الإصابات والوفيات المسجلة، وقد أصيب الكثير من الأطفال بإعاقات مدى الحياة.


حبس داخلي

لو أوجدنا مقياس للرعاية المنزلية، غالباً سيكون المقياس طبقياً في المرتبة الأولى، فمن البديهي أن يمتلك الأثرياء القدرة على اصطحاب أولادهم إلى المولات، والمنتجعات والشواطئ الساحلية الأكثر فخامة، إلى حيث لم يصل سلاح الرشاش، إلا أن رشاش الماء لعبة الأطفال الصيفية المفضلة، يتحركون بمرافقة سائق شخصي، يكبح فضولهم، تمنعهم حيطة الأهل من العيش بحرية ومن الاكتشاف لكنها تحميهم من الموت.
في حالات أخرى يستطيع البعض حبس أطفالهم في منازل آمنة، جدران وسقف، يحميهم من الرصاص الطائش ومن الوصول إلى شوارع غير آمنة، لكن وكلما اتجهنا نحو الطبقات المهمشة اقتصادياً وثقافياً، وحتى توعوياً، سنجد أطفالاً يركضون أحراراً بفضولهم نحو كل ما هو غير آمن في البلاد، نحو شارع معتم، أو أطراف قلعة أثرية حاصرتها داعش منذ أعوام ثم تناوبت فصائل مختلفة للسيطرة عليها. الطفل يحمل حماسته وحبه، ليكتشف العالم من بيته إلى الشارع، لكن ماذا عن أطفالٍ بات الشارع بيتهم؟


لو أن الأرض انفجرت بنا!


لدى حمزة جدران أربعة وسقف، تحاول أمه حمايته باستمرار، تحمد ربها بشكل يومي على منحه حياة جديدة، لكنها لا تتوقف عن الخوف عليه، تخاف من الشارع وما تحته، تقول “ماذا لو انفجرت الأرض به؟ سأجنّ يا الله”.
في معظم الأحياء التي باتت “آمنة” اليوم، أو عاد إليها سكانها، يدخل الأهالي ما بقي من بيوتهم وكأنهم يمشون على زجاج، يلحقون خطوات من قبلهم فهي خطوات آمنة، يخافون من كل قشة غريبة قد تنفجر، ومن الأرض بكل ما تحتها، يمشون وعيونهم علي أطفالهم تراقب حركاتهم، خطوات أقدامهم الصغيرة، وأين تحط أيديهم، يدمدمون: لو انفجرت الأرض بنا يا الله! سنجنّ يا الله!
على رغم اعتياد الموت، ولكن لن يكون خدش أطفال اعتيادياً يوماً ما، لن تصبح أطرافهم المبتورة إلّا وصمات تنطبع في ذكريات أهاليهم، عن اليوم الذي لم ترجع فيه الأم طفلها إلى حضنها لتحميه، أو الأب الذي لم يسور بيته بفولاذ مقاوم للرصاص، فينجو طفله. ربما هي لعنة الذنب الملتصقة بالأمومة والأبوة، البحث الدائم عن النجاة.

“الحمد لله ابني ذكي، يعرف أنها كانت ستنفجر في حال سحب الحلقة، لذلك لم يفعل، وأنقذنا”، تقول والدة حمزة. كغيرها من الأمهات، كانت تحلم بطفلٍ ذكي، ناجح، متفوق، ربما سيصبح عالماً عندما يكبر، أو موسيقياً أو رساماً، لكنه اليوم يعرف بسنواته السبع كيف يتعامل مع قنبلة.

03.10.2022
زمن القراءة: 4 minutes

لدى حمزة جدران أربعة وسقف، تحاول أمه حمايته باستمرار، تحمد ربها بشكل يومي على منحه حياة جديدة، لكنها لا تتوقف عن الخوف عليه، تخاف من الشارع وما تحته، تقول “ماذا لو انفجرت الأرض به؟ سأجنّ يا الله”.


“أحسن شي لما لقيت قنبلة”، هكذا يبدأ حمزة حديثه بكل حماسة، راوياً كيف أنقذ ابن السنوات السبع العمارة من الانفجار في مرة. كانت والدته في المطبخ، تقف أمام المجلى وظهرها إلى الطاولة، جلست جاراتها يتحدثن ويشربن قهوة الصباح، لتلتفت على صوت صراخهن المفاجئ. تحكي الأم: “حين قال لي حمزة أنه سيجلب قنبلة، ظننته يمزح، اعتقدت أنها ستكون لعبة أو بسكويت على شكل قنبلة، حتى رأيته أمام عيني وبيده قنبلة وسط مطبخ بيتي”.
صديق حمزة هو من أخبره عن القنبلة التي وجدها على سطح البناية، لكن والديه لم يصدقاه، ولا حتى أولاد الحارة، وحده حمزة رافق صديقه ليجد القنبلة بين أكوام الحجارة، التقطها حمزة برفق، ذهب بها إلى أمه، ليلقيها جارهم لاحقاً خلف السكة الحديدية بعيداً من الحي السكني.

“حين قال لي حمزة أنه سيجلب قنبلة، ظننته يمزح، اعتقدت أنها ستكون لعبة أو بسكويت على شكل قنبلة، حتى رأيته أمام عيني وبيده قنبلة وسط مطبخ بيتي”.


نتحايل على السماء فتخوننا الأرض



خلال سنوات الحرب السورية، تدربت الأمهات جيداً على الكذب، صوت القصف غالباً وراء الجبل، والجبل بعيد جداً، لذلك لن نتأذى، ليكبر الطفل وهو مقتنع تماماً بأن الجبل بعيد جداً ويحلم بزيارته. ما يُربي الطفل هو فضوله في المرتبة الأولى، أو ربما خوفه، ليكبر وهو يكره الجبال والأصوات العالية.
فضول الأطفال في الأحوال العادية يدفعهم لاكتشاف حواف الطاولة الحادة في غرفة المعيشة، من خلال خدوش وخربشات تترك آثار أيام الشقاوة على سيقانها، ثم الدرج من خلال كدمات الركبة، فالحارة. بعدها يتدرجون في الشجاعة والتهور، ليذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، خلف السكك الحديد، المقابر، الحديقة الذي حذرهم والدهم منها، و”الخرابة”، البيت المهجور حيث يجرب المراهقون تدخين السجائر، لتكشفهم لاحقاً رائحتهم وثيابهم المغبرة.
بعد الحرب كل ما يثير الفضول قد يكون قاتلاً، بعض الأهالي حجزوا أولادهم لسنين في المنور، أو مدخل البيت حيث لا منفذ للرصاص أو القذائف، لكن بعد هدوء الحرب على الأراضي السورية، بقي القاتل تحت الأرض متربصاً بفضول الأطفال، اكتشاف ما وراء السكة الحديد قد يسرق يداً، والخرابة ربما تدفن المتفجرات التي قد تبتر ساقاً، الحرب استبدلت آثار الشقاوة وندبات اللعب على أجساد الأطفال، لتترك تشوهات جسيمة، أطرافاً مبتورة، وجثثاً، وبأحسن الأحوال تترك صدمات عميقة في الذاكرة وجروحاً في القلب من خسارة رفاق الحارة.
بحسب تقرير نشره مرصد الألغام الأرضية لعام 2021، سجلت سوريا كما السنوات السابقة أكبر عدد ضحايا من مخلفات الذخائر العنقودية مقارنة مع البلدان السبعة وثلاثين الأخرى، وعلى رغم الانخفاض السنوي النسبي الذي حققته، إلا أن خسائر سوريا منذ عام 2012 سجلت أكبر عدد ضحايا، والجدير بالذكر أن سوريا من بين البلدان غير الموقّعة على معاهدة حظر الألغام.
بحسب “اليونيسيف“، وصل العدد الإجمالي للقتلى والجرحى من الأطفال، منذ بداية النزاع في سوريا، إلى حوالى 13 ألفاً. عام 2021 كانت الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب والذخائر غير المنفجرة السبب الرئيسي لفقدان 900 طفل حياتهم أو إصابتهم، وهو ما يمثل حوالى ثلث إجمالي الإصابات والوفيات المسجلة، وقد أصيب الكثير من الأطفال بإعاقات مدى الحياة.


حبس داخلي

لو أوجدنا مقياس للرعاية المنزلية، غالباً سيكون المقياس طبقياً في المرتبة الأولى، فمن البديهي أن يمتلك الأثرياء القدرة على اصطحاب أولادهم إلى المولات، والمنتجعات والشواطئ الساحلية الأكثر فخامة، إلى حيث لم يصل سلاح الرشاش، إلا أن رشاش الماء لعبة الأطفال الصيفية المفضلة، يتحركون بمرافقة سائق شخصي، يكبح فضولهم، تمنعهم حيطة الأهل من العيش بحرية ومن الاكتشاف لكنها تحميهم من الموت.
في حالات أخرى يستطيع البعض حبس أطفالهم في منازل آمنة، جدران وسقف، يحميهم من الرصاص الطائش ومن الوصول إلى شوارع غير آمنة، لكن وكلما اتجهنا نحو الطبقات المهمشة اقتصادياً وثقافياً، وحتى توعوياً، سنجد أطفالاً يركضون أحراراً بفضولهم نحو كل ما هو غير آمن في البلاد، نحو شارع معتم، أو أطراف قلعة أثرية حاصرتها داعش منذ أعوام ثم تناوبت فصائل مختلفة للسيطرة عليها. الطفل يحمل حماسته وحبه، ليكتشف العالم من بيته إلى الشارع، لكن ماذا عن أطفالٍ بات الشارع بيتهم؟


لو أن الأرض انفجرت بنا!


لدى حمزة جدران أربعة وسقف، تحاول أمه حمايته باستمرار، تحمد ربها بشكل يومي على منحه حياة جديدة، لكنها لا تتوقف عن الخوف عليه، تخاف من الشارع وما تحته، تقول “ماذا لو انفجرت الأرض به؟ سأجنّ يا الله”.
في معظم الأحياء التي باتت “آمنة” اليوم، أو عاد إليها سكانها، يدخل الأهالي ما بقي من بيوتهم وكأنهم يمشون على زجاج، يلحقون خطوات من قبلهم فهي خطوات آمنة، يخافون من كل قشة غريبة قد تنفجر، ومن الأرض بكل ما تحتها، يمشون وعيونهم علي أطفالهم تراقب حركاتهم، خطوات أقدامهم الصغيرة، وأين تحط أيديهم، يدمدمون: لو انفجرت الأرض بنا يا الله! سنجنّ يا الله!
على رغم اعتياد الموت، ولكن لن يكون خدش أطفال اعتيادياً يوماً ما، لن تصبح أطرافهم المبتورة إلّا وصمات تنطبع في ذكريات أهاليهم، عن اليوم الذي لم ترجع فيه الأم طفلها إلى حضنها لتحميه، أو الأب الذي لم يسور بيته بفولاذ مقاوم للرصاص، فينجو طفله. ربما هي لعنة الذنب الملتصقة بالأمومة والأبوة، البحث الدائم عن النجاة.

“الحمد لله ابني ذكي، يعرف أنها كانت ستنفجر في حال سحب الحلقة، لذلك لم يفعل، وأنقذنا”، تقول والدة حمزة. كغيرها من الأمهات، كانت تحلم بطفلٍ ذكي، ناجح، متفوق، ربما سيصبح عالماً عندما يكبر، أو موسيقياً أو رساماً، لكنه اليوم يعرف بسنواته السبع كيف يتعامل مع قنبلة.