fbpx

“حواس”… تفكيك لعلاقتنا المضطربة مع الجسد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في المعرض الكثير من الأجساد التي مهما وصَلنا حزنها أو أرقها أو لاحت لنا تعاسة خفية فيها، إنما لا بدّ أن يصلنا منها شيء من الحرية والتناغم بين الروح والجسد، بين ما يُدفن فينا كأنه دخيل، والجسد الهزيل الذي يبدو وكأنه لا يخصّنا ولا يبوح بحواسنا ومشاعرنا. جولة صغيرة هناك، كانت جولة صغيرة مع الحرية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يأتي معرض “حواس” في “مركز بيروت الفوتوغرافي” كصفعة على وجوه مجتمعات ما زالت تناضل لحراسة تلك العلاقات المضطربة مع الجسد، والتي تعني الابتعاد منه، تجنّبه، حد اعتباره مجرد أداة للجنس والتكاثر. 

معرض “حواس” قدّم الجسد في “أجساد” فوتوغرافية، متحرّكة، حيّة، حقيقية، ناطقة. كل الأجساد هنا تستطيع أن تتحدث عن نفسها، عن ضعفها، وجعها، امتنانها، الرغبة المقتولة التي قد يشي بها الثديان العاريان في صورة عمّار عبد ربه، الحزن الذي يختبئ خلف كتف مكشوفة للهواء والضوء الخفيف، والحب الذي يأتي بعد انتهاء العشاء في صورة عمر غبريال.

لماذا تصفعنا أجساد “حواس”؟ لأنها أقوى منا، أنضج، وأكثر شجاعة وانسجاماً مع روحها.

عمّار عبد ربه، باتريك باز، ميريام بولس، عمر غبريال وجيلبير حاج، 5 مصورين من أجيال وخلفيات مختلفة، من المصور الصحافي إلى المدرّس الأكاديمي إلى المواهب الشابة، عرضوا بعض صورهم من 22 إلى 24 آذار/ مارس 2023، في نشاط كان الهدف منه جمع الأموال لدعم أسبوع بيروت الفوتوغرافي الذي يعقد في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.

يعود فن التعري إلى أزمنة غابرة جداً تمتد إلى رسومات الفن الإغريقي وغيرها، وغالباً ما لعبت الشخصيات العارية دوراً في الرسم التاريخي والديني، البورتريه أو الفنون الزخرفية، التي شكلت مرجعاً لدراسة العصور وبناء مشاهدها لاحقاً. لم يكن العري وقتها شتيمة ولا “عورة”، بل كان تصويراً للحقيقة وتوثيقاً للتاريخ البشري ويوميات الشعوب وآلهتهم وأفكارهم.

إلا أن العُريّ بمختلف أنواعه، من الرسم التشكيلي إلى التصوير الفوتوغرافي وصولاً إلى النحت وحتى الكتابة الإيروتيكية، يشكّل اليوم صدمة، وكأنه طارئ، أو كائن فضائي غريب عن المجتمع، فتتم معاملته كما يُعامل كل مختلف، عبر تصنيفه في قائمة العار والعيب، وشطبه نهائياً من لائحة “المسموح به”، حتى من باب الدراسة الأكاديمية أو الفنية البحتة. فقيمة العُريّ وسواه من الفنون، بقيت حكراً على فئة محدودة في مجتمعاتنا قادرة على النظر نحو أبعد، وعلى التحرر من مقص الرقيب الديني والاجتماعي في تقييم الفن، الذي يموت حين يُسجن، ويموت أيضاً حين نعتدي على عريه وصدقه.

لا شك في أن ذلك يعكس حقيقة شعوب ما زالت تعاني من الكبت، ومعاداة الجسد والسعي إلى معاقبته على أي تجرؤ أو خطوة خارج الصندوق.

يقول المصور الصحافي عمّار عبد ربه والذي عرض 4 صور في “حواس”: “نتعامل مع الجسد وكأن لا جسد لنا، فعلى سبيل المثال، في معارض كثيرة لي يجزم عدد كبير من الزوار بأن الذين صوّرتهم هم أجانب وليسوا عرباً، فالعرب برأيهم لا يعرضون أجسادهم وكأن لا جسد لهم. من هنا يتم حصر صور التعري بالأجانب وحدهم”.

وبعيداً من المعرض، يقول عبد ربه، “هناك عدد كبير من الأسر والعائلات التي تنتفض أمام التلفزيون في حال مرّ مشهد قبلة أو عري، ورآه الأطفال والمراهقون، بينما هذه المشاهد وأخرى عنيفة جداً عن الحروب والقتل والجرائم، منتشرة على الإنترنت ومتاحة للجميع، وتمر. لكن كثيرين يتجاهلون ذلك، ويواصلون ممارسة رقابة عنيفة على كل ما له علاقة بالجسد”.

بسبب الكبت والجهل والغموض الذي يحيط بهذا النوع من التصوير الفني، “يعتقد عدد كبير من الزوار أن أي شيء له علاقة بالعري هو حتماً علاقة جنسية. فيظن كثر منهم أن الصورة انتهت بعلاقة جنسية بين المصوّر والعارض/ العارضة. وبذلك نزيل عن هذه الصور الطابع المهني والفني، لنطلق عليها طابع الابتذال والرخص والتكهنات التي في غير مكانها. ناهيك بكمية الشتائم التي تأتي عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي دائماً ما تهشّم البعد الفني، مفرغة كبت أصحابها وجهلهم”.

يأسف عبد ربه لهذا الوضع، ثم يستدرك “إنما أظل أطمح لأن تنجح معارض كهذه في تخفيف حجم التابوهات وتسمح بمعرفة أكبر لهذا النوع من الفن”. 

“المجتمع العربي، بغالبيته المسلمة تحديداً، لطالما اعتبر أن الصورة أو الرسم أو حتى المنحوتات (الأصنام) ممنوعة وحرام، وقد تعرض الفنانون للكثير من التضييق. لذلك رأينا على مر التاريخ، أن المصورين البارزين في منطقتنا كانوا غالباً من الأرمن، أي غير العرب، إذ كان يفضّل أن يكون الفنان خطاطاً، لا رساماً مثلاً”.

ليس “العري” جديداً، فالآثار الإنسانية تؤكد وجود جداريات تصور أجساداً عارية في مصر والهند واليابان وغيرها. ثم بلور الإغريق هذا الفن أكثر وصوّروا آلهتهم، المذكرة منها والمؤنثة، كرمز للطهر والمثالية والجمال والخلق… 

تعود تلك الرسوم إلى ما قبل الميلاد، يعني ذلك أن الحرية تتناقص، وأن شيئاً ما في علاقة الإنسان بجسده تحوّل إلى فراغ، لم يملأه إلا التخلّف وسوء النيات.

“هناك حضارات أفريقية وأوروبية وفي أماكن عدة، العري فيها لا علاقة له بالجنس، بل هو طبيعي أو أسلوب حياة، أو طريقة للتواصل مع الطبيعة، لكن عندنا غالباً ما يُناقش العري من باب التابو والخروج عن التقاليد”، يضيف عبد ربه.

في المعرض الكثير من الأجساد التي مهما وصَلنا حزنها أو أرقها أو لاحت لنا تعاسة خفية فيها، إنما لا بدّ أن يصلنا منها شيء من الحرية والتناغم بين الروح والجسد، بين ما يُدفن فينا كأنه دخيل، والجسد الهزيل الذي يبدو وكأنه لا يخصّنا ولا يبوح بحواسنا ومشاعرنا. جولة صغيرة هناك، كانت جولة صغيرة مع الحرية…

28.03.2023
زمن القراءة: 4 minutes

في المعرض الكثير من الأجساد التي مهما وصَلنا حزنها أو أرقها أو لاحت لنا تعاسة خفية فيها، إنما لا بدّ أن يصلنا منها شيء من الحرية والتناغم بين الروح والجسد، بين ما يُدفن فينا كأنه دخيل، والجسد الهزيل الذي يبدو وكأنه لا يخصّنا ولا يبوح بحواسنا ومشاعرنا. جولة صغيرة هناك، كانت جولة صغيرة مع الحرية.

يأتي معرض “حواس” في “مركز بيروت الفوتوغرافي” كصفعة على وجوه مجتمعات ما زالت تناضل لحراسة تلك العلاقات المضطربة مع الجسد، والتي تعني الابتعاد منه، تجنّبه، حد اعتباره مجرد أداة للجنس والتكاثر. 

معرض “حواس” قدّم الجسد في “أجساد” فوتوغرافية، متحرّكة، حيّة، حقيقية، ناطقة. كل الأجساد هنا تستطيع أن تتحدث عن نفسها، عن ضعفها، وجعها، امتنانها، الرغبة المقتولة التي قد يشي بها الثديان العاريان في صورة عمّار عبد ربه، الحزن الذي يختبئ خلف كتف مكشوفة للهواء والضوء الخفيف، والحب الذي يأتي بعد انتهاء العشاء في صورة عمر غبريال.

لماذا تصفعنا أجساد “حواس”؟ لأنها أقوى منا، أنضج، وأكثر شجاعة وانسجاماً مع روحها.

عمّار عبد ربه، باتريك باز، ميريام بولس، عمر غبريال وجيلبير حاج، 5 مصورين من أجيال وخلفيات مختلفة، من المصور الصحافي إلى المدرّس الأكاديمي إلى المواهب الشابة، عرضوا بعض صورهم من 22 إلى 24 آذار/ مارس 2023، في نشاط كان الهدف منه جمع الأموال لدعم أسبوع بيروت الفوتوغرافي الذي يعقد في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.

يعود فن التعري إلى أزمنة غابرة جداً تمتد إلى رسومات الفن الإغريقي وغيرها، وغالباً ما لعبت الشخصيات العارية دوراً في الرسم التاريخي والديني، البورتريه أو الفنون الزخرفية، التي شكلت مرجعاً لدراسة العصور وبناء مشاهدها لاحقاً. لم يكن العري وقتها شتيمة ولا “عورة”، بل كان تصويراً للحقيقة وتوثيقاً للتاريخ البشري ويوميات الشعوب وآلهتهم وأفكارهم.

إلا أن العُريّ بمختلف أنواعه، من الرسم التشكيلي إلى التصوير الفوتوغرافي وصولاً إلى النحت وحتى الكتابة الإيروتيكية، يشكّل اليوم صدمة، وكأنه طارئ، أو كائن فضائي غريب عن المجتمع، فتتم معاملته كما يُعامل كل مختلف، عبر تصنيفه في قائمة العار والعيب، وشطبه نهائياً من لائحة “المسموح به”، حتى من باب الدراسة الأكاديمية أو الفنية البحتة. فقيمة العُريّ وسواه من الفنون، بقيت حكراً على فئة محدودة في مجتمعاتنا قادرة على النظر نحو أبعد، وعلى التحرر من مقص الرقيب الديني والاجتماعي في تقييم الفن، الذي يموت حين يُسجن، ويموت أيضاً حين نعتدي على عريه وصدقه.

لا شك في أن ذلك يعكس حقيقة شعوب ما زالت تعاني من الكبت، ومعاداة الجسد والسعي إلى معاقبته على أي تجرؤ أو خطوة خارج الصندوق.

يقول المصور الصحافي عمّار عبد ربه والذي عرض 4 صور في “حواس”: “نتعامل مع الجسد وكأن لا جسد لنا، فعلى سبيل المثال، في معارض كثيرة لي يجزم عدد كبير من الزوار بأن الذين صوّرتهم هم أجانب وليسوا عرباً، فالعرب برأيهم لا يعرضون أجسادهم وكأن لا جسد لهم. من هنا يتم حصر صور التعري بالأجانب وحدهم”.

وبعيداً من المعرض، يقول عبد ربه، “هناك عدد كبير من الأسر والعائلات التي تنتفض أمام التلفزيون في حال مرّ مشهد قبلة أو عري، ورآه الأطفال والمراهقون، بينما هذه المشاهد وأخرى عنيفة جداً عن الحروب والقتل والجرائم، منتشرة على الإنترنت ومتاحة للجميع، وتمر. لكن كثيرين يتجاهلون ذلك، ويواصلون ممارسة رقابة عنيفة على كل ما له علاقة بالجسد”.

بسبب الكبت والجهل والغموض الذي يحيط بهذا النوع من التصوير الفني، “يعتقد عدد كبير من الزوار أن أي شيء له علاقة بالعري هو حتماً علاقة جنسية. فيظن كثر منهم أن الصورة انتهت بعلاقة جنسية بين المصوّر والعارض/ العارضة. وبذلك نزيل عن هذه الصور الطابع المهني والفني، لنطلق عليها طابع الابتذال والرخص والتكهنات التي في غير مكانها. ناهيك بكمية الشتائم التي تأتي عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، والتي دائماً ما تهشّم البعد الفني، مفرغة كبت أصحابها وجهلهم”.

يأسف عبد ربه لهذا الوضع، ثم يستدرك “إنما أظل أطمح لأن تنجح معارض كهذه في تخفيف حجم التابوهات وتسمح بمعرفة أكبر لهذا النوع من الفن”. 

“المجتمع العربي، بغالبيته المسلمة تحديداً، لطالما اعتبر أن الصورة أو الرسم أو حتى المنحوتات (الأصنام) ممنوعة وحرام، وقد تعرض الفنانون للكثير من التضييق. لذلك رأينا على مر التاريخ، أن المصورين البارزين في منطقتنا كانوا غالباً من الأرمن، أي غير العرب، إذ كان يفضّل أن يكون الفنان خطاطاً، لا رساماً مثلاً”.

ليس “العري” جديداً، فالآثار الإنسانية تؤكد وجود جداريات تصور أجساداً عارية في مصر والهند واليابان وغيرها. ثم بلور الإغريق هذا الفن أكثر وصوّروا آلهتهم، المذكرة منها والمؤنثة، كرمز للطهر والمثالية والجمال والخلق… 

تعود تلك الرسوم إلى ما قبل الميلاد، يعني ذلك أن الحرية تتناقص، وأن شيئاً ما في علاقة الإنسان بجسده تحوّل إلى فراغ، لم يملأه إلا التخلّف وسوء النيات.

“هناك حضارات أفريقية وأوروبية وفي أماكن عدة، العري فيها لا علاقة له بالجنس، بل هو طبيعي أو أسلوب حياة، أو طريقة للتواصل مع الطبيعة، لكن عندنا غالباً ما يُناقش العري من باب التابو والخروج عن التقاليد”، يضيف عبد ربه.

في المعرض الكثير من الأجساد التي مهما وصَلنا حزنها أو أرقها أو لاحت لنا تعاسة خفية فيها، إنما لا بدّ أن يصلنا منها شيء من الحرية والتناغم بين الروح والجسد، بين ما يُدفن فينا كأنه دخيل، والجسد الهزيل الذي يبدو وكأنه لا يخصّنا ولا يبوح بحواسنا ومشاعرنا. جولة صغيرة هناك، كانت جولة صغيرة مع الحرية…

28.03.2023
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية