fbpx

“حي التنك” في طرابلس: الحياة على ضفاف نهر من “المجارير”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعيش أهالي حي التنك منسيين على ضفاف نهر موسمي من المجارير، وهو نهر ينشأ من مياه الثلوج الذائبة الممزوجة بدماء الذبائح ومياه المجارير في منطقة الفوار، معيقةً بذلك حركة السيارات، وحياة البيوت المترامية على أطرافه شتاءً، ومهيأةً بيئة مناسبةً للحشرات والأفاعي صيفاً. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تعيش حوالى 700 عائلة في حي التنك في البداوي، طرابلس، شمال لبنان، حول نهر من “المجارير”، يرمي أضراره البيئية والصحية على كاهل السكان الفقراء أصلاً، والذين تشملهم الدولة اللبنانية بسياسة التجاهل والإهمال.
وإذ تستقبلك الحشرات والقوارض والروائح الكريهة، على بعد أمتار من النهر الموسمي، فإن ذلك يتحول إلى أمراض تنفسية وجلدية خطيرة بالنسبة إلى الأهالي الذين لا تمكنهم النجاة، لغياب الموارد والصعوبات الاقتصادية.
يوثّق هذا التحقيق، معاناة هذه العائلات التي تعيش في منطقة البداوي (يختلف حي التنك في البداوي عن ذاك الذي في منطقة الميناء)، وهي محرومة من الحد الأدنى من الحقوق، وتزيد الأمر سوءاً البيئة الملوثة التي تهدد سلامة كثيرين. وقد اعتمد معدو التحقيق على فحص عينة من مياه النهر الموسمي، ليبيّن التحليل المخبري نسباً عالية من التلوث البرازي الخطير.

بدأت القصة مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية (1975) أو ما يُعرف بحرب السنتين التي شهدت مواجهات بين أطراف متنازعة، ما أدى إلى نزوح عائلات كثيرة من الضنية وعكار إلى أراض يملكها شخص من عائلة أبو جودة (تعذّر التأكد من اسمه الأول، ولكن الجميع يعرفه بأبو جودة) في البداوي. 

تُعد أراضي أبو جودة مشاعاً الآن. كانت الأرض سابقاً ملكاً للسلطنة العثمانية، ثم وهبتها لدار الإفتاء التي قررت بيعها في مطلع الخمسينات، وقد اشتراها أبو جودة عن طريق آل المقدم (كونه كان مسيحياً ودار الإفتاء لا تبيع المسيحيين)، وبعد موته صارت الأرض مُلكاً للبنك الفرنسي اللبناني…

نزح الأهالي إليها ومع مرور الوقت ازدادت الكثافة السكانية في هذه الأراضي، حتى باتت نحو تأوي 700 عائلة وتتوسع عمرانياً وترتفع فيها نسبة الوافدين والولادات. 

“حي الشوك في أبو سمرا ثلاثة أرباعه غير شرعي، الشلفة أيضاً، وكذلك حي الغرباء في الزاهرية، نصف العيرونية بيوت غير شرعية، كلها بناء عشوائي وبالرغم من ذلك حصلت طقها على الإسفلت، أما نحن فبدون تزفيت، ولا تُجمع نفاياتنا إلا حين يحلو لهم… في المختصر هم يقتلونا على البطيء”.

في المقابل، تحرم الدولة اللبنانية وبلدية البداوي ضمناً، السكان من أبسط حقوقهم (إمدادات صرف صحي، تزفيت طرقات، إمدادات كهرباء…) بذريعة أنهم سكان غير شرعيين، وغير مرحب بهم، وهي حال عدد من الأحياء والعشوائيات في طرابلس التي تمددت على مر السنوات، من دون أن تجد الدولة اللبنانية حلاً لهؤلاء، سوى حرمانهم أبسط حقوقهم، وكأنهم يواجهون قصاصاً طويلاً وقتلاً بطيئاً، لا مفر منه، بسبب انتشار الفقر والبطالة إلى صعوبات التعلم.

يقول أحد أهالي الحي تعقيباً على ذلك: “منطقة الشوك في أبو سمرا معظمها منها شرعي، الشلفة غير شرعية، الغرباء في الزاهرية غير شرعية، نص العيرونية منها شرعية كلا بناء عشوائي” معبراً عن مدى استيائه من البلدية الذي لا تلتفت إلى السكان كونهم لا يُشكلون ورقةً رابحة أثناء الانتخابات، إذ إن معظمهم من عكار والضنية، ولا ينتخبون في البداوي. 

وبذلك يعيش أهالي حي التنك منسيين على ضفاف نهر موسمي من المجارير، وهو نهر ينشأ من مياه الثلوج الذائبة الممزوجة بدماء الذبائح ومياه المجارير في منطقة الفوار، معيقةً بذلك حركة السيارات، وحياة البيوت المترامية على أطرافه شتاءً، ومهيأةً بيئة مناسبةً للحشرات والأفاعي صيفاً. 

“عدت لأنني لا أستطيع دفع الإيجار!”

تقول ريما وهي من سكان حي التنك، “يقع النهر خلف بيتي، بكل تلوّثه وقرفه، الآن أنا مصابة بسرطان الرئة، أجريت علاجاتي كاملة ثم أجريت عملية استئصال للأورام، ومن حينها وأنا مضطرة لإجراء فحوصات كل ثلاثة أشهر. كما أن حفيدي ولد مع التهابات في رئتيه. خرجت من الحي بسبب الروائح وبسبب الألم الذي كان في صدري، وفق إرشادات طبيبي الذي أصر على أن علي السكن في مكان آخر. ذهبت إلى أبو سمرا حتى تحسن حالي ثم عدت حيث كنت، فلا قدرة لي على الاستئجار”. 

تضيف ريما: “أقل شي بدنا نتنفس هوا نظيف، أخاف على الغسيل بعد نشره فلا ألبسه، لأن الهواء مليء بالجراثيم والبكتيريا، وقد قامت بعض الجمعيات بإمداد القساطر وذلك من خلال هدم القليل من أسفل بيتنا، لكن الأمر لم يُفلح. نحن بشر وبالرغم من ذلك ترمي علينا تلك البنايات الشاهقة أوبئتها. الله يستر من أن يكون هناك حالات سرطان كثيرة تتفشى بصمت، فالسكان هنا فقراء وعاجزون عن تحمّل كلفة الطبابة أو استشارة طبيب”.

تتنهد قليلاً ثم تتابع: “تقول لي جارتي أنها تشعر بأعراض شبيهة بما مررت به، لكنني أخاف أن أقول لها ذلك، وأنصحها بأن تراجع طبيباً مختصاً”.

“بيتي محاصرٌ بمياه المجارير من جهة، وبغبار الطريق غير المعبد من جهة أخرى، كما أن النهر عبارة عن مستنقعات وحفر مملوءة بالحشرات والأفاعي… نحن هنا منذ أكثر من عشرين سنة لكنهم لا يساعدوننا لأننا لا ننتخبهم!”.

إقرأوا أيضاً:

الخطأ ذاته… على مرّ السنوات والمشاريع

يلخص سامي معاناة أهل الحي قائلاً: “نواجه مشكلات كثيرة كمياه الصرف الصحي، والتلوث والحشرات، ما يؤدي أمراض خطيرة… نحن ننتمي إلى منطقة البداوي بالاسم فقط، نعيش هنا منذ أكثر من ثلاثين سنة، لكن لا أحد يهتم لأبسط حقوقنا… وقد حاولنا أكثر من مرة أن نقدم طلباً للبلدية لتعبيد الطريق على حسابنا ولكنها رفضت… أما بالنسبة للصرف الصحي، فلا أكثر من المشاريع الموسمية، التي تذوب مع أول شتوة”. ويتابع: “لا يمكن تنفيذ مشاريع الصرف الصحي أو الطرق من دون موافقة البلدية، وبالطبع يحتاج المشروع إلى دراسة… ولكن هل يُعقل أن يقع المهندسون والموظفون في الخطأ نفسه كل مرة؟ المرء يتعلم من السنة الأولى، الثانية، ما زلنا منذ ثلاثين سنة عالقين في الموضوع ذاته… في كل سنة نختنق من الروائح، ويقتلنا البرغش، نعاني من الربو والسرطان، والكثير من الأمراض الجلدية، كما أننا نضطر إلى ترك بيوتنا، وتكبد مصاريف كبيرة لحل  الأمر… أنا متأكد من أن لكل مشروع مرحلة تقييم، أين التقييم؟”.

يقول أحد الأهالي المتضررين مقارناً حي التنك بغيره من الأحياء العشوائية: “حي الشوك في أبو سمرا ثلاثة أرباعه غير شرعي، الشلفة أيضاً، وكذلك حي الغرباء في الزاهرية، نصف العيرونية بيوت غير شرعية، كلها بناء عشوائي وبالرغم من ذلك حصلت طقها على الإسفلت، أما نحن فبدون تزفيت، ولا تُجمع نفاياتنا إلا حين يحلو لهم… في المختصر هم يقتلونا على البطيء”.

ثم يضيف: “منذ فترة ليست ببعيدة نزلنا إلى رئيس البلدية قلنا له عما نعانيه فقال، اللي مش عاجبه يفل هي الأرض غير شرعية وقعدتكن غير شرعية”.

عيّنة الموت! 

أخذ فريق التحقيق عينة من مياه النهر إلى مختبر الميكروبيولوجيا للصحة والبيئة التابع للمعهد العالي للعلوم والتكنولوجيا والصحة العامة في الجامعة اللبنانية، لتحليلها، وكانت النتيجة نسبة تلوث خطيرة. في هذا الإطار، يوضح الدكتور منذر حمزة،

استاذ الميكروبيولوجيا الطبيه والغذائيه ورئيس مختبر ميكروبيولوجيا الصحة والبيئة التابع للمعهد العالي للدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا وكلية الصحة العامة في الجامعة اللبنانية، التالي: “بعد البحث من خلال الدالات التقليدية (البكتيريا الكولونية سالبة الغرام، البكتيريا الموجبة الغرام، السباحية، والبكتيريا الكروية إيجابية الغرام) تبيّن أن المياه تحتوي على مستوى عال جداً من التلوث البرازي، مع وجود ملوثات كهذه يشكل خطراً مباشراً على الصحة العامة، بالتالي فهذه العينة التي تم تحليلها غير صالحة على الإطلاق لأي نوع من الاستعمالات لدى الإنسان، لا بل في حال رشحت هذه المياه بطريقةٍ ما إلى مياه الشفة بسبب رشح أو لاهتراء القساطل التي تنقل المياه، فقد تسبب أمراضاً جرثومة، طفيلية، أو بكتيرية”.

وبعد إجراء التحليل عبر الزرع العالم للمياه (أسلوب في التحليل يكشف عن مكونات المياه)، تبيّن التالي:

المواد التي تم البحث من خلالهاالنتائج
الدالات القولونية6^10 الوحدة المكونة للمستعمرة/مل
الدالات المخمرة لسكر اللاكتوز  المتحملة للحرارة5^10 الوحدة المكونة للمستعمرة/مل
البكتيريا الكرمية السبحية الكولونية5^10 الوحدة المكوّنة للمستعمرة/مل

وفي نهاية التحليل تبيّن وجود تلوّث برازي كبير في المياه، ما يشكل خطراً على صحة الإنسان.

إقرأوا أيضاً:

ليس نهراً!

أطلع فريق التحقيق مدير برنامج التغيّر المناخي والبيئة الدكتور نديم فرج الله، على التحاليل المتعلّقة بنهر حي التنك، إلى بعض الفيديوات التي توضح طبيعة حياة أهالي حي التنك وكمّ النفايات المنتشرة، ففوجئ بالفعل، “لقد قلت لي إنه نهر لكن التحليل المخبري يدل على أنه مجرور، وللدقة هذا ليس نهراً وإنما مجرى مياه شتوي تم شبك مجارير البيوت عليه، وبالطبع أنا لا أدل أو ألوم أحداً لكن يبدو أنه غير شرعي… وإن كان يُسمى نهراً موسمياً إلا أن مياهه لا تجف صيفاً وتزداد شتاء، كل ما في الأمر أنه يكون مجرد مجرور في الصيف، ويختلط هذا المجرور بمياه الأمطار شتاء”.

ويضيف فرج الله: “من الواضح أن هناك الكثير من النفايات المنزلية، من ضمنها النفايات العضوية التي تتحلل مع الوقت، والنفايات البلاستيكية غير القابلة للتحلل السريع، والنفايات عموماً تؤدي إلى نسب عالية من البكتيريا، فإذا لعب الأولاد في الكرة مثلاً ثم وقعت على الأرض ثم أعادوها ووضعوا يدهم في فمهم فهناك احتمال كبير بأن يصابوا بأمراض بكتيرية”.

ويردف: “دائما ما تأتي مع النفايات والمجارير، القوارض (الجرذان، والفئران) وهذه القوارض في ذاتها ناقلة للأمراض بسبب البراغيث التي تكون فيها، حتى إنها قد تؤدي إلى إصابات خطيرة في حال قامت بعضّ أحد الأطفال، ثم يأتي مع القوارض البرغش الذي يكون ناقلاً إضافياً للأمراض، وأخيراً لا ننسى الذباب الذي لا يعد مضراً بالصحة أو البيئة، بقدر ما أنه مزعج”. 

لننجو بأقل الأضرار

يقترح الدكتور نديم بعض الحلول، “لا أعرف ماهية المصانع التي ترمي نفاياتها في هذا النهر، ولكن بإمكاننا معرفة ذلك من خلال النظر إلى المخلفات الموجودة في حوض النهر أو الساقية، وأظن أنه من الممكن أن يطلب أهالي الحي من الصناعيين أن يوقفوا رمي مخلفاتهم الصلبة (على الأقل)، كما على الأهالي أن يتعاونوا على تنظيف الأراضي من النفايات الصلبة، وأن يتعاونوا مع جمعيات ممولة من الجهات المانحة لتدير القساطل بعيداً من البيوت، أو أن يغلقوا قساطل المياه بطريقةٍ ما، كما يمكنهم طلب المساعدات لرفع حافة الساقية كي لا تصل مياهها إلى الطرق، ولكن للأسف كل هذه ليست حلولاً، إنما أساليب نتفادى من خلالها تعرّض الناس للملوثات… علينا أن نتوجه لجمعيات، لرئيس البلدية، غرفة التجارة والصناعة، لنحافظ على صحة الناس والصناعة في آن واحد”.

حاول فريق التحقيق الاتصال أكثر من مرة برئيس بلدية البداوي حسن غمراوي، لسؤاله عن ملف حي التنك وتحديداً التلوّث الذي يسببه النهر الموسمي، لكنه كان تارة يؤجل الحديث بحجة انشغاله باستقبال وفد أجنبي، وطوراً لا يرد.

هذا فيما تحاول ريما تأمين تكاليف علاجها من سرطان الرئة، ويواجه كثيرون في حي التنك من خطر الإصابة بأمراض جلدية وتنفسية.

يُنشر هذا التحقيق بالتعاون مع “الجمعية اللبنانية لدعم البحث العلمي” وبإشراف الصحافية باسكال صوما

إقرأوا أيضاً:

يعيش أهالي حي التنك منسيين على ضفاف نهر موسمي من المجارير، وهو نهر ينشأ من مياه الثلوج الذائبة الممزوجة بدماء الذبائح ومياه المجارير في منطقة الفوار، معيقةً بذلك حركة السيارات، وحياة البيوت المترامية على أطرافه شتاءً، ومهيأةً بيئة مناسبةً للحشرات والأفاعي صيفاً. 

تعيش حوالى 700 عائلة في حي التنك في البداوي، طرابلس، شمال لبنان، حول نهر من “المجارير”، يرمي أضراره البيئية والصحية على كاهل السكان الفقراء أصلاً، والذين تشملهم الدولة اللبنانية بسياسة التجاهل والإهمال.
وإذ تستقبلك الحشرات والقوارض والروائح الكريهة، على بعد أمتار من النهر الموسمي، فإن ذلك يتحول إلى أمراض تنفسية وجلدية خطيرة بالنسبة إلى الأهالي الذين لا تمكنهم النجاة، لغياب الموارد والصعوبات الاقتصادية.
يوثّق هذا التحقيق، معاناة هذه العائلات التي تعيش في منطقة البداوي (يختلف حي التنك في البداوي عن ذاك الذي في منطقة الميناء)، وهي محرومة من الحد الأدنى من الحقوق، وتزيد الأمر سوءاً البيئة الملوثة التي تهدد سلامة كثيرين. وقد اعتمد معدو التحقيق على فحص عينة من مياه النهر الموسمي، ليبيّن التحليل المخبري نسباً عالية من التلوث البرازي الخطير.

بدأت القصة مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية (1975) أو ما يُعرف بحرب السنتين التي شهدت مواجهات بين أطراف متنازعة، ما أدى إلى نزوح عائلات كثيرة من الضنية وعكار إلى أراض يملكها شخص من عائلة أبو جودة (تعذّر التأكد من اسمه الأول، ولكن الجميع يعرفه بأبو جودة) في البداوي. 

تُعد أراضي أبو جودة مشاعاً الآن. كانت الأرض سابقاً ملكاً للسلطنة العثمانية، ثم وهبتها لدار الإفتاء التي قررت بيعها في مطلع الخمسينات، وقد اشتراها أبو جودة عن طريق آل المقدم (كونه كان مسيحياً ودار الإفتاء لا تبيع المسيحيين)، وبعد موته صارت الأرض مُلكاً للبنك الفرنسي اللبناني…

نزح الأهالي إليها ومع مرور الوقت ازدادت الكثافة السكانية في هذه الأراضي، حتى باتت نحو تأوي 700 عائلة وتتوسع عمرانياً وترتفع فيها نسبة الوافدين والولادات. 

“حي الشوك في أبو سمرا ثلاثة أرباعه غير شرعي، الشلفة أيضاً، وكذلك حي الغرباء في الزاهرية، نصف العيرونية بيوت غير شرعية، كلها بناء عشوائي وبالرغم من ذلك حصلت طقها على الإسفلت، أما نحن فبدون تزفيت، ولا تُجمع نفاياتنا إلا حين يحلو لهم… في المختصر هم يقتلونا على البطيء”.

في المقابل، تحرم الدولة اللبنانية وبلدية البداوي ضمناً، السكان من أبسط حقوقهم (إمدادات صرف صحي، تزفيت طرقات، إمدادات كهرباء…) بذريعة أنهم سكان غير شرعيين، وغير مرحب بهم، وهي حال عدد من الأحياء والعشوائيات في طرابلس التي تمددت على مر السنوات، من دون أن تجد الدولة اللبنانية حلاً لهؤلاء، سوى حرمانهم أبسط حقوقهم، وكأنهم يواجهون قصاصاً طويلاً وقتلاً بطيئاً، لا مفر منه، بسبب انتشار الفقر والبطالة إلى صعوبات التعلم.

يقول أحد أهالي الحي تعقيباً على ذلك: “منطقة الشوك في أبو سمرا معظمها منها شرعي، الشلفة غير شرعية، الغرباء في الزاهرية غير شرعية، نص العيرونية منها شرعية كلا بناء عشوائي” معبراً عن مدى استيائه من البلدية الذي لا تلتفت إلى السكان كونهم لا يُشكلون ورقةً رابحة أثناء الانتخابات، إذ إن معظمهم من عكار والضنية، ولا ينتخبون في البداوي. 

وبذلك يعيش أهالي حي التنك منسيين على ضفاف نهر موسمي من المجارير، وهو نهر ينشأ من مياه الثلوج الذائبة الممزوجة بدماء الذبائح ومياه المجارير في منطقة الفوار، معيقةً بذلك حركة السيارات، وحياة البيوت المترامية على أطرافه شتاءً، ومهيأةً بيئة مناسبةً للحشرات والأفاعي صيفاً. 

“عدت لأنني لا أستطيع دفع الإيجار!”

تقول ريما وهي من سكان حي التنك، “يقع النهر خلف بيتي، بكل تلوّثه وقرفه، الآن أنا مصابة بسرطان الرئة، أجريت علاجاتي كاملة ثم أجريت عملية استئصال للأورام، ومن حينها وأنا مضطرة لإجراء فحوصات كل ثلاثة أشهر. كما أن حفيدي ولد مع التهابات في رئتيه. خرجت من الحي بسبب الروائح وبسبب الألم الذي كان في صدري، وفق إرشادات طبيبي الذي أصر على أن علي السكن في مكان آخر. ذهبت إلى أبو سمرا حتى تحسن حالي ثم عدت حيث كنت، فلا قدرة لي على الاستئجار”. 

تضيف ريما: “أقل شي بدنا نتنفس هوا نظيف، أخاف على الغسيل بعد نشره فلا ألبسه، لأن الهواء مليء بالجراثيم والبكتيريا، وقد قامت بعض الجمعيات بإمداد القساطر وذلك من خلال هدم القليل من أسفل بيتنا، لكن الأمر لم يُفلح. نحن بشر وبالرغم من ذلك ترمي علينا تلك البنايات الشاهقة أوبئتها. الله يستر من أن يكون هناك حالات سرطان كثيرة تتفشى بصمت، فالسكان هنا فقراء وعاجزون عن تحمّل كلفة الطبابة أو استشارة طبيب”.

تتنهد قليلاً ثم تتابع: “تقول لي جارتي أنها تشعر بأعراض شبيهة بما مررت به، لكنني أخاف أن أقول لها ذلك، وأنصحها بأن تراجع طبيباً مختصاً”.

“بيتي محاصرٌ بمياه المجارير من جهة، وبغبار الطريق غير المعبد من جهة أخرى، كما أن النهر عبارة عن مستنقعات وحفر مملوءة بالحشرات والأفاعي… نحن هنا منذ أكثر من عشرين سنة لكنهم لا يساعدوننا لأننا لا ننتخبهم!”.

إقرأوا أيضاً:

الخطأ ذاته… على مرّ السنوات والمشاريع

يلخص سامي معاناة أهل الحي قائلاً: “نواجه مشكلات كثيرة كمياه الصرف الصحي، والتلوث والحشرات، ما يؤدي أمراض خطيرة… نحن ننتمي إلى منطقة البداوي بالاسم فقط، نعيش هنا منذ أكثر من ثلاثين سنة، لكن لا أحد يهتم لأبسط حقوقنا… وقد حاولنا أكثر من مرة أن نقدم طلباً للبلدية لتعبيد الطريق على حسابنا ولكنها رفضت… أما بالنسبة للصرف الصحي، فلا أكثر من المشاريع الموسمية، التي تذوب مع أول شتوة”. ويتابع: “لا يمكن تنفيذ مشاريع الصرف الصحي أو الطرق من دون موافقة البلدية، وبالطبع يحتاج المشروع إلى دراسة… ولكن هل يُعقل أن يقع المهندسون والموظفون في الخطأ نفسه كل مرة؟ المرء يتعلم من السنة الأولى، الثانية، ما زلنا منذ ثلاثين سنة عالقين في الموضوع ذاته… في كل سنة نختنق من الروائح، ويقتلنا البرغش، نعاني من الربو والسرطان، والكثير من الأمراض الجلدية، كما أننا نضطر إلى ترك بيوتنا، وتكبد مصاريف كبيرة لحل  الأمر… أنا متأكد من أن لكل مشروع مرحلة تقييم، أين التقييم؟”.

يقول أحد الأهالي المتضررين مقارناً حي التنك بغيره من الأحياء العشوائية: “حي الشوك في أبو سمرا ثلاثة أرباعه غير شرعي، الشلفة أيضاً، وكذلك حي الغرباء في الزاهرية، نصف العيرونية بيوت غير شرعية، كلها بناء عشوائي وبالرغم من ذلك حصلت طقها على الإسفلت، أما نحن فبدون تزفيت، ولا تُجمع نفاياتنا إلا حين يحلو لهم… في المختصر هم يقتلونا على البطيء”.

ثم يضيف: “منذ فترة ليست ببعيدة نزلنا إلى رئيس البلدية قلنا له عما نعانيه فقال، اللي مش عاجبه يفل هي الأرض غير شرعية وقعدتكن غير شرعية”.

عيّنة الموت! 

أخذ فريق التحقيق عينة من مياه النهر إلى مختبر الميكروبيولوجيا للصحة والبيئة التابع للمعهد العالي للعلوم والتكنولوجيا والصحة العامة في الجامعة اللبنانية، لتحليلها، وكانت النتيجة نسبة تلوث خطيرة. في هذا الإطار، يوضح الدكتور منذر حمزة،

استاذ الميكروبيولوجيا الطبيه والغذائيه ورئيس مختبر ميكروبيولوجيا الصحة والبيئة التابع للمعهد العالي للدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا وكلية الصحة العامة في الجامعة اللبنانية، التالي: “بعد البحث من خلال الدالات التقليدية (البكتيريا الكولونية سالبة الغرام، البكتيريا الموجبة الغرام، السباحية، والبكتيريا الكروية إيجابية الغرام) تبيّن أن المياه تحتوي على مستوى عال جداً من التلوث البرازي، مع وجود ملوثات كهذه يشكل خطراً مباشراً على الصحة العامة، بالتالي فهذه العينة التي تم تحليلها غير صالحة على الإطلاق لأي نوع من الاستعمالات لدى الإنسان، لا بل في حال رشحت هذه المياه بطريقةٍ ما إلى مياه الشفة بسبب رشح أو لاهتراء القساطل التي تنقل المياه، فقد تسبب أمراضاً جرثومة، طفيلية، أو بكتيرية”.

وبعد إجراء التحليل عبر الزرع العالم للمياه (أسلوب في التحليل يكشف عن مكونات المياه)، تبيّن التالي:

المواد التي تم البحث من خلالهاالنتائج
الدالات القولونية6^10 الوحدة المكونة للمستعمرة/مل
الدالات المخمرة لسكر اللاكتوز  المتحملة للحرارة5^10 الوحدة المكونة للمستعمرة/مل
البكتيريا الكرمية السبحية الكولونية5^10 الوحدة المكوّنة للمستعمرة/مل

وفي نهاية التحليل تبيّن وجود تلوّث برازي كبير في المياه، ما يشكل خطراً على صحة الإنسان.

إقرأوا أيضاً:

ليس نهراً!

أطلع فريق التحقيق مدير برنامج التغيّر المناخي والبيئة الدكتور نديم فرج الله، على التحاليل المتعلّقة بنهر حي التنك، إلى بعض الفيديوات التي توضح طبيعة حياة أهالي حي التنك وكمّ النفايات المنتشرة، ففوجئ بالفعل، “لقد قلت لي إنه نهر لكن التحليل المخبري يدل على أنه مجرور، وللدقة هذا ليس نهراً وإنما مجرى مياه شتوي تم شبك مجارير البيوت عليه، وبالطبع أنا لا أدل أو ألوم أحداً لكن يبدو أنه غير شرعي… وإن كان يُسمى نهراً موسمياً إلا أن مياهه لا تجف صيفاً وتزداد شتاء، كل ما في الأمر أنه يكون مجرد مجرور في الصيف، ويختلط هذا المجرور بمياه الأمطار شتاء”.

ويضيف فرج الله: “من الواضح أن هناك الكثير من النفايات المنزلية، من ضمنها النفايات العضوية التي تتحلل مع الوقت، والنفايات البلاستيكية غير القابلة للتحلل السريع، والنفايات عموماً تؤدي إلى نسب عالية من البكتيريا، فإذا لعب الأولاد في الكرة مثلاً ثم وقعت على الأرض ثم أعادوها ووضعوا يدهم في فمهم فهناك احتمال كبير بأن يصابوا بأمراض بكتيرية”.

ويردف: “دائما ما تأتي مع النفايات والمجارير، القوارض (الجرذان، والفئران) وهذه القوارض في ذاتها ناقلة للأمراض بسبب البراغيث التي تكون فيها، حتى إنها قد تؤدي إلى إصابات خطيرة في حال قامت بعضّ أحد الأطفال، ثم يأتي مع القوارض البرغش الذي يكون ناقلاً إضافياً للأمراض، وأخيراً لا ننسى الذباب الذي لا يعد مضراً بالصحة أو البيئة، بقدر ما أنه مزعج”. 

لننجو بأقل الأضرار

يقترح الدكتور نديم بعض الحلول، “لا أعرف ماهية المصانع التي ترمي نفاياتها في هذا النهر، ولكن بإمكاننا معرفة ذلك من خلال النظر إلى المخلفات الموجودة في حوض النهر أو الساقية، وأظن أنه من الممكن أن يطلب أهالي الحي من الصناعيين أن يوقفوا رمي مخلفاتهم الصلبة (على الأقل)، كما على الأهالي أن يتعاونوا على تنظيف الأراضي من النفايات الصلبة، وأن يتعاونوا مع جمعيات ممولة من الجهات المانحة لتدير القساطل بعيداً من البيوت، أو أن يغلقوا قساطل المياه بطريقةٍ ما، كما يمكنهم طلب المساعدات لرفع حافة الساقية كي لا تصل مياهها إلى الطرق، ولكن للأسف كل هذه ليست حلولاً، إنما أساليب نتفادى من خلالها تعرّض الناس للملوثات… علينا أن نتوجه لجمعيات، لرئيس البلدية، غرفة التجارة والصناعة، لنحافظ على صحة الناس والصناعة في آن واحد”.

حاول فريق التحقيق الاتصال أكثر من مرة برئيس بلدية البداوي حسن غمراوي، لسؤاله عن ملف حي التنك وتحديداً التلوّث الذي يسببه النهر الموسمي، لكنه كان تارة يؤجل الحديث بحجة انشغاله باستقبال وفد أجنبي، وطوراً لا يرد.

هذا فيما تحاول ريما تأمين تكاليف علاجها من سرطان الرئة، ويواجه كثيرون في حي التنك من خطر الإصابة بأمراض جلدية وتنفسية.

يُنشر هذا التحقيق بالتعاون مع “الجمعية اللبنانية لدعم البحث العلمي” وبإشراف الصحافية باسكال صوما

إقرأوا أيضاً:

|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية