الغرفة تسودها الفوضى، أغراضي تختلط مع أغراض فتاة لا أعرفها، أخلع حمالة الصدر ليرتاح جسدي، انا أكره الحمالات، إنها تقيدني، لكن أمي تقول أن ارتداءها واجب كي لا يلمح أحد “حلمتيّ” ، لكن ماذا لو حدث ذلك فعلاً؟ لنتخيل!
خلعتها الآن، تحررت من قيدي الثاني، كان علي أن أخرج الى الشارع في ساعات الليل الأولى، أردت شراء الماء، ارتديت كنزتي الزيتية فوق نهدين حرين من قيود الحمالة، ورحت أتجول في شارع الحمراء، تهاتفني صديقة قلقة علي لأني سأنزل إلى الشارع وحدي لأبحث عن دكان لشراء زجاجة مياه في مكان لا أعرف عنه سوى اسمه. في الحقيقة أنا ايضاً شعرت بالخوف لذلك سرعان ما هاتفت صديقي الذي عرفت منذ ساعة أنه يقطن في المنزل المجاور مع صديقته، دعاني إلى السهرة، كان المنزل يعج بالناس، إلا أن أحداً لم ينظر إلى نهدي، أرأيت يا أمي لم يحدث شيء؟
كانت تلك ليلتي الأولى في بيروت، الليلة الأولى التي سأخلد فيها للنوم بعد أن أحتسي كأس النبيذ بهدوء دون أن أقلق من اللون الأحمر الذي سيتركه الكأس على شفتاي. نمت هذه المرة دون أن أغسل شفتاي جيداً كي لا تكتشف أمي جريمتي الثانية كخروجي دون ارتداء “البرا”. حصل ذلك مرات عدة، ولحسن الحظ، لم تعرف أمي.
في الصغر اعتدت أن أسرق حمالات الصدر الخاصة بأمي، كنت أرتديها وأقف أمام المرآة، كنت أنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي سأرتدي خاصتي، أردتها أن تكون حمراء. لم تكن مجرد حمالات صدر كانت تذكرتي الى دخول مرحلة الصبا. أذكر جيداً اليوم الذي قررت فيه أمي أنه حان وقت ارتداء الحمالات، فاصطحبتني معها إلى السوق، دخلنا “معرض البابا” في سوق صيدا القديم ثم اختارت أمي لي “سبورت برا” صفراء وأخرى مع رسمة ميكي ماوس.
“منلبس وحدة منغسل وحدة وبكرا قبل المدرسة برجع بشتريلك تلاتة”. فرحت كثيراً، برغم أنني لم أحصل على تلك الحمراء الشبيهة بالتي كانت ترتديها أمي، لا بأس كان علي أن أنتظر. بعدها بأعوام، في السوق مجدداً في متجر “إلينا”، دون أن تخبرني الماما فاجأتني بتخليها عن فكرة “سبورت برا”، “رح اشتريلك صدرية”، فرحت كثيراً رغم أني لم أخترها بنفسي. طلبت المقاس الأصغر، أحضرتها سوداء هذه المرة، “بتشلحيها بس بدك تنامي”، وهذا ما يحدث فعلاً، إذ لا يمكننا خلعها سوى في السرير، وإلا كان ذلك “عيباً”. كبرت وصارت أمي تذهب وحدها إلى المتجر وتفاجئنا بثياب داخلية جديدة.
المرة الأولى التي دخلت فيها محل لانجري وحدي كانت بعد انتقالي للعيش وحدي في بيروت، دخلت أحد متاجر الحمراء، وقفت في منتصفه بانتظار أن تأتي إحداهن وتكسر حيرتي:
” بشو بتحبي ساعدك مدام؟
بدي bra… إلي.
شو المقاس؟”.
السؤال الأصعب. لا أعرف، لم أسأل أمي يوماً لأعرف ولم أحتج لذلك، “أصغر شي… بعتقد، وما بحب الدوبل فاس بليز”.
في المرات الأولى التي كانت أمي تأتيني بالحمالات بعد يومها الطويل في السوق، كانت تختار تلك التي تحتوي على حشوة “أحلى ببين عندك صدر”، لا أحبها و لم أكن أرتديها، أخذ الأمر وقتاً لتقتنع أمي برغبتي تلك، وفعلاً تخلت عن فكرتها ولم تعد تحضر ذات الحشوة.
“البنات بحبوهن ببينوا أكبر”، “انا لا”، كنت أجيبها.
اشتريتها بيضاء مع دانتيل، وأخفيتها في بيروت، لا أرتديها سوى في المدينة لا لشيء، سوى لخجلي من أمي التي لا تزال تصر دائماً على اصطحابي معها لاختيار الملابس الداخلية الخاصة بي، تلك التي لا تلفت النظر بالطبع لن أحتاج حمالات الدانتيل طالما أنني عزباء، تظن أمي. مرت سنتان وأنا أرفض عروضها المتكررة، تغيرت كثيراً منذ جئت هنا، وتغير “ذوقي”، أو ربما اكتشفته هنا.
منذ أيام أجريت صورة الماموغرافي للثدي بعدما لاحظت وجود كتلة صلبة في الجانب الأيسر منه فقرر الطبيب أخذ خزعة منه وبعد إجراء العملية قررت العودة فوراً الى بيروت. سألت أمي إذا كان عدم ارتداء “البرا” سيكون أفضل بعد العملية، ” لا ما بظن رح تفرق”، ارتديتها فوق جرحي وتوجهت إلى موقف الحافلة ودعت أمي، صعدت الحافلة فتحت الشباك ثم فتحت أزرار القميص وتركت جسدي يتنفس، بالطبع ما كنت سأفعل ذلك لو كان أحدهم يجلس إلى جانبي بخاصة لو كان ذلك الشخص والدتي. عدت إلى بيروت خلعت حمالات الصدر التي أثقلت جسدي طيلة الطريق، وفي اليوم التالي ارتديت فستاناً خفيفاً فوق جسد عار وخرجت.
لا أنكر أنني لم أعد أخفي الكثير عن أمي، هي تعرف أنني تغيرت كثيراً، مذ ابتعدت عنها، تظنني شيوعية، فكل من يحمل أفكاراً متحررة، شيوعي بنظر أهل قريتي، أحاول شرح الأمر لها حين أزورها، وأنجح في بعض الأحيان. تحب أمي غسل ثيابي لتثبت أنها لا تزال تملك دوراً أساسياً في حياتي، يقلقها أني لم أعد أحتاجها، برغم أنني أملك غسالة هنا في منزلي في بيروت، لكني أحرص على أخذ خمس قطع عند زيارتها، ذات مرة طلبت مني أمي نشر الغسيل، وسهواً وضعت حمالات الصدر في الحبل الأول الذي يطل على الشارع. “يا فضيحتك يا مروة، عيب كيف ناشرتيهن هيك”، ضحكت حينها “شو ما عندن ستيانات يعني، رح يغمى عليه أبو علي اذا شاف ستيانتي؟”، ضحكت هي أيضاً لكنها سارعت وأخفتها خلف ملابس الداخلية الخاصة بوالدي.
حمالات الصدر، أجهزة للتغطية أو للتقييد أو التعديل على مظهر الثدي، يجب ألا يراها أحد ويجب ألا يشك أحد بعدم وجودها، هي خطر في حال فرغت من جسدنا ورآها أحدهم تتدلى بحرية على حبل الغسيل دون أن تختبئ خلف ثياب الرجال لتحمي نفسها من العار، هي أيضاً كالقمامة والفوضى تحرص أمي على إخفائها من أمام الضيوف. أذكر جيداً حين جاء أحدهم ليرى المنزل بعدما عرضه والدي للبيع، أدخله أبي غرفة النوم الخاصة بي دون أن نتأكد من عدم وجود أي ممنوعات على السرير، هذه المرة لم ننج، دخل رجل غريب ليتفقد سقف الغرفة وربما اكتشف طراز الحمالات التي ارتديها ولونها، خرج الضيف وعلا صوت أمي واندلعت الحرب في المنزل.
لا نحبّ ارتداءها. نسرع إلى غرفنا فور وصولنا إلى المنزل لنتخلص منها، لينا صديقتي تخرج من منزل أهلها، تدخل أحد حمامات المقاهي هنا في الحمراء، تخلعها وتضعها في حقيبتها ثم تعاود ارتداءها قبل عودتها الى المنزل. زينة صديقتي الأخرى اشترت شرائط لاصقة تغطي بها حلمات صدرها كي لا يكتشف أحد تخليها عن “درع الشرف” . أما حياة فتتحدث دائماً عن رغبتها بالتخلي عن “البرا”، “بحب شي مرة البس بنطلون جينز وما البس برا وحط بس بروتيل أبيض اووف شو نفسي جرب هالشي”، ترغب ولكنها تخاف أن تجرب خوفاً من أن ينتقدها أحد أو يكون صورة عنها “سهلة المنال”.
لا أحد يعلم كيف ربط البعض بين وجود قطعة قماش تم تصميمها في أواخر القرن التاسع عشر وبين السمعة والشرف. يرى مؤرخ الأزياء الدنماركي رودولف كريستيان ألبرت بروبي جونسون في مقال كتبه عام 1964 بعنوان “نعي حمالات الصدر”، أنه يجب أخذ فكرة تخلص النساء من حمالات الصدر بجدية، لأنها طريقة سيتخذها الجيل الجديد للتعبير عن نفسه متنبئاً بزوال حمالات الصدر الوشيك.
قد تعتمد بعض ممثلات هوليوود عدم ارتداء الصدرية بهدف الإغراء وإظهار المفاتن، لكن النساء تاريخياً اعتبرن ذلك حركة اعتراضية نسوية، تعبر عن رفض المعايير التي يسقطها المجتمع الذكوري.
عام 1968 وخلال تظاهرة احتجاجية ضد مسابقة ملكة جمال الولايات المتحدة الأميركية في نيوجيرسي، ظهرت الصورة المشهورة لنسويات يخلعن حمالات الصدر ويرمينها في “حاويات قمامة الحرية”، إلى جانب أحمر الشفاه والأحذية ذات الكعب العالي التي رأين أنها ترمز لقمع النساء.
منذ ذلك الحين، أصبح إحراق حمالة الصدر وخلعها مرتبطين بحركة تحرير المرأة وبحملات عدة في مختلف الدول مثل “حملة حرروا الحلمات”، و”لا لحمالات الصدر”.
أصبح يوم “بلا حمالة صدر”، الذي يصادف في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، يوماً لنشر الوعي بسرطان الثدي في جميع أنحاء العالم. ولكن تستغله النساء في الفيلبين وفي بلدان أخرى للدعوة إلى مزيد من المساواة بين الجنسين وللاحتجاج على تجريم كشف المرأة ثدييها، والرقابة المجتمعية على ذلك.
هنا في بيروت صنعت ثورتي الخاصة، خلعت الحمالات، غسلتها وتركتها تتدلى من حبل غسيل يطل على الشارع الرئيسي في الحمراء، لم يصب أحد بالإغماء حتى الآن ولم تكتشف أمي الأمر لتنهار، ومنذ قليل ارتديت “البراليت” وهي أخف وطأة من الحمالات التقليدية ووضعت فوقها قميصاً، وتركته مفتوحاً، ثم نزلت إلى الشارع ليوقفني رجل لا أعرفه، قال “سكري عن صدرك، مشوبة؟ سكري القميص”، صرخت به “شو دخلك؟” وأكمل كلانا طريقه… فكرت حينها بأن خلع الحمالات لا يكفي، نحتاج إلى خلع النظام بأكمله…
إقرأوا أيضاً: