fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

درنة من القذافي إلى “دانيال”… متلازمة الفساد والقمع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ترك إعصار “دانيال” خراباً ودماراً على ضفاف المتوسط تجلى عبره نموذج من الفساد والإهمال صاغ متلازمة القهر التي حكمت درنة. وما خلفته السوابق التاريخية في المدينة من ضحايا بفعل البشر لا يكاد يختلف كثيراً عن إرادة الطبيعة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كشف إعصار “دانيال” الذي ضرب مناطق في شرق ليبيا، بخاصة مدن الجبل الأخضر، وما خلّفه من مآس على مدينة درنة التي تتكئ على الجبل وتواجه البحر المتوسط، عن تخوم سياسية قابلة للانفجار، بما فيها من وهن وتباينات عميقة، فضلاً عن التفكك الهائل الذي يماثل الانقلابات الطبيعية. ضحايا غير معلومة على وجه الدقة أعدادهم، تفاقم الوضع الإنساني في سجل المدينة التي راكمت الألم  وتجربة الدم وخبرت الظلم عبر عقود مضت.

 بدأ الأمر أثناء الصراع المحتدم في ظل العقيد معمر القذافي، تسعينات القرن الماضي، حين دخلت المدينة في مواجهات مسلحة مع سلطة القذافي عبر تشكيلات من المقاتلين الليبيين  الذين عادوا من حرب أفغانستان، بينما شكلوا تنظيم الجماعة الليبية المقاتلة، والتي سعت نحو إسقاط نظام حكم القذافي. وقام على إثرها الأخير بتنفيذ ضربات جوية وهجمات برية وحملات اعتقال جماعية ضد المدينة.

وفي خضم تلك التفاعلات العنيفة والمريرة، كانت هناك جاهزية لبيئة عنف قادرة على الانبعاث المتكرر مع اندلاع الاحتجاجات إبان ثورة شباط/ فبراير العام 2011.  إذ كانت درنة في قمة المدن التي رفعت رايات الغضب والعصيان، ثم دفعت تيار الثورة والتغيير صوب باقي المناطق في الشرق الليبي. لكن التطور الأكثر ملاحظة كان ظهور الكثير من التشكيلات المسلّحة التي اصطفّت على خلفية خبرات الجماعة الليبية المقاتلة، منها كتيبة “شهداء أبو سليم” بدرنة، والتي اشتقت اسمها من سجن “أبو سليم” الذي شهد مصرع عدد من أبناء المدينة في الحكم السابق.

درنة “إمارة إسلاميّة”

في كانون الأول/ ديسمبر العام 2014، تشكل مجلس شورى مجاهدي درنة، وقال قائد كتيبة شهداء أبو سليم سالم دربي آنذاك، إن إعلان التنظيم يأتي في مرحلة “حاسمة وحرجة” من تاريخ ليبيا، بينما دعا بيان صادر عن التنظيم أهالي المدينة إلى المشاركة في رد الظلم عن مدينة درنة، الأمر الذي اصطدم بشروط المرحلة التي تضاعفت فيها فرص المواجهة العسكرية وتنامي العنف على أساس قبلي جهوي، من جهة، وجماعات إسلامية جهادية لها سوابق محلية وخارجية، من جهة أخرى. فواقع المدينة كان بائساً الى الدرجة التي تستطيع أن تشتم رائحة الدم في كل طرقاتها وترى الظلم عابساً في عيون قاطنيها وتعجز عن متابعة أنباء القتلى ضد المواطنين والاغتيالات التي طاولت السياسيين وآخرين من السلك القضائي.

يصعب عزل ذلك السياق المؤسس عما جرى خلال منتصف التسعينات، وعانت من خلاله المدينة من إجراءات العقاب الجماعي من نظام القذافي بعيداً عن مظلة التطرف وبنية الأفكار الجهادية، التي استفادت من حالة الفراغ السياسي التي شهدتها ليبيا عقب سقوط القذافي قتيلاً. فضلاً عن كل السنوات التي فرط فيها الأخير نحو تأسيس الدولة بالمفهوم السياسي. فلم يكن هناك سوى بنية تخلّف تتحكم في مفاصل الحكم.

 ظل العقد الاجتماعي والسياسي قائماً على أساس عشائري قبلي وعلى تفاهمات مؤقتة وريعية في الاقتصاد كما في السياسة. بالتبعية، كان حتماً صعود الميليشيا في الفرصة المواتية، كما أُعلنت درنة، لاحقاً، إمارة إسلامية. الأمر الذي دفع الجيش الليبي الى خوض معارك ضد مجلس شورى مجاهدي درنة حتى حُرّرت المدينة خلال العام 2018 من تلك التنظيمات المسلحة وتركت وراءها مذاق البؤس ودلالات القهر في كل طرقات المدينة.

خضعت درنة لسيطرة المشير خليفة حفتر وأضحت ضمن الجغرافيا السياسية التي تهيمن عليها قوات الجيش وبرلمان طبرق برئاسة المستشار عقيلة صالح. وعلى الجانب الآخر، حكومة في الغرب والعاصمة طرابلس بقيادة عبدالحميد الدبيبة. غير أن ذلك لم يدفع ثقل الأحداث السوداء بعيداً عن المدينة وأهلها حين واجهت بمفردها الإعصار الذي ضرب سدَّيها وأغرق أحياءها كنتيجة مباشرة لغياب إرادة الدولة خلال سنوات طويلة ومعها كل إجراءات الصيانة. فضلاً عن تحذيرات المتخصصين من انعدام متابعة حالة السدّين ومدى خطورة ذلك على حياة المواطنين.

الفساد ومتلازمة القهر

ثمة دلالة في مسار انتخابات المجالس البلدية، والتي تعطل مسارها منذ العام 2014 الذي شهد آخر انتخابات للمجالس البلدية في ليبيا. وعلى هامش ذلك، كان الصراع في درنة على منصب عميد البلدية لافتاً ويأخذ طبيعة خاصة كنتيجة منطقية لشكل التحالفات العلنية والصراعات المستترة بين القوى الفاعلة والوازنة في الفضاء الليبي، بخاصة أن العميد الحالي عبدالمنعم الغيثي يعد ورقة عقيلة صالح في المدينة ولسانه الذي يتحدث من خلاله، بينما كانت مجموعة “أولياء الدم” في درنه داخل مكتب الأمن الداخلي تطالب بوضع درنة تحت الحكم العسكري، وبعدم إجراء الانتخابات البلدية في المدينة، وذلك عبر خطاب رسمي تم تسليمه لرئيس جهاز الأمن الداخلي أنور البرعصي.

على الجانب الآخر، تفيد مصادر من تنسيقية انتخابات درنة بأن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح يعتزم إيقاف انتخابات المجلس البلدي وتشكيل مجلس تسييري مؤقت برئاسة عبد المنعم الغيثي.

يلتقط عماد البناني، رئيس حزب العدالة والبناء (إخوان مسلمون)، خيط الأحداث ويتابع تحركات الجيش وحلفائه من “أولياء الدم” ضد بعض الشخصيات داخل المدينة، فيما وصف عبر بيان الإجراءات الجارية بـ”القمع والتهجير القسري وهدم البيوت”. كما طالب الحزب بالحفاظ على حقوق المواطنين الانتخابية واحترام آرائهم .

إلى ذلك، أصدرت وزارة الحكم المحلي التابعة لحكومة أسامة حماد المكلفة من  مجلس النواب، قراراً بتأجيل الانتخابات حتى إشعار آخر على خلفية الصراع بين المكونات الاجتماعية داخل مدينة درنة.

وبينما كان إعصار “دانيال” حاسماً في وجه ذلك كله وضرب بقوة ويد ثقيلة بينما أزال في طريقه أحياء وطرقات، فإنه ترك حقيقة ماثلة على ضفاف المتوسط تمثلت في نموذج من الفساد والإهمال صاغ متلازمة القهر. وما خلفته السوابق التاريخية في درنة من ضحايا بفعل البشر لا يكاد يختلف كثيراً عن إرادة الطبيعة.

تحركات ومواقف المسؤولين كافة في ليببا شرقاً وغرباً بالبرلمان والجيش، تفضح الاستثمار السياسي في الحادث ومحاولات الاستفادة القصوى والبراغماتية من خلال الاستحواذ على مشاريع إعادة الإعمار، وذلك رغم كل مظاهر الاستقطاب والصراع الهامشية على السطح. فالتلميحات والإشارات حول توفير مبالغ طائلة لإعادة الإعمار واستدعاء وجه المدينة ورائحة البحر تبطن حقائق ليست بحاجة الى تأويل أو شرح. فضلاً عن تصريحات النائب العام المستشار الصديق الصور، الذي طالب بالتحري ومحاسبة المقصرين جراء ما وقع بحق الضحايا، بينما لغة الخطاب السياسي لا تبرح تصف ما حدث بـ”الإرادة الإلهية”!.

19.09.2023
زمن القراءة: 4 minutes

ترك إعصار “دانيال” خراباً ودماراً على ضفاف المتوسط تجلى عبره نموذج من الفساد والإهمال صاغ متلازمة القهر التي حكمت درنة. وما خلفته السوابق التاريخية في المدينة من ضحايا بفعل البشر لا يكاد يختلف كثيراً عن إرادة الطبيعة.

كشف إعصار “دانيال” الذي ضرب مناطق في شرق ليبيا، بخاصة مدن الجبل الأخضر، وما خلّفه من مآس على مدينة درنة التي تتكئ على الجبل وتواجه البحر المتوسط، عن تخوم سياسية قابلة للانفجار، بما فيها من وهن وتباينات عميقة، فضلاً عن التفكك الهائل الذي يماثل الانقلابات الطبيعية. ضحايا غير معلومة على وجه الدقة أعدادهم، تفاقم الوضع الإنساني في سجل المدينة التي راكمت الألم  وتجربة الدم وخبرت الظلم عبر عقود مضت.

 بدأ الأمر أثناء الصراع المحتدم في ظل العقيد معمر القذافي، تسعينات القرن الماضي، حين دخلت المدينة في مواجهات مسلحة مع سلطة القذافي عبر تشكيلات من المقاتلين الليبيين  الذين عادوا من حرب أفغانستان، بينما شكلوا تنظيم الجماعة الليبية المقاتلة، والتي سعت نحو إسقاط نظام حكم القذافي. وقام على إثرها الأخير بتنفيذ ضربات جوية وهجمات برية وحملات اعتقال جماعية ضد المدينة.

وفي خضم تلك التفاعلات العنيفة والمريرة، كانت هناك جاهزية لبيئة عنف قادرة على الانبعاث المتكرر مع اندلاع الاحتجاجات إبان ثورة شباط/ فبراير العام 2011.  إذ كانت درنة في قمة المدن التي رفعت رايات الغضب والعصيان، ثم دفعت تيار الثورة والتغيير صوب باقي المناطق في الشرق الليبي. لكن التطور الأكثر ملاحظة كان ظهور الكثير من التشكيلات المسلّحة التي اصطفّت على خلفية خبرات الجماعة الليبية المقاتلة، منها كتيبة “شهداء أبو سليم” بدرنة، والتي اشتقت اسمها من سجن “أبو سليم” الذي شهد مصرع عدد من أبناء المدينة في الحكم السابق.

درنة “إمارة إسلاميّة”

في كانون الأول/ ديسمبر العام 2014، تشكل مجلس شورى مجاهدي درنة، وقال قائد كتيبة شهداء أبو سليم سالم دربي آنذاك، إن إعلان التنظيم يأتي في مرحلة “حاسمة وحرجة” من تاريخ ليبيا، بينما دعا بيان صادر عن التنظيم أهالي المدينة إلى المشاركة في رد الظلم عن مدينة درنة، الأمر الذي اصطدم بشروط المرحلة التي تضاعفت فيها فرص المواجهة العسكرية وتنامي العنف على أساس قبلي جهوي، من جهة، وجماعات إسلامية جهادية لها سوابق محلية وخارجية، من جهة أخرى. فواقع المدينة كان بائساً الى الدرجة التي تستطيع أن تشتم رائحة الدم في كل طرقاتها وترى الظلم عابساً في عيون قاطنيها وتعجز عن متابعة أنباء القتلى ضد المواطنين والاغتيالات التي طاولت السياسيين وآخرين من السلك القضائي.

يصعب عزل ذلك السياق المؤسس عما جرى خلال منتصف التسعينات، وعانت من خلاله المدينة من إجراءات العقاب الجماعي من نظام القذافي بعيداً عن مظلة التطرف وبنية الأفكار الجهادية، التي استفادت من حالة الفراغ السياسي التي شهدتها ليبيا عقب سقوط القذافي قتيلاً. فضلاً عن كل السنوات التي فرط فيها الأخير نحو تأسيس الدولة بالمفهوم السياسي. فلم يكن هناك سوى بنية تخلّف تتحكم في مفاصل الحكم.

 ظل العقد الاجتماعي والسياسي قائماً على أساس عشائري قبلي وعلى تفاهمات مؤقتة وريعية في الاقتصاد كما في السياسة. بالتبعية، كان حتماً صعود الميليشيا في الفرصة المواتية، كما أُعلنت درنة، لاحقاً، إمارة إسلامية. الأمر الذي دفع الجيش الليبي الى خوض معارك ضد مجلس شورى مجاهدي درنة حتى حُرّرت المدينة خلال العام 2018 من تلك التنظيمات المسلحة وتركت وراءها مذاق البؤس ودلالات القهر في كل طرقات المدينة.

خضعت درنة لسيطرة المشير خليفة حفتر وأضحت ضمن الجغرافيا السياسية التي تهيمن عليها قوات الجيش وبرلمان طبرق برئاسة المستشار عقيلة صالح. وعلى الجانب الآخر، حكومة في الغرب والعاصمة طرابلس بقيادة عبدالحميد الدبيبة. غير أن ذلك لم يدفع ثقل الأحداث السوداء بعيداً عن المدينة وأهلها حين واجهت بمفردها الإعصار الذي ضرب سدَّيها وأغرق أحياءها كنتيجة مباشرة لغياب إرادة الدولة خلال سنوات طويلة ومعها كل إجراءات الصيانة. فضلاً عن تحذيرات المتخصصين من انعدام متابعة حالة السدّين ومدى خطورة ذلك على حياة المواطنين.

الفساد ومتلازمة القهر

ثمة دلالة في مسار انتخابات المجالس البلدية، والتي تعطل مسارها منذ العام 2014 الذي شهد آخر انتخابات للمجالس البلدية في ليبيا. وعلى هامش ذلك، كان الصراع في درنة على منصب عميد البلدية لافتاً ويأخذ طبيعة خاصة كنتيجة منطقية لشكل التحالفات العلنية والصراعات المستترة بين القوى الفاعلة والوازنة في الفضاء الليبي، بخاصة أن العميد الحالي عبدالمنعم الغيثي يعد ورقة عقيلة صالح في المدينة ولسانه الذي يتحدث من خلاله، بينما كانت مجموعة “أولياء الدم” في درنه داخل مكتب الأمن الداخلي تطالب بوضع درنة تحت الحكم العسكري، وبعدم إجراء الانتخابات البلدية في المدينة، وذلك عبر خطاب رسمي تم تسليمه لرئيس جهاز الأمن الداخلي أنور البرعصي.

على الجانب الآخر، تفيد مصادر من تنسيقية انتخابات درنة بأن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح يعتزم إيقاف انتخابات المجلس البلدي وتشكيل مجلس تسييري مؤقت برئاسة عبد المنعم الغيثي.

يلتقط عماد البناني، رئيس حزب العدالة والبناء (إخوان مسلمون)، خيط الأحداث ويتابع تحركات الجيش وحلفائه من “أولياء الدم” ضد بعض الشخصيات داخل المدينة، فيما وصف عبر بيان الإجراءات الجارية بـ”القمع والتهجير القسري وهدم البيوت”. كما طالب الحزب بالحفاظ على حقوق المواطنين الانتخابية واحترام آرائهم .

إلى ذلك، أصدرت وزارة الحكم المحلي التابعة لحكومة أسامة حماد المكلفة من  مجلس النواب، قراراً بتأجيل الانتخابات حتى إشعار آخر على خلفية الصراع بين المكونات الاجتماعية داخل مدينة درنة.

وبينما كان إعصار “دانيال” حاسماً في وجه ذلك كله وضرب بقوة ويد ثقيلة بينما أزال في طريقه أحياء وطرقات، فإنه ترك حقيقة ماثلة على ضفاف المتوسط تمثلت في نموذج من الفساد والإهمال صاغ متلازمة القهر. وما خلفته السوابق التاريخية في درنة من ضحايا بفعل البشر لا يكاد يختلف كثيراً عن إرادة الطبيعة.

تحركات ومواقف المسؤولين كافة في ليببا شرقاً وغرباً بالبرلمان والجيش، تفضح الاستثمار السياسي في الحادث ومحاولات الاستفادة القصوى والبراغماتية من خلال الاستحواذ على مشاريع إعادة الإعمار، وذلك رغم كل مظاهر الاستقطاب والصراع الهامشية على السطح. فالتلميحات والإشارات حول توفير مبالغ طائلة لإعادة الإعمار واستدعاء وجه المدينة ورائحة البحر تبطن حقائق ليست بحاجة الى تأويل أو شرح. فضلاً عن تصريحات النائب العام المستشار الصديق الصور، الذي طالب بالتحري ومحاسبة المقصرين جراء ما وقع بحق الضحايا، بينما لغة الخطاب السياسي لا تبرح تصف ما حدث بـ”الإرادة الإلهية”!.