fbpx

دولة إسرائيل مقابل الشعب اليهودي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

للمرّة الأولى في تاريخها، تجاهلت إسرائيل حساسية المجتمعات اليهودية ومصالحها، وأبدت إسرائيل وحكومتها رغبة في نزع القدسية عن ذكرى المحرقة وإبرام الصفقات مع المُعادين للسامية خفية أو علانية. إنها ظاهرة مدهشة تدفعنا للتساؤل: لمَ الوضع على هذا النحو؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هزّ زلزال العالم اليهودي بهدوء.

في القرن الثامن عشر، بدأ اليهود تأدية دور حاسم في ترويج مبدأ الكونيّة، وذلك لأن الكونيّة وعدتهم بالخلاص من خضوعهم السياسي. ومن خلال الكونيّة، بإمكان اليهود من حيث المبدأ، أن يكونوا أحراراً ومتساوين مع أولئك الذين هيمنوا عليهم.

لهذا السبب وخلال القرون التالية، شارك اليهود بأعداد غير متناسبة في القضايا الشيوعية والاشتراكية. ولهذا السبب أيضاً كان اليهود مواطنين نموذجيين في البلدان ذات الدساتير الوحدويّة العالمية، كما هي الحال في فرنسا أو الولايات المتحدة.

ومع ذلك، يقترب تاريخ اليهود باعتبارهم مروّجين للتنوير والقيم الوحدوية العالمية من نهايته. نحن الشهود المتعجبون على التحالفات الجديدة بين دولة إسرائيل والطوائف اليهودية الأرثوذكسية في جميع أنحاء العالم، والشعبوية العالمية الجديدة؛ حيث تحتل النزعة العرقية بل وحتى العنصرية موقعاً لا يمكن إنكاره.

وبينما اختار رئيس الوزراء نتانياهو الوقوف في صف دونالد ترامب وتأييده سياسياً قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 وبعدها، ما زال بإمكان بعض الناس تبرئته والتماس الأعذار له.

وممّا لا يمكن إنكاره أن ترامب كان محاطاً بأشخاصٍ من أمثال ستيف بانون، الرئيس السابق لموقع “بريتبارت” الإخباري، والذي كانت تفوح منه روائح العنصرية ومعاداة السامية، لكن لم يكن أحد متيقناً من الاتجاه الذي ستتخذه الرئاسة الجديدة.

حتى لو رفض ترامب إدانة العناصر المعادية للسامية في قاعدته الانتخابية أو منظمات كو كلوكس كلان «اسم يطلق على عدد من الحركات الأخوية في الولايات المتحدة الأميركية. تؤمن بالتفوق الأبيض ومعاداة السامية والعنصرية ومعاداة الكاثوليكية»، التي دعمته بكل حماسة، وحتى إذا استغرق وقتاً طويلاً للنأي بنفسه عن ديفيد دوك، لم نتأكد بعد من وجود أفكار معاداة السامية في حوار ترامب واستراتيجياته (بخاصة منذ أن اعتنقت ابنته إيفانكا اليهودية).

لكن الأحداث في مدينة شارلوتسفيل في آب/ أغسطس عام 2017 لم تعد تترك مجالاً للشك. ارتكب المتظاهرون التابعون للنازيين الجدد أعمال عنفٍ ضد المتظاهرين السلميين المشاركين في الاحتجاجات المضادة، ما أسفر عن مقتل امرأة نتيجة اندفاع سيارة وسط حشد من الناس ودهسهم (وهو عمل يُعيد إلى الأذهان أسلوب العنف خلال الهجمات الإرهابية في أوروبا«عمليات الدهس»).

كان رد فعل ترامب على الأحداث هو إدانة النازيين الجدد والعنصريين الذين يعتقدون بسيادة البيض، ومعارضيهم على حدٍ سواء. صُدم العالم لخلطه بين المجموعتين، لكن القدس لم تعترض. مجدداً، كان يمكن أن يفسر المراقب المتساهل -أو الساخر- هذا الصمت باعتباره شكلاً من الإجلال المتردد لأحد الأتباع تجاه سيده الأعلى (دوناً عن جميع دول العالم، تتلقى إسرائيل معظم المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة). كان يحق للمرء الاعتقاد بأن إسرائيل ليس لديها أيّ خيارٍ سوى التعاون، على رغم الدلائل الخارجية الخاصة بالرئيس الأميركي التي تتعلق بمعاداة السامية.

مع ذلك، لم يعد هذا التفسير مقبولاً. إذ قبل أحداث شارلوتسفيل وبعدها، تودَّد نتانياهو إلى زعماء آخرين؛ إما لا يكترثون كثيراً بمعاداة السامية أو متعاطفين معها صراحة، وأولئك الذين لا تعتمد عليهم إسرائيل اقتصادياً. وصلت تنازلاته إلى حد المشاركة في شكل جزئي من أشكال إنكار الهولوكوست.

“استضافت إسرائيل، في وقت سابق من هذا الشهر، الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، الرجل الذي قارن نفسه بفخر بهتلر”

لنأخذ حالة المجر. ففي ظل حكومة فيكتور أوربان، تُظهر البلاد علامات مقلقة من إضفاء الشرعية على معاداة السامية. وعام 2015، على سبيل المثال، أعلنت الحكومة المجرية عزمها نصب تمثال لإحياء ذكرى بالينت هومان Bálint Hóman، الذي كان وزيراً في زمن الهولوكست، وأدى دوراً حاسماً في عملية قتل ما يقرب من 600 ألف يهودي مجري أو ترحيلهم.

بصرف النظر عن كونها حادثة منفردة، إلا أنه بعد بضعة أشهر فقط، عام 2016، نُصب تمثالُ آخر تكريماً لذكرى جيورجي دونات، أحد مهندسي التشريعات المعادية لليهود خلال الحرب العالمية الثانية.

ومن ثم لم يكن من المستغرب سماع أوربان وهو يستخدم استعارات معادية للسامية خلال حملة إعادة انتخابه عام 2017، بخاصة ضد جورج سوروس، الملياردير وفاعل الخير الأميركي/ المجري، الذي يدعم القضايا الليبرالية، بما في ذلك سياسة الحدود المفتوحة والهجرة. وإنعاشاً للتعبير المأثور المبتذل المعادي للسامية حول قوة اليهود، اتهم أوربان سوروس بإضمار نيات تهدف إلى تقويض المجر.

من ذاك الذي اختار نتانياهو أن يدعمه؟ ليست الجالية اليهودية المجرية المتلهفة التي احتجت بمرارة ضد خطاب حكومة أوربان المعادي للسامية؛ كما لم يختر أن يدعم الليبرالي اليهودي سوروس، الذي يدافع عن القضايا الإنسانية. عوضاً عن ذلك، أنشأ رئيس الوزراء تصدعات وانقسامات جديدة، مفضلاً حلفاءه السياسيين على عشيرته.

ساند نتانياهو أوربان، وهو الشخص الذي يحيي ذكرى فترة معاداة السامية المظلمة. وعندما احتج السفير الإسرائيلي في بودابست على إنشاء ذاك التمثال المُخزي، لم يخالفه أحد غير نتانياهو بصورة علنية.

على حد علمي، لم تحتج الحكومة الإسرائيلية بشكل رسمي على ميول أوربان وانتماءاته، المعادية للسامية. في الواقع، عندما حاول السفير الإسرائيلي في بودابست فعل ذلك، تمت تهدئته من قبل القدس.

قبل الانتخابات المجرية بفترة قصيرة، تكبد نتانياهو عناء زيارة المجر، وبالتالي إعطاء أوربان “شهادة موافقة الشريعة اليهودية” وتبرئته من الفضيحة المتعلقة بمعاداة السامية وتأييد شخصيات معروفة بنشاطها في الهولوكست.

عندما زار نتانياهو بودابست، حصل على استقبالٍ فاتر من اتحاد الجاليات اليهودية، في حين تلقى استقبالاً حاراً من قبل أوربان. ولزيادة تعزيز علاقات الصداقة الوثيقة بينهما، دعا نتانياهو أوربان إلى القيام بزيارة متبادلة إلى إسرائيل في شهر تموز/ يوليو الماضي، حيث استقبله بطريقة عادة ما تكون مخصصة لأكثر الحلفاء الوطنيين إخلاصاً.

إن العلاقة مع بولندا مُحيرة للغاية، فللتذكير، يحكم بولندا حزب القانون والعدالة الوطني، والذي يتبع سياسة لا هوادة فيها ضد اللاجئين، ويبدو أن الحزب يُريد القضاء على استقلال المحاكم عبر مجموعة من الإصلاحات (تغيرات في هيكل المنظومة) تسمح للحكومة بالسيطرة على السلطة القضائية.

عام 2016، ألغت الحكومة بقيادة حزب القانون والعدالة الهيئة الرسمية التي تنصب مُهمّتها على التعامل مع مشكلات التمييز العنصري والكراهية تجاه الأجانب والتعصّب، بدعوى أن المؤسسة أصبحت “عديمة الجدوى”.

بإيعاز من هذا التصريح وغيره من السياسيات الحكومية، تضاعفت دلالات القومية داخل المجتمع البولندي، ففي شُباط / فبراير 2018، أعلن الرئيس أندجي دودا (Andrzej Duda) توقيع قانون يُجرّم من يتهم الأمة البولندية بالتواطؤ مع النازيين. ليخضع-من الآن فصاعِداً- أي من يتهم بولندا بالضلوع في الهولوكوست وغيرها من الفظائع النازية للمُحاكمة.

الرئيس البولندي أندريه دودا

احتجّت إسرائيل، في بادئ الأمر، على التشريع المُقتَرَح، ثم ما لبث أن وقّع كلٌ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ونظيره البولندي ماتيوش مورافيتسكي، في حزيران/ يونيو من العام ذاته، على اتفاقية تُبرّئ بولندا من جميع الجرائم ضد اليهود أثناء فترة الاحتلال الألماني.

وافقت إسرائيل أيضاً على خطوة بولندا لحظر تعبير “معسكرات الاعتقال البولندية”، بل وذهب نتانياهو إلى أبعد من ذلك، ووقّع على بيانٍ ينص على أن معاداة السامية مُطابِقة لمعاداة البولندية، وأن حفنة فقط من الأفراد البولنديين كانوا مسؤولين عن اضطهاد اليهود- وليس الأُمة البولندية ككل.

في تموز/يويليو، أدانت كل من مؤسسة ياد فاشيم و مجموعة من 21 مؤرخاً إسرائيلياً عضواً في أكاديمية العلوم والإنسانيات ذلك التصريح بشدة، إلا أن النتيجة الصادمة بقيت على حالها مع نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، الذي ظل يدعم لما يرقى أن يكون إنكاراً للهولوكوست.

لا يُمكن أن يجهل نتانياهو المهووس بالتاريخ- على حد قول المُعلّق البولندي سافومير شيراكوفسكي- أن “ثُلثي اليهود البالغ عددهم 25 ألفاً فرّوا من “تصفية” النازيين لليهود عام 1942، قُتلوا بحلول عام 1945، لقي معظمهم حتفه على يد البولنديين أو بمشاركتهم”.

إن كانت إسرائيل لا تزال تتمتّع بموقف أخلاقي في قضية واحدة (للأسف، هي على الأرجح الوحيدة المتبقية)، فإنه يتعلق بالمحرقة (الهولوكوست)، إلا إن نتانياهو قوّض ذلك بجعل تاريخ وذِكرى الهولوكوست سلعة سياسية قابلة للتفاوض.

ولم يكن ذلك كافياً، بل استضافت إسرائيل، في وقت سابق من هذا الشهر، الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، الرجل الذي قارن نفسه بفخر بهتلر.

تُعدّ هذه المسألة نقطة تحول حاسمة للصهيونية، التي تضع نتانياهو بشكل سيئ في الطليعة، ما يجعل من الصهيونية التحريفية التي يزعم أنه يُمثلها، المرحلة النهائية من منطِقِه التاريخي.

سعت الصهيونية التقليدية الاجتماعية- الديموقراطية، كعقيدة ومُمارسة سياسية، إلى إيجاد توازن مع المحافظة عليه بين ثلاثة أقطاب هم: المجتمعات اليهودية في الشتات، والمصالح الأمنية لإسرائيل والتحالفات السياسية الدولية مع الديموقراطيات القوية في العالم (التعاون مع الدُول المارِقة أو الفاسدة بشكلٍ غير رسمي).

“لم تعد إسرائيل بالفعل هي المركز الذي يتّجه إليه معظم يهود العالم، وبسبب حالتها هذه، فلن يكون بمقدورها أن تعتمد إلا على دعم مجموعة صغيرة من أصحاب المليارات واليهود المتشدّدين”

كانت ذكرى الهولوكوست الغراء الأخلاقي والأيديولوجي الذي يدعم هذا الهيكل بشكل ثُلاثي الأقطاب، إذ كان يهود الشتات وإسرائيل والدول المُستنيرة مصممين على أن هذه الجريمة “لن تحدث أبداً مرة أخرى” ضد اليهود أو أي شخص آخر.

لكن للمرة الأولى في تاريخها، تجاهلت إسرائيل حساسية المجتمعات اليهودية ومصالحها، وأبدت إسرائيل وحكومتها رغبة في نزع القدسية عن ذكرى المحرقة وإبرام الصفقات مع المُعادين للسامية خفية أو علانية. إنها ظاهرة مدهشة تدفعنا للتساؤل: لمَ الوضع على هذا النحو؟

يروج نتانياهو هنا لرؤية جديدة للصهيونية تتطلب استراتيجية دولية جديدة في المقابل. ينجذب نتانياهو سياسياً بعمق لكل من الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأوربان ومورافيتسكي، وعلى رأسهما (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (خلال قِمة بوتين-ترامب، التي انعقدت في هِلسنكي الصيف الماضي، أظهر القادة الإعجاب المتبادل، الذي أصبح متاحاً الآن للجميع لمشاهدته).

فقد نتانياهو الاهتمام بمُعظم الجالية اليهودية الليبرالية، ليس بسبب ميله إلى تفضيل رعاية عددٍ قليل من الأثرياء بدلاً من المجموعات والمجتمعات فحسب (باستثناء وقت الانتخابات)، ولكن بسبب احتقاره الصادق والحقيقي لليبرالية أيضاً (معظم الجالية اليهودية الأميركية من الليبراليين).

ولا يُعدّ تحالف نتانياهو مع قادة الظلام (الزعماء الأشرار)- المذكورين أعلاه- انتهازياً فحسب، بل يمثل أحد أشكال الألفة بينهم أيضاً؛ إذ يعتبر نتانياهو أقرب إلى هؤلاء القادة من القيادي الصهيوني زئيف جابوتنسكي (الذي اقترح، ذات مرة، أن يكون لكل رئيس وزراء يهودي نائب عربي، والعكس صحيح).

يتشارك كل هؤلاء القادة رؤيةً أهلانية، أي أنهم يعارضون بشدة التنوع العرقي أو الديني في بلادهم من المهاجرين أو الحقوق العالمية.

في الواقع، لطالما كانت إسرائيل رائدة في النموذج الذي تطمح إليه هذه الدول: الذي يتمثل في تكريس المواطنة بحسب الانتماء العرقي والديني (قانون العودة)، ويحظر أي زيجات محلية بين اليهود وأتباع الديانات الأخرى، ومنع هجرة غير اليهود والمختلطين عرقياً، وحتى في سعيها إلى الحفاظ على عباءة الديموقراطية (غالباً لأن الاسم يصاحبه الكثير من الامتيازات): ادّعت اسرائيل لعقود أنها دولة ديموقراطية يهودية.

كما يشير كل من آن كولتر الخبيرة الأميركية من اليمين المُتطرف، وريتشارد سبنسر رئيس معهد السياسة الوطنية- مؤسسة فكرية مُتعصبة- في كثير من الأحيان إلى إسرائيل بصفتها دولة نموذجية للنقاء العِرقي الذي يطمحون للوصول إليه (في الحقيقة، إسرائيل بعيدة من “النقاء العِرقي” لأن العرب، المسلمين منهم والمسيحيين، يُشكلون 20 في المئة من سكانها).

يُعدّ قانون الدولة القومية (الذي يمنح الامتيازات لليهود دون غيرهم)، بعدما تم سنّه أخيراً، نسخة أكثر صراحةً وتطرُّفاً عن النموذج العرقي الديموقراطي الذي طالما أيدته البلاد.

على غرار اليمين المتطرّف في أميركا وبولندا والمجر، تريد إسرائيل استعادة الفخر الوطني الذي لم يُدنّسه المُنتقدون “الكارهون لذواتهم”. على غرار بولندا، تشنّ إسرائيل، على مدى عقدين من الزمن، حرباً على الرواية الرسمية للأُمة اليهودية متمثلة في محاولة تنقيح الكتب المدرسية من الحقائق المزعجة (مثل حقيقة أن العرب قد طُرِدوا حقاً من إسرائيل عام 1948). وفي إطار التخلص من الانتقادات، تُسند وزارة الثقافة الإسرائيلية حالياً تمويلها للمؤسسات الإبداعية على أساس الولاء للدولة.

وكما هي الحال في المجر، تضطهد الحكومة الإسرائيلية المنظمات غير الحكومية مثل “كسر الصمت”، هي جماعة تمثلت خطيئتها الوحيدة في تقديم موقع للنقاش للجنود حول خبراتهم في الجيش ومعارضة عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين أو مصادرة أراضيهم في انتهاك واضح للقانون الدولي. يُعد تطهير الحياة العامة من المنتقدين (منع دخول مؤيدي حركة BDS الفلسطينية للبلاد، أو رفض تمويل الشركات المسرحية والأفلام التي تنتقد إسرائيل… إلخ) تعبيراً عن السلطة المباشرة للدولة.

وعندما يتعلّق الأمر باللاجئين، ترفض إسرائيل – مثلها مثل هنغاريا وبولندا- أن تمتثل للقانون الدولي. لم تحترم إسرائيل منذ ما يقرب من عقدٍ من الزمن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المُتعلقة بحقوق اللاجئين، على رغم أنَّها من ضمن الدول الموقعة على المعاهدات المذكورة: فقد احتجزت الدولة اللاجئين في مخيمات، وزجَّت بهم في السجون، ورحَّلتهم. ومثلما هي الحال في بولندا، تُحاول إسرائيل أن تتخلص من استقلال القضاء. تشعر إسرائيل بالارتياح عند التعامل مع الجناح اليميني المتطرف المُعادي للديموقراطية في أوروبا، هذا الارتياح شبيه بما يشعر به المرء حين يكون برفقة فردٍ من عائلته يتجشأ ويثرثر منهمكاً في القيل والقال، فاقداً أي إحساس بضرورة التحكم بالنفس، أو الالتزام بآداب الطعام.

وبصورة أعمّ، تتشارك هذه الدول مبدأ سياسياً عميقاً: ألا وهو الخوف من الأجانب الموجودين على الحدود (لكن يجب القول إنَّ مخاوف الإسرائيليين ليست مُتخيلة وواهمة بقدر مخاوف الهنغاريين أو البولنديين). إضافةً إلى الإشارات المشتركة بينهم لمجد الأمة الذي لم يلوثه الماضي الغامض المشكوك في أمره، ما يؤدي إلى اعتبار المنتقدين خونةً لهذه الأمة. وأخيراً، حظر منظمات حقوق الإنسان، وتحدي الأعراف الدولية القائمة على مبادئ أخلاقية. يتشارك الثلاثي نتانياهو- ترامب- بوتين في رؤية واستراتيجية محددة: تتلخص في خلق تكتل سياسي من شأنه تقويض النظام الدولي الليبرالي الحالي، إضافةً إلى لاعبيه الرئيسيين.

اقترح أستاذ علم القانون مارك س. وينر، في مقال عن ترامب قدمه لمنظمة “بروجيكت سنديكيت” الدولية، أنَّ الرؤية والممارسة السياسيتين لترامب تتبع (وإن كان الأخير غير مدركٍ لذلك) مبادئ أستاذ القانون الألماني الذي انضم إلى صفوف الحزب النازي عام 1933: كارل شميت.

فقد كتب وينتر “قدَّم شميت -عوضاً عن مفاهيم المعيارية والشمولية- نظريةً تدور حول هوية سياسية ترتكز على مبدأ لا شك في أنَّ ترامب يقدِّره، هذا المبدأ الناتج عن المهنة التي عمل بها ترامب قبل تحوله إلى السياسة: ألا وهو مبدأ الأرض”، وتابع “بالنسبة إلى شميت، يتشكَّل أي مجتمع سياسي عندما تُدرك مجموعة من الأشخاص وتعترف بأنَّها تتشارك في سمة ثقافية مميزة يعتقدون أنَّها تستحق أن يدافعوا عنها بأرواحهم. هذا الأساس الثقافي لمبدأ السيادة متأصلٌ في جوهره في الجغرافيا المحددة التي تسكنها هذه المجموعة من البشر. هنا نجد المواقف المتعارضة حول العلاقة بين الهوية الوطنية والقانون على المحك”.

ويضيف: “وفقاً لشميت، فإنَّ قوانين المجتمع (يستخدم كلمة nomos اليونانية)، أو إدراك هذا المجتمع لنفسه، هذا الإدراك الذي ينبع من جغرافيته، هو الشرط الفلسفي لتشكل قانونه. أما بالنسبة إلى الليبراليين، فإنَّ الأمة -على النقيض من شميت- تُعرَّف أولاً وقبل كل شيء من خلال التزاماتها القانونية”.

يتبع نتانياهو وأمثاله رؤية شميت السياسية، التي تجعل الالتزام بالقانون خاضعاً للجغرافيا والعِرق. إنَّ الأرض والعرق هما الدافع الكامن الجلي لدوافع نتانياهو السياسية. فقد تبنى هو وائتلافه، على سبيل المثال، سياسة السيطرة المتأنية على الضفة الغربية، سواء على أمل ترحيل الـ2.5 مليون فلسطيني الذين يعيشون هناك، أو قهرهم أو إخضاعهم.

كما جعلوا أيضاً اليهودية شرطاً يضرب بجذوره في أساسات الدولة، وذلك بعد إقرار “قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل” المثير للجدل. قد يبدو أنَّ التقارب مع القادة المعادين للسامية يتناقض وقانون الدولة-الأمة، غير أنَّ الدافع وراءه هو المنطق الدوَلاني (نسبة إلى statism \ دعم سيطرة الدولة)، والشميتي الذي لا تعود الدولة -وفقاً له- تعتبر نفسها ملتزمة بتمثيل جميع مواطنيها، بل تهدف عوضاً عن ذلك إلى توسيع أراضيها، وزيادة قوتها من طريق تحديد الأعداء بدقة، وتحديد من ينتمي إليها ومن لا ينتمي، وحصر مفهوم المواطنة أكثر فأكثر، وتقوية حدود الدولة المشتركة، وتقويض النظام الليبرالي الدولي. فما يربط بين فيكتور أوربان، رئيس الوزراء الهنغاري، وقانون القومية هو التوسيع المطلق والفج لنفوذ الدولة.

إنَّ التقارب مع أوربان وماروفيسكي يعني امتلاك حلفاء في المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية، ما سيساعد إسرائيل على حجب الأصوات غير المرغوب بها، وإضعاف الاستراتيجيات الدولية للفلسطينيين، وخلق تكتل سياسي يُمكن أن يفرض نظاماً دولياً جديداً. يمتلك نتانياهو ورفاقه استراتيجةً، كما أنَّهم يحاولون إعادة تشكيل النظام الدولي ليُحقق أهدافهم الداخلية. وهم يعتمدون على النصر النهائي والمطلق للقوى الرجعية، حتى يُمكنهم أن يتصرفوا كيفما يشاؤون داخل دولهم.

لكنَّ أكثر ما يبعث على الذهول هو أنَّ نتانياهو -من أجل تعزيز سياساته اللاليبرالية- على استعدادٍ لتجاهل الجزء الأكبر من الشعب اليهودي وتنحيته، وأكثر الحاخامات والمثقفين المقبولين، والأعداد الكبيرة من اليهود الذين دعموا -بواسطة المال والعمل السياسي- دولة إسرائيل. يُشير هذا الأمر إلى حدوث تحول واضح لا يُمكن إنكاره، تحوُّل من سياسة مُستندة إلى الشعب، إلى سياسة مُستندة إلى الأرض.

بالنسبة إلى غالبية اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل، تُمثل حقوق الإنسان، إضافةً إلى الكفاح ضدَّ معاداة السامية، القيم الأساسية لهم. ويُعد اندفاع نتانياهو نحو دعم الزعماء المستبدين المُعادين للسامية بمثابة دليلٍ على تحول عميق في هوية الدولة، فقد تحولت من دولة تُمثِّل الشعب اليهودي إلى دولة تهدف إلى تحقيق التوسع من طريق الاستيلاء على الأراضي، وانتهاك القوانين الدولية، إضافةً إلى الإقصاء والتمييز ضد الغير.

صحيحٌ أنَّ هذه السياسة ليست فاشية في حد ذاتها، لكنَّها بلا شك واحدة من السمات الأساسية للفاشية.

قد تكون الحالة الراهنة هذه مثيرة للقلق، لكن من المرجح أنَّها قد تتمخض عن تطوُّرين مثيرين للاهتمام، بل وحتى إيجابيين. التطور الأول هو أنَّه بالطريقة ذاتها التي تخلصت بها إسرائيل من “العقدة اليهودية” -من طريق التخلي عن دورها باعتبارها قائدة ومركزاً للشعب اليهودي بأكمله- إلا أنَّ الكثير من اليهود، أو معظمهم، سوف يحررون أنفسهم الآن على الأرجح من عقدتهم الإسرائيلية، ما سيؤدي إلى استيعابهم أخيراً أنَّ قيم إسرائيل تختلف بشدة عن قيمهم الخاصة. إنَّ المقال الافتتاحي الذي كتبه رونالد لودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، لصحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 13 آب 2018، الذي كاد يتبرأ فيه من إسرائيل، هو بمثابة برهان على ذلك.

كان لودر واضحاً جداً: فقدان إسرائيل للأخلاق يعني أنَّها لن تكون قادرة على المطالبة بالولاء غير المشروط من يهود العالم جميعاً. وما كان يعتبره كثر من اليهود في الماضي صراعاً داخلياً بدأ يتجه ببطء نحو التوصل إلى حل: سيُفضِّل كثيرون أو أغلبية المُنتمين إلى المجتمعات اليهودية أن يلتزموا بدساتير دولهم، أي أنَّهم سيلتزمون بحقوق الإنسان العالمية.

لم تعد إسرائيل بالفعل هي المركز الذي يتّجه إليه معظم يهود العالم، وبسبب حالتها هذه، فلن يكون بمقدورها أن تعتمد إلا على دعم مجموعة صغيرة من أصحاب المليارات واليهود المتشددين. هذا يعني أنَّه في المستقبل القريب، سيضعُف التأثير الذي تمتلكه إسرائيل على السياسة الأميركية بشكل كبير.

إنَّ “الترامبية” (نسبةً إلى ترامب) هي مرحلة موقتة في السياسة الأميركية، ونقطة تحول. سوف يزداد انخراط الأميركيين اللاتينيين، والمُنتمين إلى اليسار المتطرف، في المشهد السياسي في البلاد. وعندما يبدأون الانخراط، سوف يجد هؤلاء السياسيون أنَّ تبرير الدعم الأميركي المستمر للسياسة الإسرائيلية التي يمقتها الديموقراطيون الليبراليون سوف يُصبح أصعب وأصعب.
ولكن على عكس ما كان عليه الأمر في الماضي، لن يُحاول اليهود أن يضغطوا عليهم كي يتوقفوا عن معارضة هذا الدعم.

أما التطوّر الثاني المُثير للاهتمام فهو متعلق بأوروبا. لم يعد الاتحاد الأوروبي يعرف ما هي مهمته. غير أنَّ سياسات نتانياهو وترامب وأوربان وماركوفيسكي سوف تساعده على إعادة صياغة مهمته/ رسالته: إذ سيكون منوطاً بالتكتل الاجتماعي- الديموقراطي في الاتحاد الأوروبي أن يؤدي مهمة الوقوف في وجه معاداة السامية المدعومة من قبل دول كاملة، إضافة إلى جميع أنواع العنصرية… والأهم، الدفاع عن القيم الليبرالية لأوروبا، التي كافحنا نحن – يهوداً وغير يهودٍ، مؤيدين للصهيونية أو معارضين لها- بجد من أجل تحقيقها. لكنَّ إسرائيل، ويا للأسف، لم تعد بعد الآن مُشاركة في هذا الكفاح.

إيفا إيلوز

هذا المقال مترجم عن موقع صحيفة Haaretz ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

إقرأ أيضاً:
كيف تعلّم يهود أميركا أن يكونوا ليبراليّين؟
قانون الدولة الأمة اليهودية: كيف بات للتمييز العنصري جذورٌ قانونية
إنها ليست مزحة: يهودي ومسلم ومسيحي في حانة ليليّة شمال إسرائيل