أعاد التضخم الكبير للديون الخارجية لمصر، والتي وصلت قيمتها إلى نحو 166 مليار دولار- بحسب فوربس الاقتصادية-، إلى الأذهان عهد الخديوي إسماعيل الذي أغرق مصر في الديون قبل عزله من الحكم ووضع مصر تحت الرقابة الأوروبية، قبل أن تحتلها بريطانيا عام 1882، ولمدة 74 عاماً.
وخلال الـ10 سنوات الأخيرة، تضاعفت ديون مصر ثلاث مرات منذ وصول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للحكم، من 46 مليار دولار أثناء حكم الرئيس الموقت عدلي منصور، إلى نحو 166 مليار دولار، وزادت قيمة الدين الخارجي لمصر بنحو 12.3 مليار دولار في الربع الأول من عام 2022، بنسبة 8.5 في المئة، بحسب بيانات للبنك المركزي.
وتُقدّر الفوائد المطلوب سدادها عن القروض المحلية والأجنبية لمصر بحسب موازنة (2021/ 2022) بنحو 579.6 مليار جنيه، (3.7 مليار دولار) ليبلغ إجمالي أقساط وفوائد الديون المستحقة نحو 1.172 تريليون جنيه (7.5 مليار دولار).
فوائد القروض وابتلاع موارد الدخل
حين تستلم الخديوي إسماعيل الحكم كانت ديون مصر 11 مليون وستون ألف جنيه إسترليني، وخلال الثمانية عشر عاماً التي حكم البلاد فيها، بلغت حوالي 127 مليون جنيه إسترليني.
وكان الخديوي كلما أراد المال يستدين بفوائد باهظة؛ حيث كانت الفائدة الاسمية للقروض تتراوح بين 6 و7 في المئة، ولكن فائدتها الحقيقية تصل إلى 12 و18 و26 و27 في المئة، واضطرت الحكومة المصرية وقتها إلى أداء أقساط الديون المتراكمة وفوائدها بأي وسيلة، حتى إنها استدانت بوساطة السندات على الخزانة بفوائد هائلة، حتى أصبحت فوائد الديون تمثل 70 في المئة من الموارد العامة للدولة.
وتقول د.إيناس محمد البهيجي في كتابها “مصر في عهد الخديوي إسماعيل“، القروض هي السبب الأساسي لسوء حالة البلاد المالية، وقد ظهر أثرها في اختلال توازن الميزانية، إذ ابتلعت فوائد القروض معظم موارد الدخل، ولم يتبق إلاّ النزر اليسير لإنفاقه على البلاد واحتياجاتها. والخديوي إسماعيل لم يفرق بين مالية الحكومة وماليته الخاصة ومن هنا جاء الخلل وسوء الإدارة وضياع الأموال بغير رقيب”.
وفي أواخر عهد الخديوي كانت معظم إيرادات البلاد تحوَّل إلى صندوق الدين لسداد المرابين، وفوائد أسهم شركة السويس للحكومة البريطانية، ودفع الجزية السنوية للحكومة العثمانية، ولم يعد بين يدي الحكومة للصرف على إدارة البلاد أكثر من مليون جنيه، من مجموع قدره نحو تسعة ملايين ونصف المليون جنيه، ولم تكن تستطيع الاحتيال إلا بعدم دفع مرتبات موظفيها ومستخدميها، وبالعمل على تحويل ما يمكنها تحويله من الإيرادات العامة إلى صندوقها الخاص، بحسب كتاب “تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا” لـ”إلياس الأيوبي”.
أعاد التضخم الكبير للديون الخارجية لمصر، والتي وصلت قيمتها إلى نحو 166 مليار دولار- بحسب فوربس الاقتصادية-، إلى الأذهان عهد الخديوي إسماعيل الذي أغرق مصر في الديون قبل عزله من الحكم ووضع مصر تحت الرقابة الأوروبية، قبل أن تحتلها بريطانيا عام 1882، ولمدة 74 عاماً.
بناء القصور الفخمة
اتصفت فترة حكم الخديوي إسماعيل بالإسراف وإهدار المال العام على الحفلات وتشييد القصور وتجميلها؛ وقد بنى نحو ثلاثين قصراً من القصور الفخمة، منها سراي عابدین التي جعلها مقراً للحكم وحلت محل سراي القلعة التي بناها محمد على باشا، وسراي الجزيرة، وسراي بولاق الدكرور، وقصر القبة، وقصر حلوان، وسراي الإسماعيلية، وسراي الزعفران.
وبحسب كتاب “مصر في عهد الخديوي إسماعيل“، فقد بلغت “تكلفة تجميل هذه القصور وتأثيثها ما لا يحصى من الملايين، والنقوش والرسوم في قصور الجيزة والجزيرة وعابدين مليوني جنيه ونيفاً ، وبلغت تكاليف الستارة الواحدة ألف جنيه، وينقل الكتاب على لسان علي باشا مبارك أن ما أُنفق على إنشاء سراي الجيزة بلغ مليوناً و393374 جنيهاً، وسراي عابدين 565570 جنيهاً، وسراي الجزيرة 898691 جنيهاً، وسراي الإسماعيلية (الصغيرة) 201286 جنيهاً، وبقية القصور كلفت مليونين و331679 جنيهاً، ومن ذلك سراي الرمل 472399 جنيهاً.
ويتشابه عهد السيسي مع الخديوي في بناء القصور؛ إذ واجه انتقادات عام 2019 لإنشائخ قصوراً رئاسية جديدة، وقد رد السيسي، قائلاً: “أنا عامل قصور رئاسية وهعمل، أنا ببني دولة جديدة”.
وتظهر صورة فضائية على “غوغل إيرث”، القصر الرئاسي الجديد في العاصمة الإدارية الجديدة، ومساحته تبلغ 50 ألف متر مربع، أي 10 أضعاف البيت الأبيض، ويُقدّر البعض إنشاء تكلفة الطبقة الواحدة فيه بنحو مليار و250 مليون جنيه، وفي أيولو/ سبتمبر 2022 اعتقل الشاب كريم صفوت، لالتقاطه صورة ومقطع فيديو قصير في حديقة القصر الرئاسي، تحت الإنشاء.
في آب/ أغسطس 2018 أعلن مساعد وزير الإسكان خالد عباس، عن قصر الرئاسة بمدينة العلمين الجديدة، ونشرت صفحة “خريطة مشروعات مصر” الرسمية، صوراً للقصر الذي تم تصميمه على طراز شبيه بقصر رأس التين في الإسكندرية، كما تم تنصيب مسلة بحديقة القصر، تعود للملك رمسيس الثاني.
ويظهر موقع القصر الرئاسي بمدينة المستقبل على خرائط “غوغل إيرث”، وهو يقع في حدود مدينة المستقبل على طريق مصر الإسماعيلية الصحراوي، ويظهر على موقع “خريطة مشروعات مصر”.
وذكر الإعلامي أحمد منصور في مقال على صحيفة “الوطن” القطرية، أن القصر سيبنى على مساحة كبيرة وفيه من الفخامة ما يعود لقصور العصور الوسطى وقصص ألف ليلة وليلة، ويتضمن قصراً للحكم ملحقاً فيه قصر آخر لإقامة الرئيس وعائلته، وتحيط به 7 مبان أو ملاحق ستكون مكاتب إدارية لمستشاري الرئيس ومساعديه والمقر الرئيسي لإدارة الدولة.
وعام 2019 ادعى رجل الأعمال والفنان المصري، محمد علي، أنه كان من ضمن من تم تكليفهم ببناء قصر للرئيس وخمس فيلات لمعاونيه في منطقة الهايكستب العسكرية، على أن تكون كل فيلا مربوطة بنفق بمبنى جداري خرساني.
وقبل ثلاث سنوات عرض الإعلامي المصري المعارض، عبد الله الشريف، فيديو زعم أنه صور من داخل قصر السيسي، في منطقة الساحل الشمالي على البحر المتوسط.
مشاريع مظهرية بتكاليف ضخمة
يعد المشروع الوحيد الذى استخدم فيه الخديوي إسماعيل جزءاً من القروض هو قناة السويس، بكلفة 16 مليون إسترليني، أما بناء مصر الخديوية والأوبرا وحفر الترع وتحديث التعليم فتمت بجهود ذاتية، وأُنفقت القروض على مشروعات مظهرية وحفل افتتاح قناة السويس الذي كلف 11 مليون إسترليني.
بينما بلغت تكلفة قناة السويس الجديدة، في عهد السيسي نحو 14 مليار دولار، وأشارت بيانات هيئة قناة السويس إلى أن أعداد السفن العابرة من المجرى الملاحي بلغت 2024 سفينة، بزيادة 9 في المئة، ولا يُعرف إذا كانت توسعة القناة هي السبب أم زيادة تعرفة المرور على السفن.
فيما تكلفت العاصمة الإدارية الجديدة نحو 60 مليار دولار، ودشّن السيسي الكثير من مشاريع البنى التحتية المشكوك في فوائدها الاقتصادية، مثل: جسر روض الفرج المعلّق، ممشى أهل مصر، والمتحف المصري الكبير بكلفة 550 مليون دولار، وبناء المسجد الأكبر “لفتاح العليم“، بتكلفة 750 مليون جنيه والكاتدرائية الأكبر في الشرق الأوسط والبرج الأطول في أفريقيا الذي سيتكون من 250 طبقة، إضافة إلى إنشاء أكبر مدينة ملاهي في الشرق الأوسط، بكلفة استثمارية تبلغ 3.3 مليار دولار.
إقرأوا أيضاً:
ضغوط وتدخلات أجنبية
في كتابه “نهب المصريين قصة عار“، الذي ترجمه عز الدين شوكت، يُسلط “البريطاني جون سيموركي” الضوء على الضغوط التي مورست على الخديوي إسماعيل كي يسدد الديون المبالغ في تقديرها كرفع الضرائب على الفلاحين، وحثه على الإفراط في العنف ضدهم، سواء من القنصل البريطاني أو الفرنسي بالقاهرة، مبيناً كيف ساهمت هذه الممارسات في استنزاف الموارد المصرية الوفيرة.
وتتشابه تلك الأوضاع مع الأزمة الاقتصادية الراهنة والتي يعاني آثارها الشعب المصري؛ حيث بلغ معدل الفقر في مصر خلال العام 2019/ 2020 نحو 29.7 في المئة، أي ما يقرب من 30 مليون مصري، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
ويتدخل صندوق النقد الدولي في سياسات الحكومة المصرية بشروطه حتى يمنح مصر قروضاً جديدة، منها: المرونة في سوق الصرف والاتجاه نحو خفض قيمة الجنيه مقابل الدولار لتضييق الفجوة بين سعره في السوق الرسمي والسوق السوداء، وخفض عجز الموازنة وتعزيز الإيرادات العامة للدولة، وهو ما سيتطلب خفض الإنفاق العام وتقليص حصة العدالة الاجتماعية، وخفض قيمة الدعم، وهو ما يدفع الحكومة إلى رفع أسعار الكهرباء والمحروقات والمياه، وفرض مزيد من الضرائب، كضريبة القيمة المضافة، بجانب طرح حصص من الشركات العامة والأصول الحكومية للبيع للمستثمرين الأجانب.
الخبير الاقتصادي، إبراهيم نوار، يسأل عبر “درج” عن الحكمة في طلب القروض، وما إذا كانت مصر فعلاً في حاجة إليها، خصوصاً بعد حصولها على حزمة مساعدات سخية من الرياض وأبوظبي، مؤكداً أن القرض الجديد لن يكون ميسراً نظراً إلى ضخامة مديونية مصر للصندوق، وطبقاً لنظام الصندوق، فإن سعر الفائدة على القرض الجديد سيكون في حدود 4 في المئةسنوياً، وسيزيد بمقدار 5 مرات تقريباً عن سعر الفائدة الأساسي على قروض الصندوق، مشيراً إلى أن الصندوق يشترط الإسراع في تنفيذ برنامج الخصخصة الذي تتلكأ الحكومة في تنفيذه والالتزام بنظام مرن لسعر الصرف.
ويعتبر نوار أن سياسة الإصلاح الاقتصادي ساهمت في زيادة الفقر وسوء توزيع الدخل واللامساواة الاجتماعية، ويسعى الصندوق إلى صبغ القرض الجديد بطابع اجتماعي، متوقعاً ألاّ يتجاوز ذلك تحسين الصورة الشكلية لبرامج مثل “تكافل وكرامة”، وأن الحصاد النهائي للقرض الجديد سيكون مزيداً من التداعيات السلبية على الاقتصاد الحقيقي والطبقة الوسطى والفقراء. وإذ يستبعد حدوث الإفلاس، لأن مصر تسدد أقساط ديونها والفوائد المستحقة في مواعيدها، لكن المشكلة برأيه تتعلق بتسوية مدفوعات السلع الموجودة في الجمارك، والافراج عنها، واتباع سياسة حكيمة لجذب الدولار إلى الداخل وتمويل الواردات، والالتزام بدفع مستحقات خدمة الديون، مؤكداً أن هناك موارد دولارية كافية لذلك، لكنها تستنزف في تمويل مشروعات غير ضرورية، لذلك يجب تعديل أولويات الإنفاق في الميزانية العامة وتقليل الاقتراض المحلي لضمان استقرار الجهاز المصرفي.
إفلاس وعزل
يصف كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، على لسان السير ڨيڨين، القنصل البريطاني العام، الأزمة المالية في أواخر عهد الخديوي إسماعيل، قائلاً “إن الخزينة خالية خاوية، والجيش والمستخدمين محرومون من مرتباتهم منذ عدة شهور، وحال هؤلاء قد صارت إلى أشد البؤس والفقر، والشعب المصري يتذمر من أن يدفع لأصحاب الديون كل ما لهم”.
وفي 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1875، وافق الخديوي إسماعيل على بيع 177.642 سهم من أسهم شركة قناة السويس إلى بنك روتشيلد، مقابل أربعة ملايين جنيه استرليني، وبصعوبة شديدة تم سداد 2.1 مليون إسترليني من أقساط الديون عام 1877.
واضطر الخديوي في تشرين الثاني 1877 إلى وقف صرف مرتبات موظفي الدولة وقوات الجيش لشهور وتوقفت أجهزة الدولة بالكامل، وفي كانون الثاني/ يناير 1878 كانت مصر على وشك المجاعة، حتى تم تعيين لجنة من ستة أوروبيين لمراجعة الوضع الاقتصادي والاستيلاء على ممتلكات الخديوي الشخصية وأراضيه البالغة نصف مليون فدان وتعيين اثنين من الوزراء الأوروبيين فى الحكومة، وفي 11 كانون الثاني 1879 حدث توتر شديد واحتجاجات بسبب الضرائب الجديدة، وفي 7 نيسان/ أبريل قام الخديوي بتنحية الوزيرين الأوروبيين لتهدئة الشعب.
في النهاية أصدر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني فرماناً في 7 آب/ أغسطس 1879، بعزل الخديوي إسماعيل وتنصيب الخديوي توفيق، ليغادر مصر بعدها متجهاً لإيطاليا، وتاركاً لمصر ديوناً تُقدّر بـ 126 مليون و354 ألفاً و360 جنيهاً.
ويبقى السؤال، هل يعيد التاريخ نفسه ويلاقي السيسي مصير إسماعيل بعدما أغرق كلاهما مصر في الديون؟ أم يكتب لنفسه مصيراً مختلفاً ويجد مخرجاً للأزمة الاقتصادية؟
إقرأوا أيضاً: