كانت دقّات ساعة “بيغ بين” الشهيرة تتردد في بيتنا عندما زارنا جدي وعاش معنا أسابيع عدة، بعد أن كان مهاجراً لأكثر من ثلاثين عاماً إلى الكويت، لم يحضر خلالها مرة واحدة إلى لبنان. حين غزا صدام حسين الكويت، اضطر إلى الرحيل، وعاد إلى بلاده برّاً ليموت هنا بين أولاده بعد أقل من سنتين بمرض عضال. أمضى لدى بناته وأبنائه أوقاتاً للتعرف إلى عائلاتهم وأحفاده، وفي الفترة التي أمضاها عندنا، كان يرافقه جهاز راديو صغير ببطاريات كبيرة، له غطاء جلدي بنيّ اللون، ويلتقط موجات الـFM والـAM. لكن جدّي كان وفياً لإذاعتين: هيئة الإذاعة البريطانية من لندن و”صوت العرب” من القاهرة، فلا يحرّك إبرة البحث، إلا لينتقل من واحدة إلى الثانية وبالعكس، أو في حال عبثنا بالإبرة، أخي وأنا، يغتاظ لأنّنا خربنا له التقاط الإذاعة التي تزوّده بكل ما يجب أن يعرفه عن العالم.
كان الراديو لا ينطفئ أبداً. قد يخفض جدي الصوت أو يرفعه، لكنه لا يطفئه أبداً، وكان يستهلك كمية كبيرة من البطاريات على مدار الشهر، نستخدمها أخي وأنا لنلعب بها في حديقة البيت. حتى عندما كان ينام، كان يترك الراديو شغّالاً على هيئة الإذاعة البريطانية من لندن. وحفظتُ من الراديو مواعيد نشرات الأخبار بتوقيت غرينيتش وعبارة “هنا لندن” التي كانت تبدأ بها هذه النشرات بعد رنين “بيغ بين”. وألفت أصوات المذيعين والمذيعات الدافئة التي كانت على الغالب أنيس جدي في غربته، واعتاد رفقتها في وحدته، وكأنها أصوات تعيش معه في البيت، فكان ينام ويستيقظ عليها. من الراديو، كان يستمع إلى نشرات الأخبار، والموسيقى، وإلى البرامج الثقافية، ولا أنسى أنه دعاني مرة إلى سماع نقاش في الإذاعة حول أغنية “هذه ليلتي” لأم كلثوم، التي كتب كلماتها الشاعر اللبناني جورج جرداق، ثم راح يعطيني أمثلة، لم أفهمها يومها، عن سحر أبيات القصيدة، التي كان يهتف حين يسمع أم كلثوم تشدو بها: “الله الله يا جورج جرداق”، مثمّناً الكلام على الغالب أكثر من اللحن. وقد كان حافظاً للشعر، ومثل كثيرين من أبناء جيله تعشق أذنه قبل العين غالباً، ويشكّل الراديو مصدراً أساسياً للمعلومات والمتعة والتسلية.
أتى اقفال القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية مع أقسام بعشر لغات أخرى بينها الفارسية والصينية، “لتخفيض التكاليف”
كل هذه الذكريات داهمتني دفعة واحدة مع قراءتي خبر إغلاق القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية الذي افتتح عام 1938، مع أول نشرة أذيعت عبر الأثير من لندن. وكان لجدّي حينها 14 عاماً من العمر، ولا أعرف اذا كان قد استمع إلى إذاعة الـ”بي بي سي” منذ شبابه مع تأسيسها، لكنني أعرف أنها رافقته حتى مماته، واستمرت هي بعد رحيله لثلاثين عاماً، وأعلم أنها شكّلت مصدراً أساسياً لثقافته وتكوين شخصيته، كما شكّلت “بي بي سي”، لجيل من الصحافيين والصحافيات مصدراً موثوقاً للمعلومات الدقيقة والمحايدة، فكان إذا قال الراديو في هيئة الإذاعة البريطانية، صَدَق.
تذكّرت جدي، وتذكّرت معه سعيد صالح في مسرحية “مدرسة المشاغبين” وهو يقول: “سننتتضم الإذاعة المحلية إلى إذاعة البي بي سي”. ثم يقول، بخفة دمه الاستثنائية: “مارشات عسكرية وقرآن”، قبل أن يعلن(على لسان الإذاعة): “مرسي ابن المعلّم الزناتي اتهزم يا رجّالة”. ولا اعرف لماذا أحالتني المارشات العسكرية والقرآن إلى دفن الملكة اليزابيث، حيث كان هناك في الدفن مارشات عسكرية، وبدل القرآن تراتيل كنسية، حيث لا تبتعد “هزيمة” راديو “بي بي سي” عربي، عن النقاش حول كلفة مراسم دفن الملكة في بريطانيا التي تعاني من أزمة اقتصادية، وأتى اقفال القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية مع أقسام بعشر لغات أخرى بينها الفارسية والصينية، “لتخفيض التكاليف”، بحسب ما جاء في بيان “خدمة بي بي سي العالمية”. وسينتج عن هذه “الهزيمة” صرف 382 موظفاً في مواقع مختلفة في الأقسام الإذاعية التي تم إقفالها. لكن اللغات هذه ستبقى موجودة، وستنتقل إلى أقسام الـ”أونلاين”.
فكّرت بجدّي حين قرأت الخبر المؤسف، وحاولت أن أتذكّر نبرة صوته وعجزت. لكنني أسمع طنين “بيغ بن” منذ الأمس، وأسمع صوتاً يبتعد لمذيع لا أعرف اسمه، يتمتم كلمات لا أفهمها، لكن تبدو أليفة للغاية، وتبعث على الاطمئنان.
قبل سنوات، وأنا أبحث عن “فونوغراف” في أحد محال بيع الأجهزة العتيقة، عثرت على راديو مطابق للجهاز الذي اقتناه جدي، مثله تماماً، بالغطاء الجلدي البنيّ نفسه. لكنه لا يعمل. قال البائع إن إصلاحه قد يكون ممكناً، لكنه قال أيضاً إن العثور على بطاريات بالحجم الكبير قد يكون صعباً جداً في هذا الزمن. اشتريته ووضعته من دون تصليح على رفّ في البيت. لا أعرف على أي موجة كانت تبث هيئة الإذاعة البريطانية باللغة العربية، لكن يخيّل إليّ أن الإبرة، لا شكّ مضبوطة هناك، حيث كان يضبطها جدّي دائماً، ثم وأنا أنظر إلى الراديو الجامد والصامت على الرفّ، أسمع “بيغ بين” تطنّ بلا توقّف.