fbpx

رسالتي الأخيرة إلى ابني…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اليوم، وأنت تطفئ أربع عشرة شمعة، داخلاً إلى مرحلة جديدة من العمر، ستكون رسالتي هذه، آخر الرسائل التي أكتبها إليك. لا غضباً ولا يأساً، وليس لأن مشاعري جفّت، أو لم يعد لديّ ما أكتبه إليك، ففي قلبي الكثير…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حبيبي إياد…

قلت لنفسي، لا بدّ أنك تحتفل اليوم بعيد ميلادك في مكان ما، حاولتُ أن أستقصي، أن أخمّن، علّي أكون قريبة، توهّمتُ ذلك. فوجدتني أدور على مطاعم المدينة، وعلى أماكن تقام فيها حفلات من هذا النوع. أذناي تبحثان عن صوت يدلني إلى غايتي، وعيناي تلاحقان طيف كل فتى في مثل سنك، ولكن فشلت.

أنا لا أعرف أساساً الأماكن التي ترتادها، ولا أعرف مواعيد خروجك، وربما إذا التقيتُ بك صدفة، لن أتمكن من معرفتك على الفور، فبيننا إحدى عشرة سنة من البعد.

منذ انفصالنا، اعتدتُ أن أكتب إليك في يوم ميلادك، رسالة. أحشدها، بكل ما في قلبي من مشاعر الحب والشوق واللهفة، وأسترجعُ فيها ذكرياتنا القليلة معا. طمعتُ على مدى الأعوام التي مضت، أن تصلك إحداها. كنتُ أكتب كل عام، لأتخيل أنك تقرأ، وتتأثر، ويتحرك في نفسك الفضول، لتتعرف على هذه الإمرأة، التي تكنّ لك كل ما في الدنيا من حب، لكنك لم تفعل. لا أدري، ربما لم تصلك أي منها، ربما قرأتَ بعضها ولم تهتم، أو ربما لا يعنيك ما يعنيني. شيء لا أفهمه، يحول دون حدوث ما يجب أن يحدث.

 

اليوم، في عيدك الرابع عشر، أعترف أيضا، وبكثير من الأسى، أنني بتّ مقتنعة، أنك لا ترغب في رؤيتي ولا في التعرف إليّ، وأن مشاعرك مكتملة. تلك المساحة المخصصة للأمهات في قلوب أبنائهن، يبدو أنها ممتلئة لديك. مؤلم أن أعترف بإحباطي، لكن ينبغي ذلك

 

اليوم، وأنت تطفئ أربع عشرة شمعة، داخلاً إلى مرحلة جديدة من العمر، ستكون رسالتي هذه، آخر الرسائل التي أكتبها إليك. لا غضباً ولا يأسا، وليس لأن مشاعري جفت، أو لم يعد لديّ ما أكتبه إليك، ففي قلبي الكثير. إنما، لأني وجدت أن هذه الوسيلة أيضا، غير نافعة. على مدى الأعوام التي مضت، جربتُ وسائل كثيرة، لأبقى قريبة منك. تعمّدتُ مرارا، أن أظهر فجأة أمامك، كنت لا أقترب، ولا أتكلم، ولا أقوم بأي حركة. كان ممنوعاً عليّ الاقتراب والهمس واللمس.

كنت أقف مثل تمثال في منتصف طريقك، كنت أحاول أن أجعلك تؤمن أنني طيف، خيال، يلوح أمامك فجأة ثم يختفي، كي تحتفظ ذاكرة عينيك بشكلي، بتفاصيل وجهي، كي لا أصبح نسياً منسيا. لكنك، لم تبد يوما أي ردة فعل، كنت تكمل طريقك كأنك لا تراني. أعرف أنهم حشوا قلبك بالحقد عليّ، وعلموك كرهي ونكراني، قاومتُ هذه الفكرة طويلا، لكني أعترف اليوم، أنهم نجحوا.

اليوم، في عيدك الرابع عشر، أعترف أيضا، وبكثير من الأسى، أنني بتّ مقتنعة، أنك لا ترغب في رؤيتي ولا في التعرف إليّ، وأن مشاعرك مكتملة. تلك المساحة المخصصة للأمهات في قلوب أبنائهن، يبدو أنها ممتلئة لديك. مؤلم أن أعترف بإحباطي، لكن ينبغي ذلك.  صحيح أن الأمهات كائنات من ورق، لكن أبناءهن يمنحونهن الحياة، وأنا يا حبيبي يئست، من محاولات خلق حياة من الورق.

وأنا أكتب رسالتي هذه، أخبرتني إحداهن عبر الهاتف، أنها رأتك ماشياً مع رفاق لك في الطريق، الآن. لا أدري إن كنت تدري، كيف يمكن لخبر كهذا، أن يجعل من قلب يائس مثل قلبي، كتلة متدحرجة من الأمل، تجوب الطرقات، تقفز عن الأسوار، تهرول في الأزقة، تصعد وتهبط الأدراج، تركض خلف كل الفتيان الذين تصادفهم، تتفرس في وجوههم، وتسأل المارة والبائعين عن فتى في الرابعة عشرة من عمره، مرّ من هنا؟!

محاولة أخرى فاشلة، يا حبيبي، كأنه كان ينقصني المزيد من الإحباط، لكن لا بأس، سأضيفها إلى محاولاتي الأخرى الفاشلة، البائسة، ربما سأحدثك عنها كلها يوما ما. سأنتظر، هذا ما سوف أتعلمه وأتقنه في أيامي المقبلة، الانتظار.

سأفعل كما فعلت زينة، صديقتي، انتظرت حتى تجاوز ابنها سن الرشد القانوني، ثم ذهبت إليه في الجامعة وقالت له: “أنا أمك”. ربما سأنتظر واحداً وعشرين عاما، كما انتظرت إلهام، صديقتي الأخرى، ابنتها، التي بحثت عنها سنوات طويلة، إلى أن اهتدت إليها في مكان عملها. وسأنتظر كما انتظرت ليلى قريبتي، في قريتها القصية، البعيدة جدا عن بيروت، حيث كان يكبر أبناؤها الثلاثة بعيدا عنها، ثم، في ليلة شتوية، قرعوا باب بيتها…

لا أدري لماذا خطرت ببالي، وأنا أستذكر هؤلاء النساء، اللواتي تجمعني بهن الصداقة والمأساة والطائفة، افتخار مشايخ طائفتنا الكريمة بفتح باب الاجتهاد في المسائل الفقهية على مصراعيه، رباعية صلاح جاهين: “يا طير يا طاير في السما طز فيك”، لكني أخذت أرددها على طريقتي “يا قاضي الشرع في المحكمة الجعفرية طز فيك”.

سأنهي رسالتي الأخيرة إليك، يا حبيبي، وأنا أمني النفس، بأن تكون حصتي من الأمل، وفيرة، كما حصص صديقاتي، سأتجرأ أن أحلم بأنك ستأتيني العام المقبل، سأصدق أنه سيقودك إليّ، شوقك إليّ، وسأترك لك الباب مفتوحا، فتعال…تعال…هذا العام.

 

اسمع يا رضا