fbpx

زمن “الاغتراب” القبيح 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

القمع والنزاع والفوضى، أمات العمل السياسي، بمختلف تنظيماته وأفكاره، حتى تحول الناشطون في الفكر والسياسة، إلى عدميين في الحياة وما بعد الحياة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الوقت الحالي، يعيش كثر من الناس، بخاصة الشباب، في أقصى مشاعر الاغتراب. هذه المشاعر لم تولد فقط من حالة العزلة السياسية التي فرضتها السُلطويات القمعية، التي صعدت، أو حتى رسَّخت نفسها، بعدما فشلت الانتفاضات العربية المتوالية بدءاً من كانون الأول/ ديسمبر من عام 2010 (تونس) في تحقيق مطالب وأحلام العيش والحرية والعدلة الاجتماعية. بل زاد من هذه الحالة، صعود مفاهيم مختلفة، مثل الفردانية والانشغال بالذات وعبادة الإنجاز والنوستالجيا وغير ذلك. فكيف وصلنا إلى هذه الحالة من الاغتراب؟ 

أدى قمع الأنظمة السياسية السلطوية إلى تصحير المجال السياسي في دول كثيرة، تأتي في صدارتها مصر، بعد صعود نظام سياسي فرض نفسه بالقوة بعد انقلاب عسكري في حزيران/ يوليو من عام 2013، بدوره قمع الحياة السياسية والاجتماعية، عبر القتل والسجن والإخفاء والترهيب والتأميم. فضلاً عن دول أُخرى، بدأت الثورة فيها، لكن سرعان ما تحولت إلى حروب ونزاعات مسُلّحة، تديرها أطراف داخلية وخارجية، ما أدى إلى قتل وسجن وتهجير ولجوء مئات الآلاف من الناس، من بين هذه الدول كانت سوريا وليبيا واليمن، وأخيراً لحق بها السودان. 

هذا القمع والنزاع والفوضى، أمات العمل السياسي، بمختلف تنظيماته وأفكاره، حتى تحول الناشطون في الفكر والسياسة، إلى عدميين في الحياة وما بعد الحياة. بات كثيرون لا ينتمون إلى أي شيء، لا أفكار ولا عمران ولا نُظم ولا مُجتمعات، بل فقط إلى مشاعر الاغتراب، البحث عن الذات، عن المعنى. المعنى الذي يصعب إيجاده في زمن سرعة وسيولة كل شيء يدور من حولنا. لذا، انتهى زمن الأفكار والتنظيمات، واستُبدل الاحتجاج بالاغتراب. 

أدت السُلطويات السياسية دوراً مهماً وأساسياً في ولادة هذه المشاعر، عبر قمعها المُتعدد، كما من خلال اتباعها استراتيجية محو أي “وجود” ينتمي إلى أزمنة المعنى، المشاعر والأفكار والمطالب والاحتجاجات. يتم تغيير العمران، يُمحى من الوجود، أُزيح وحلّ مكانه عُمران جديد. المقابر الأثرية استُبدلت بالطرق الواسعة، المباني القديمة هُدمت وبنيَت مكانها المولات والأبراج الضخمة، ميادين الاحتجاج وجدرانها، تعاد هيكلتها بنصب تذكارية تُمجد المنتصر وشعاراته المزيّفة. 

في الوقت الحالي، يعيش كثر من الناس، بخاصة الشباب، في أقصى مشاعر الاغتراب.

بدايةً، كان هذا التمهيد الذي استقبلته فئات كثيرة بالاستسلام، بل وانغمست أكثر في مفاهيم أُخرى، عززت من مشاعر الاغتراب، من أهمها مفهوم الفردانية، والذي بدوره عزز عمل الفرد من أجل ذاته، إشباعها فقط. هذا الإشباع الذي لا ينتهي، ولا خلاص منه. الذات تحتاج الى المزيد من الإشباع، طالما اقتُصر هذا الإشباع بالإنجاز، الإنجاز المُتجدد الذي تحول إلى طقوس وعبادة. تجد الكثيرين اليوم منخرطين في أعمال لا تنتهي، مشغولين بها طيلة الوقت. وهنا تحول العمل من مجرد هدف لتحقيق عائد ذاتي واجتماعي، مادي ونفسي، إلى غاية في حد ذاته، غاية تصل إلى حد العبادة، عبادة العمل والانشغال. 

هذه الأعمال ليست مرهونة بإنجازها فحسب، بل أيضاً بإشهارهَا إلى العلن لتحصيل الرضا والقبول من المتفرجين عليها. وهنا تحول رأي الجمهور من شيء يقبل ويرفض، صحيح وخاطئ، إلى شيء ليس مطروحاً للنقاش. إذ ارتبطت قيمة الإنجاز برضا الجمهور، فإذا لم يتحقق الرضا المرغوب والمتوقع، فلا قيمة له، وتعاد صناعته وعرضه مجدداً. ما أدى إلى النظر إلى كل أعمالنا، من فنون بصرية وسمعية ومادية وغير ذلك، إلى سلعة تعرض وتباع وتشترى وتقيّم. 

عبادة الانشغال أدت إلى كثرة الإنجازات، ما أدى إلى فقدان قيمة الإنجاز ذاته. وتحول الكثير إلى عارضين لأي شيء. وصل الأمر إلى عرض الناس ذواتهم، حيواتهم، “يومياتهم العارية”، من طبخ وأحاديث بيتية خاصة، لا تهم سوى من يفعلها. لكن هؤلاء العارضين، هم في الأساس، باحثون عن الاعتراف، باحثون أن يكونوا مرئيين، أن يخرجوا من الظل والتهميش إلى المركز. كانت وسائل التواصل الاجتماعي بوابة لهم، لعرض أنفسهم على الآخرين والخروج إلى المرئي بعد سنوات من العيش في الهامش. 

كما وفرت وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال عرض الإعلانات عليها، كسب المال، ما دفع كثير من الناس إليها في ظل حالة تردي مستوى المعيشة، ووصول الناس إلى درجات قصوى من معدلات الفقر والفقر المُدقع. هنا اتجه كثيرون الى تقديم أي شيء، أي محتوى، حتى لو كان بلا محتوى، لتوفير المال، في عالم استبدلت فيه الحرفة بالمهنة حسب الفيلسوف الكندي آلان دونو، أي عالم بلا تخصّص. 

كذلك من ضمن تمظهرات الاغتراب، حالة الغوص في “النوستالجيا”، الحنين إلى الماضي، وتجاهل الحاضر والمُستقبل. فقدان الأمل في تغيير أي شيء، من قبيح إلى جميل، من أوضاع فنية وثقافية وسياسية واجتماعية وحقوقية. هذا ما نراه في استحضار الكثير، لمقولات “درامية” لزمن قديم، أدباء ومخرجون وفنانون قدامى. نستعيد كتاباتهم ومقولاتهم وفنونهم، للغرق فيها، بدلاً من صناعة قيمة حاضريَة، تنافس القيمة الماضية. العودة إلى الماضي، لم تتركها أدوات السوق التي ترعاها المنظومة النيوليبرالية، بل لعبت هذه المنظومة على المشاعر الجياشة نحو الماضي، فبدأت في استحضار قيم منه، وربما أشخاص أيضاً، لصناعة سلعة فيها بعض من النوستالجيا تتربح من خلالها. 

تجلى هذا في حفلات  الهولوغرام، وهي حفلات يُجَسَّد فيها أشخاص قد رحلوا عن الدنيا، لكنّهم مُبَرْمَجون على إيماءات توحي بتفاعلهم المسرحيّ مع الجمهور، مثل حفلات عبد الحليم حافظ وأمّ كلثوم؛ فعشّاق نوستالجيا الحفلات القديمة، بدلًا من انتظارهم على إحدى القنوات التلفزيونيّة، أو مشاهدة حفلاتهم المسجّلة على “يوتيوب”، يذهبون إلى هذه الحفلات الهولوغراميّة، الّتي تكون باهظة الأثمان في تذاكر حضورها، كما تجلّى أيضاً في إعلانات الشركات والبرامج وغير ذلك. 

هذه السرعة، هذا الزمن الذي يركض، وبدورنا نركض وراءه، يحتاجان إلى التوقف. الزمن لا يتوقف، لكن نحن من عليه التوقف. التوقف لا من أجل الشلل، بل للتأمل، لإدراك بعض ما نعيش فيه، من خلال ذواتنا وأجسادنا، للنظر بدقة، للمراجعة، لأخذ الأنفاس الهادئة، للاستراحة من الركض، والتفكير في كيف نعيش حياتنا، ونعبر عن ذوات حقيقية، لا ذوات تصنعها المنظومات المُحيطة بنا. 

17.09.2023
زمن القراءة: 4 minutes

القمع والنزاع والفوضى، أمات العمل السياسي، بمختلف تنظيماته وأفكاره، حتى تحول الناشطون في الفكر والسياسة، إلى عدميين في الحياة وما بعد الحياة.

في الوقت الحالي، يعيش كثر من الناس، بخاصة الشباب، في أقصى مشاعر الاغتراب. هذه المشاعر لم تولد فقط من حالة العزلة السياسية التي فرضتها السُلطويات القمعية، التي صعدت، أو حتى رسَّخت نفسها، بعدما فشلت الانتفاضات العربية المتوالية بدءاً من كانون الأول/ ديسمبر من عام 2010 (تونس) في تحقيق مطالب وأحلام العيش والحرية والعدلة الاجتماعية. بل زاد من هذه الحالة، صعود مفاهيم مختلفة، مثل الفردانية والانشغال بالذات وعبادة الإنجاز والنوستالجيا وغير ذلك. فكيف وصلنا إلى هذه الحالة من الاغتراب؟ 

أدى قمع الأنظمة السياسية السلطوية إلى تصحير المجال السياسي في دول كثيرة، تأتي في صدارتها مصر، بعد صعود نظام سياسي فرض نفسه بالقوة بعد انقلاب عسكري في حزيران/ يوليو من عام 2013، بدوره قمع الحياة السياسية والاجتماعية، عبر القتل والسجن والإخفاء والترهيب والتأميم. فضلاً عن دول أُخرى، بدأت الثورة فيها، لكن سرعان ما تحولت إلى حروب ونزاعات مسُلّحة، تديرها أطراف داخلية وخارجية، ما أدى إلى قتل وسجن وتهجير ولجوء مئات الآلاف من الناس، من بين هذه الدول كانت سوريا وليبيا واليمن، وأخيراً لحق بها السودان. 

هذا القمع والنزاع والفوضى، أمات العمل السياسي، بمختلف تنظيماته وأفكاره، حتى تحول الناشطون في الفكر والسياسة، إلى عدميين في الحياة وما بعد الحياة. بات كثيرون لا ينتمون إلى أي شيء، لا أفكار ولا عمران ولا نُظم ولا مُجتمعات، بل فقط إلى مشاعر الاغتراب، البحث عن الذات، عن المعنى. المعنى الذي يصعب إيجاده في زمن سرعة وسيولة كل شيء يدور من حولنا. لذا، انتهى زمن الأفكار والتنظيمات، واستُبدل الاحتجاج بالاغتراب. 

أدت السُلطويات السياسية دوراً مهماً وأساسياً في ولادة هذه المشاعر، عبر قمعها المُتعدد، كما من خلال اتباعها استراتيجية محو أي “وجود” ينتمي إلى أزمنة المعنى، المشاعر والأفكار والمطالب والاحتجاجات. يتم تغيير العمران، يُمحى من الوجود، أُزيح وحلّ مكانه عُمران جديد. المقابر الأثرية استُبدلت بالطرق الواسعة، المباني القديمة هُدمت وبنيَت مكانها المولات والأبراج الضخمة، ميادين الاحتجاج وجدرانها، تعاد هيكلتها بنصب تذكارية تُمجد المنتصر وشعاراته المزيّفة. 

في الوقت الحالي، يعيش كثر من الناس، بخاصة الشباب، في أقصى مشاعر الاغتراب.

بدايةً، كان هذا التمهيد الذي استقبلته فئات كثيرة بالاستسلام، بل وانغمست أكثر في مفاهيم أُخرى، عززت من مشاعر الاغتراب، من أهمها مفهوم الفردانية، والذي بدوره عزز عمل الفرد من أجل ذاته، إشباعها فقط. هذا الإشباع الذي لا ينتهي، ولا خلاص منه. الذات تحتاج الى المزيد من الإشباع، طالما اقتُصر هذا الإشباع بالإنجاز، الإنجاز المُتجدد الذي تحول إلى طقوس وعبادة. تجد الكثيرين اليوم منخرطين في أعمال لا تنتهي، مشغولين بها طيلة الوقت. وهنا تحول العمل من مجرد هدف لتحقيق عائد ذاتي واجتماعي، مادي ونفسي، إلى غاية في حد ذاته، غاية تصل إلى حد العبادة، عبادة العمل والانشغال. 

هذه الأعمال ليست مرهونة بإنجازها فحسب، بل أيضاً بإشهارهَا إلى العلن لتحصيل الرضا والقبول من المتفرجين عليها. وهنا تحول رأي الجمهور من شيء يقبل ويرفض، صحيح وخاطئ، إلى شيء ليس مطروحاً للنقاش. إذ ارتبطت قيمة الإنجاز برضا الجمهور، فإذا لم يتحقق الرضا المرغوب والمتوقع، فلا قيمة له، وتعاد صناعته وعرضه مجدداً. ما أدى إلى النظر إلى كل أعمالنا، من فنون بصرية وسمعية ومادية وغير ذلك، إلى سلعة تعرض وتباع وتشترى وتقيّم. 

عبادة الانشغال أدت إلى كثرة الإنجازات، ما أدى إلى فقدان قيمة الإنجاز ذاته. وتحول الكثير إلى عارضين لأي شيء. وصل الأمر إلى عرض الناس ذواتهم، حيواتهم، “يومياتهم العارية”، من طبخ وأحاديث بيتية خاصة، لا تهم سوى من يفعلها. لكن هؤلاء العارضين، هم في الأساس، باحثون عن الاعتراف، باحثون أن يكونوا مرئيين، أن يخرجوا من الظل والتهميش إلى المركز. كانت وسائل التواصل الاجتماعي بوابة لهم، لعرض أنفسهم على الآخرين والخروج إلى المرئي بعد سنوات من العيش في الهامش. 

كما وفرت وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال عرض الإعلانات عليها، كسب المال، ما دفع كثير من الناس إليها في ظل حالة تردي مستوى المعيشة، ووصول الناس إلى درجات قصوى من معدلات الفقر والفقر المُدقع. هنا اتجه كثيرون الى تقديم أي شيء، أي محتوى، حتى لو كان بلا محتوى، لتوفير المال، في عالم استبدلت فيه الحرفة بالمهنة حسب الفيلسوف الكندي آلان دونو، أي عالم بلا تخصّص. 

كذلك من ضمن تمظهرات الاغتراب، حالة الغوص في “النوستالجيا”، الحنين إلى الماضي، وتجاهل الحاضر والمُستقبل. فقدان الأمل في تغيير أي شيء، من قبيح إلى جميل، من أوضاع فنية وثقافية وسياسية واجتماعية وحقوقية. هذا ما نراه في استحضار الكثير، لمقولات “درامية” لزمن قديم، أدباء ومخرجون وفنانون قدامى. نستعيد كتاباتهم ومقولاتهم وفنونهم، للغرق فيها، بدلاً من صناعة قيمة حاضريَة، تنافس القيمة الماضية. العودة إلى الماضي، لم تتركها أدوات السوق التي ترعاها المنظومة النيوليبرالية، بل لعبت هذه المنظومة على المشاعر الجياشة نحو الماضي، فبدأت في استحضار قيم منه، وربما أشخاص أيضاً، لصناعة سلعة فيها بعض من النوستالجيا تتربح من خلالها. 

تجلى هذا في حفلات  الهولوغرام، وهي حفلات يُجَسَّد فيها أشخاص قد رحلوا عن الدنيا، لكنّهم مُبَرْمَجون على إيماءات توحي بتفاعلهم المسرحيّ مع الجمهور، مثل حفلات عبد الحليم حافظ وأمّ كلثوم؛ فعشّاق نوستالجيا الحفلات القديمة، بدلًا من انتظارهم على إحدى القنوات التلفزيونيّة، أو مشاهدة حفلاتهم المسجّلة على “يوتيوب”، يذهبون إلى هذه الحفلات الهولوغراميّة، الّتي تكون باهظة الأثمان في تذاكر حضورها، كما تجلّى أيضاً في إعلانات الشركات والبرامج وغير ذلك. 

هذه السرعة، هذا الزمن الذي يركض، وبدورنا نركض وراءه، يحتاجان إلى التوقف. الزمن لا يتوقف، لكن نحن من عليه التوقف. التوقف لا من أجل الشلل، بل للتأمل، لإدراك بعض ما نعيش فيه، من خلال ذواتنا وأجسادنا، للنظر بدقة، للمراجعة، لأخذ الأنفاس الهادئة، للاستراحة من الركض، والتفكير في كيف نعيش حياتنا، ونعبر عن ذوات حقيقية، لا ذوات تصنعها المنظومات المُحيطة بنا. 

17.09.2023
زمن القراءة: 4 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية