تحوّل سيد درويش – مع مرور الزمن – إلى رمز وطني في الثقافة الجمعيّة المصرية؛ من خلال ألحانه التي ناهضت الاستعمار البريطاني إبان ثورة 1919. واقترن اسمه بحركة التطور والتجديد التي شهدتها الموسيقى العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين. وعلى رغم أهمية الألحان التي أنجزها وجماليتها، فإنها لم تكن تصل إلينا لولا تضافر مجموعة من العوامل التكنولوجية والبشرية.
سجَّل الرجل مجموعة من الأسطوانات الحجرية مع إحدى الشركات التجارية. كما سجّل نجله محمد البحر مجموعة من ألحانه على أسطوانات خلال مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932. أما ألحانه المسرحية، فقد لعب المطرب والملحن سيد مصطفى دوراً بارزاً في حفظها ونقلها من جيل الى آخر. فكان صوته بمثابة القنطرة التي عبرت خلالها هذه الألحان من حقبة الى أخرى. وعلى رغم هذا الدور “الخطير” الذي أداه، فإنه لم يحظَ بالاهتمام الكافي من الكُتَّاب أو الباحثين الذين شغفهم إرث سيد درويش الفني.
علامات النبوغ الفني
المعلومات المتوافرة حول سيد مصطفى أحمد الفطاطري، شحيحة للأسف. لكننا نتعرف على شذرات من رحلته الفنية عبر حوار أجرته معه مجلة “الراديو المصري” بتاريخ 6/7/1946. وجاء فيه أنه من مواليد حي الناصرية في السيدة زينب عام 1906. وقد التحق في طفولته بكُتَّاب الشيخ عبد ربه، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة وشيئاً من آيات الذِكر الحكيم. وبعد الكُتَّاب، كان يهيم على وجهه باحثاً عن الأفراح والليالي الملاح، إذ انتشرت في هذا الحي جماعات “الصهبجية” الذين عُرفوا بترديدهم الغناء القديم من الموشحات وأعمال الشيخ سلامة حجازي. وبدأ عشقه للغناء نتيجة لتأثره بأداء الشيخ محمد الكحلاوي الكبير، خال المطرب المعروف محمد الكحلاوي. فقد كان مطرباً عظيم الشأن وله باع في الغناء البلدي.
وذات ليلة، حضر سيد مصطفى حفل زفاف في حي عابدين، وكان علي الكسّار من بين الحضور. وطلب منه بعض أهالي الحي الغناء، فأُعجب الكسّار بصوته وطلب منه زيارته في اليوم التالي بمسرح “الماجستيك”. ليتعاقد معه على الغناء مقابل خمسة جنيهات شهرياً. وكان مسرحه حينها يضمّ مطربين هما: عبد القادر قدري ومحمد عبد الوهاب. فانضم إليهما ليغنوا في الاستراحة بين الفصول. أما ملحن الفرقة آنذاك، فكان الشيخ سيد درويش، والذي لمس فيه سرعة الحفظ، فبدأ يصحبه إلى سهراته ويلقنه الألحان بنفسه. فيذهب إلى المسرح صباحاً ليلقن باقي أفراد الفرقة الألحان بالنيابة عنه أثناء البروفة، قبل أن يراجعها الشيخ سيد بنفسه في النهاية.
ومرت الأعوام، فأصبح سيد مصطفى ملحن فرقة الكسّار عام 1927. بدأ مسيرته بتلحين رواية “الصلح خير” حتى أنجز نحو ثلاثين رواية. قبل أن ينضم إلى فرقة ببا عز الدين ويدخل إليها الاستعراض الغنائي. وقد سافر مع الفرقة مرتين إلى الأقطار الشقيقة، وكان الملحن محمود الشريف زميلاً له بالفرقة ويتقاسم معه تلحين البرامج مناصفة. ثم تركها وانضم إلى الفرقة القومية (المصرية) لمدة أربع سنوات، تولى خلالها تحفيظ ألحان الشيخ سيد درويش في رواية “شهرزاد” لأفراد الفرقة مع قيادة فرقة الملحنين في روايتي “يوم القيامة” و”عزيزة ويونس” للشيخ زكريا أحمد.
مواقف لا تُنسى
لطالما اجتمع سيد مصطفى مع الشيخ سيد درويش وعزيز عيد وكاتب النوتة محمد صالح. وقد شهدت هذه الجلسات ميلاد ألحان كثيرة حفلت بها الروايات المسرحية. وشهد مطربنا بنفسه تتبّع الشيخ سيد مصادر الألحان وتعلقه بها، خصوصاً لدى الباعة الجوّالين أو أصحاب الحِرف المختلفة. وشارك معه في تسجيل الكثير من الأسطوانات؛ فقد عبأ معه ثنائيات عدة؛ كان يؤدي فيها صوت الفتاة مثل “أديك أهو قلتها يا أبو زقزق” و”يا هادي يا هادي” و”هيص يا سي كشكش”. كما عبأ منفرداً من ألحان الشيخ سيد: “يا نواعم يا تفاح يا حاجة حلوة كويسة” و”الجرسونات”.
أصبح سيد مصطفى مع الوقت من أعمدة الإذاعة، إذ بدأ في الإذاعات الأهلية قبل أن ينضم إلى الإذاعة اللاسلكية الحكومية الرسمية. كما شارك في إذاعات “الشرق الأدنى” و”القدس” والقسم العربي من إذاعة “لندن”. وترأس مع الوقت كورساً يتألف من 12 عازفاً وعازفة يذيعون قطعاً يؤلفها ويلحنها ويلقيها بنفسه. ولحّن للسينما مجموعة من الروايات التي لم تنل حظها من الشهرة والنجاح، مثل “صاحب السعادة كشكش بك” و”تحت السلاح” و”خلف الحبايب” وغيرها من الأعمال السينمائية.
نهاية الرحلة
بحسب قاموس المسرح (إشراف د. فاطمة موسى)، فإنه ظلّ يمد الإذاعة المصرية بألحانه، وكان أشهر هذه الألحان الصور الغنائية مثل “نزهة” المعروفة باسم الجوز الخيل، والعربية التي شارك فيها غناءً مع كارم محمود وشافية أحمد. وامتدّ نشاطه منذ منتصف الخمسينات إلى الفرق المتجولة التي لحن لها الكثير من العروض قبل أن يتفرغ للتدريس في معهد الموسيقى العربية في منتصف الستينات حتى وفاته عام 1980. وقد اختير عضواً في اللجنة المشكّلة لجمع التراث الموسيقي، والتي شكّلت النواة الأساسية ومهدت الطريق لإنشاء فرقة الموسيقى العربية عام 1968.
ظلّ هذا الرجل طوال حياته معيناً لا ينضب لألحان الشيخ سيد درويش، ينقلها من جيل الى آخر عبر وسائل مختلفة. فلا عجب أن نجد له اليوم تسجيلات كثيرة تبثّها الإذاعة من أو حتى ضمن صفحات هواة التسجيلات النادرة ومنصاتهم.