حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا التي بدأت في 24 شباط/ فبراير 2022، هي في أحد أوجهها، نتيجة “خطيئة أصلية” ارتكبتها روسيا على مستوى العلاقات الروسية- الأوكرانية عام 2014 كخاتمة غير سعيدة لمحاولاتها مكافحة ثورة “الميدان الأوروبي” أو تقويضها. فتلك الاحتجاجات التي بدأت في خريف 2013 وهزت جوهر النظام السياسي الأوكراني ووصلت ارتداداتها إلى الداخل الروسي نتيجة التداخل الثقافي بين البلدين، ولّدت صراعاً في السرديات حول الثورة والحرب التي أعقبتها في شرق أوكرانيا العام التالي. وهو صراع من الضروري التوقف عنده لما له من معانٍ ودلالات متصلة بالأزمة الحالية في أوكرانيا ونجاح الديموقراطية فيها على الحدود مع نظام قومي استبدادي توسعي وفاسد ذي نزعة إمبراطورية.
لكن كيف انطلقت الاحتجاجات؟
في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش بشكل غير متوقع، التوقيع على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، واختار بدلاً من ذلك إقامة علاقات أوثق مع روسيا، مخالفاً بذلك سياسته الخارجية المعلنة. حوالى الساعة الثامنة مساءً في ذلك اليوم، نشر الصحافي الأفغاني الأوكراني مصطفى نعيم، البالغ من العمر 32 سنة، ملاحظة على صفحته على موقع “فيسبوك”: “تعالوا، فلنكن جادين. من على استعداد للذهاب الى الميدان (ساحة كييف المركزية) بحلول منتصف الليلة؟ اللايكات لا تُحتسب”.
في مساء يوم التالي، 22 تشرين الثاني، اجتمع ما يقرب الـ2000 شخص في ميدان الاستقلال للاحتجاج على قرار الحكومة الأوكرانية بتعليق عملية اندماج أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. وقادت المعارضة والأحزاب الموالية للاتحاد الأوروبي الاحتجاجات في الأيام التالية، حيث نُظمت مسيرة أكبر في 24 تشرين الثاني تجمّع فيها ما بين 50 الى 200 ألف شخص في ميدان كييف حاملين العلمين الأوكراني والأوروبي وهاتفين تأييداً للاتحاد الأوروبي، “أوكرانيا هي أوروبا”. واعتبرت هذه المسيرة أكبر احتجاج منذ الثورة البرتقالية عام 2004.
مع حلول الشتاء، زاد العنف السلطوي ضد المتظاهرين في الميدان. كانت شرطة مكافحة الشغب تستخدم خراطيم المياه في درجات حرارة شبه متجمدة. ثم بدأ المتظاهرون يختفون، ووجدت جثث بعضهم مجمّدة، وعلامات التعذيب عليها. في شباط/ فبراير، بدأت شرطة مكافحة الشغب باستخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين. وفي 20 شباط 2014، وجدت جثة بوهدان سولتشانيك، المؤرخ الشاب الواعد، وسط كومة من الجثث أمام مطعم “ماكدونالدز” في كييف. قضى المحاضر في التاريخ الحديث في الجامعة الأوكرانية الكاثوليكية برصاص قناص في ساحة الاستقلال، بينما كان يحتج سلمياً خلال ما عرف بـ “ثورة الكرامة”. هذا سياق للأحداث ذكرته مارسي شور في مجلة الـ”نيويوركر” الأميركية قبل 7 سنوات.
كان سولتشانيك، وهو من مدينة لفيف، قد أكمل جزءاً من دراساته العليا في بولندا حيث تعرف إلى أفكار المؤرخ والكاتب اليهودي البريطاني طوني جودت، مؤلف الكتاب الضخم والمرجعي “ما بعد الحرب: تاريخ أوروبا منذ 1945”. انخراط سولتشانيك في “ثورة الكرامة” ومقتله، جاءا استلهاماً لإصرار جودت على المسؤولية الأخلاقية للمؤرخ ليس للفهم والتحليل وحسب، ولكن أيضاً للانخراط في النشاط السياسي.
السياسة لا معنى لها بدون الأفكار، بحسب جودت، الذي تعرف اليها بعمر مبكر. فهو كطفل من أسرة يهودية مهاجرة من أوروبا الشرقية نشأ في بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، تأثر باكراً بالأفكار الصهيونية العمّالية ومن ثم بالماركسية.
التحق جودت في مرحلة شبابه بمنظمة الشباب الصهيونية العمّالية، حيث كان ناشطاً مميزاً وسافر مرات عدة إلى دولة إسرائيل لتمضية عطله الصيفية بين عامي 1965 و1967. حتى إنه بعد تخرجه من جامعة كامبردج تطوع ضمن قوات الاحتياط بالجيش الاسرائيلي إبان حرب حزيران/ يونيو 1967. وخلال هذه المرحلة، وبعد معاينته عن قرب الجرائم الإسرائيلية، وقع تغيير جذري في فكر جودت، إذ فقد إيمانه بدور الحركة الصهيونية، وبدأ ينظر إلى إسرائيل كدولة “محتلة”. (لاحقاً، عام 2003، نشر مقالاً انطوى على مرافعة حاسمة: الدولة اليهودية والديموقراطية نقيضان لا يلتقيان).
وخلال أحداث أيار/ مايو 1968 في باريس، كان جودت كطالب اشتراكي ديموقراطي في جامعة كامبردج من بين الآلاف الذين تجمعوا في العاصمة الفرنسية وصرخوا “هو شي مين”، دعماً للتظاهرات. لكنه مع الوقت سيكتشف أن التاريخ كان يُصنع في بودابست وبراغ اللتين تعرضتا للاجتياح السوفياتي، أكثر مما كان في باريس. سيعرف ذلك من أصدقائه وزملائه البولنديين الذين كان يُزج بهم في السجون الشيوعية فيما كان هو يتظاهر ويهتف في باريس. سيعبّر جودت بوضوح عن هذا الموقف بعد نحو عقدين ونيف من أيار 1968، في كتابه عن المثقفين الفرنسيين بين 1944 و1956 والذي ضمنه هجوماً شديداً على الفلاسفة الفرنسيين الذين تحولوا الى مدافعين عن الستالينية، وأبرزهم جون بول سارتر، المثقف- الأيقونة في القرن العشرين بالنسبة إلى الأوروبيين. لذلك، كتب جودت، فإن سارتر يتحمل مسؤولية أكبر من غيره بسبب “صمته الملحوظ” في وجه “دماء الآخرين”. أولئك الذين عُذبوا وأُعدموا خلال الإرهاب الستاليني الذي أعقب الحرب العالمية الثانية في أوروبا الشرقية. لا شيء في إنجازات سارتر الأخرى يمكنه أن يقنعني “لتعويض رفضه التدخل أو حتى التحدث عندما تمت مُواجهته بالمحاكمات الصُورية في أوروبا الوسطى”، قال جودت لاحقاً.
والتاريخ أيضاً كان يُصنع في ساحة الميدان في كييف عام 2014.
إقرأوا أيضاً:
كانت لحظة مضيئة من الوضوح الأخلاقي والاعتراض الحماسي ضد الحكم التعسفي والاستبدادي. لحظة مضيئة للتعددية المدنية وحّدت المتحدثين باللغة بالروسية والمتحدثين بالأوكرانية، من أوكرانيون ويهود، عمال ومثقفين، واليسار واليمين. كان الميدان لحظة إنشاء أمة مدنية حقاً، وتجاوزاً لهواجس وسياسات الهوية لمصلحة التفكير بالقيم الإنسانية.
بعد يومين من مقتل بوهدان سولتشانيك قنصاً، فرّ الرئيس يانكوفيتش من أوكرانيا. إلا أن هذا الانتصار في الميدان ما لبث أن ذهب أدراج الرياح بإرسال فلاديمير بوتين جيشه وضم روسيا لشبه جزيرة القرم والحرب في دونباس عام 2014. كانت هذه “الخطيئة الأصلية” ونقطة التحول في وصول أوكرانيا إلى الأزمة الحالية، اضافة الى تراخي الديموقراطيات الغربية تجاه بوتين وتقاعسها عن مواجهة عنف النظام الاستبدادي الروسي منذ حربه على أوكرانيا عام 2014.
الأوكرانيون اليوم يقاومون ببسالة ويعطوننا دروساً في الشجاعة والصمود لأنهم يعرفون عن ماذا يدافعون وهي الدولة التي بدأوا بناءها عام 2014، والتي يريدون العيش فيها. دولة ديموقراطية تعدديّة تجرى فيها انتخابات حرة ونزيهة لكنها في الوقت ذاته “الكابوس الأسوأ” لفلاديمير بوتين وما يمنعه عن الشعب الروسي داخل روسيا.
ننظر اليوم إلى المشهد الأوكراني وكأن المؤرّخ الشاب بوهدان سولتشانيك وملهمه طوني جودت بيننا. ونتذكر الأخير عندما نقرأ تعليقات المثقفين الممانعين واليساريين- شرقاً وغرباً- الذين إما يُدافعون عن حرب بوتين بحجة محاربة الامبريالية الأميركية أو يلفهم “صمت القبور” إزاء الجرائم ضد الانسانية التي يرتكبها بوتين في أوكرانيا. الستالينية والبوتينية وجهان لعملة واحدة. ولكل منهما مثقفوها و”أغبياؤها المفيدون”.
إقرأوا أيضاً: