دفعت بعض الأصوات المعارضة المصرية ثمناً باهظاً بعد الحديث عن ملف سد النهضة، أبرزهم الصحافي المصري عبد الناصر سلامة الذي تم اعتقاله بعد مقالته “افعلها يا ريس“، تزامناً مع الملء الثاني لسد النهضة وفشل المفاوضات في ضمان حصة مصر في مياه النيل.
في تلك الآونة، تحديداً في الصيف الماضي برزت تصريحات مفاجئة من المطرب الشهير إيمان البحر درويش ضد الرئيس عبدالفتاح السيسي وطريقة تعامله مع الأزمة، إذ صرح درويش على صفحته في “فيسبوك”، أنه كان من مناصري الرئيس، حتى ظهور أزمة سد النهضة، التي رأى أن تعامل السيسي فيها لم يكن بالشكل المطلوب. لم يكتفِ درويش، بالفيديو الذي أثار جدلاً واسعاً حوله، بل تبعه بتغريدات أكد فيها أنه يتحدث من داخل مصر، وأنه لا يخشى من رد فعل قوات الأمن، وأنه لن يتراجع عن موقفه.
بعدما هدأت وتيرة تصريحات إيمان البحر درويش، اختفى عن مواقع التواصل الاجتماعي، فتصدر حينها وسم #إيمان_البحر_درويش_ فين، ليتساءل متابعون عن مصيره وإن تم اعتقاله.
خرج بعدها في فيديو جديد يؤكد فيه أنه لم يُعتقل، وأنه لا يرى سبباً لذلك، لأنه كان يتحدث عن حقه وحق بلده في ماء النيل، ثم اختفى بعدها عن الأنظار لمدة عام تقريباً.
مع اشتعال أزمة اختفاء الفنانة أمال ماهر الأخيرة، عاد السؤال حول اختفاء درويش مجدداً، ليخرج نجله هذه المرة ويؤكد أن والده حر، ولكنه يمر بأزمة صحية تمنعه من الظهور الإعلامي.

حفيد فنان الشعب
إيمان البحر درويش، حفيد سيد درويش أو من لقب بأنه فنان الشعب وأحد أشهر الموسيقيين العرب، الذي أسس ما يُعرف بفن المقاومة، وهو نوع من الأغاني استُخدِم لحث الشعب حينها لمقاومة الاحتلال الإنكليزي.
درس الحفيد درس الهندسة المدنية، قبل أن يلتحق بمعهد الموسيقى العربية، الذي تخرج منه، وحمل على عاتقه إحياء تراث فن المقاومة من جديد، باعتباره سليل العائلة التي أسسته، كان مشروع إيمان البحر في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، يحمل في المقام الأول إعادة إحياء أغاني جده سيد درويش، وهو ما لاقى استحساناً كبيراً.
وبرغم اختلاف لون إيمان البحر الغنائي عن النمط السائد في الأغنية حينها، إلا أنه حقق نجاحاً كبيراً، مهد له الطريق لدخول السينما والتلفزيون، ولكنه ظل يُعرَّف بأنه وريث فن المقاومة.
في مطلع الألفية الجديدة، تولى إيمان البحر درويش منصب رئيس “نقابة الموسيقيين”، كانت مرحلة أسست لشخصية جديدة أكثر جدلاً لإيمان البحر درويش، كانت أقل مشكلاتها خلافات مع الفنان مصطفى كامل والفنان هاني شاكر، اللذين أصبحا تباعاً نقيبين للموسيقيين، وقد اتهماه في مناسبات مختلفة بعدم مهنيته، وعدم قدرته على إدارة النقابة. وهو ما ظل لسنوات ينفيه، ويؤكد أنه الوحيد الذي لم يسعَ للكسب المادي من وراء رئاسة النقابة، وأن هاني شاكر هو من وقع في الفساد.
دائماً ما تفاعل إيمان البحر درويش مع الأحداث السياسية التي تحدث في البلاد، لعل أبرز هذه التفاعلات هو مشاركته ودعمة لثورة يناير 2011، التي خرجت للإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ثم مشاركته بعد ذلك في ثورة 30 يوليو 2013 التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين، ومهدت الطريق لتولي الرئيس السيسي لحكم البلاد.
في تصريحات إيمان البحر درويش عن سد النهضة، لم يأتِ بجديد، بل فعل ما اعتاد فعله طيلة مسيرته الفنية، وهو الاشتباك مع الأحداث الراهنة، باعتباره أن هذا حق أصيل للفن وذويه، فهل وقع درويش في المحظور هذه المرة؟
مذ تولى السيسي حكم مصر، يسعى جاهداً هو وإدارته لتحجيم الدور الذي لعبه الفن والفنانين في عهد من سبقوه، فأصبحنا لا نرى على الساحة سوى الفنانين الذين لا يتوانون عن إعلان ولائهم للدولة ورئيسها في كل مناسبة صغيرة أو كبيرة، ومن ينطق بعكس ذلك فله مصيران لا ثالث لهما، وهو إما الاعتقال، أو النفي خارج البلاد إن استطاع فعل ذلك، مثل خالد أبو النجا وعمرو واكد وجيهان فاضل ومحمد شومان، والقائمة تطول لتشمل الكثير من الكتاب والمخرجين وبالطبع السياسيين.
تدخل السلطات المصرية في التفضيلات الثقافية المحلية ليس بالأمر الجديد، بل كان راسخاً بشكل كبير في محاولات السيطرة على الإنتاج الثقافي في البلاد. إذ تعرضت كل أنواع الفنون لرقابة شديدة منذ 2013 بهدف السيطرة على النتاج الفني المحلي، وتوجيه دفته حيث تريد الدولة.
علاوة على ذلك، وفي تموز/ يوليو 2018، فرض مرسوم رئيس الوزراء قيوداً صارمة على تنظيم المهرجانات والفعاليات الفنية في مصر. بحيث يجب أن تتم الموافقة على جميع الأحداث من قبل وزارة الثقافة، والكيانات الحكومية ذات الصلة التي تتكون من ممثلي الخارجية والداخلية والمالية والسياحة والآثار والطيران المدني والشباب والرياضة ووزارات التنمية المحلية، الذين يتم اختيارهم من قبل وزرائهم، بشرط أن يكونوا من كبار موظفي الخدمة المدنية.

هذا الأمر لم ينتبه له إيمان البحر درويش، عندما خرج وهاجم السيسي علناً في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما لم يفعله فنان يقيم في مصر منذ توليه الحكم.
لكن وبالرغم من ذلك، هل أخطأ درويش في موقفه؟
وهل من المقبول أن يختزل العاملون في الفن والثقافة هوياتهم في مهنتهم وهو ما يعاكس تاريخاً من الوعي لتداخل السياسة والفن.
على مر السنين، تم انتقاد الفنانين لاستخدامهم شهرتهم للترويج للآراء السياسية، ووجهت سهام النقد حول ضرورة عدم خلط الفن بالسياسة، وكان للفنانين في العالم العربي وخارجه، دور بارز في تسليط الضوء على القضايا المجتمعية والسياسية.
لدينا في العالم العربي أمثلة عمن تبنوا قضايا الشعب بدلاً من وجهة نظر الدولة، أمثال جيل الممثلين الذين شاركوا في ثورة يناير منذ يومها الأول، مثل خالد ابو النجا وعمرو واكد وجيهان فاضل وبلال فضل، ومن سبقهم من أجيال كرست أعمالها للتعبير عن حال الشعب، مثل رواد المدرسة الواقعية من المخرجين أمثال عاطف الطيب ومحمد خان ويوسف شاهين، وكان المغنون حاضرين بقوة، مثل سيد درويش، والشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم، وغيرهم ممن يؤكدون، أن الفن والسياسة، كالملح في الطعام، لا يمكن الاستغناء عنه.
منذ أشهر، دعا السيسى إلى إجراء حوار سياسى شامل دون تفرقة أو تمييز، مشيراً إلى ضرورة تكاتف الجميع وسط تحديات وأزمات اقتصادية واجتماعية إقليمية ودولية، ودعا إلى ضرورة مشاركة القوى السياسية الوطنية في السياسات والقرارات المتعلقة بمستقبل الوطن وتحقيق آماله وتطلعاته.
لكن برغم ذلك ما زالت حملات إسكات الصوت مستمرة ولا يزال إيمان البحر درويش وغيره عالقين في حالة الصمت الجبري الطويل.
ربما قُتل الشيخ سيد درويش منذ قرابة القرن، بسبب تبنيه القضية ودفاعه عنها، وربما اختفى الآن حفيده بسبب قناعاته وحديثه العلني عنها.
إقرأوا أيضاً: