fbpx

صيف أزمة الهويّة الألمانية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

النقاشات الأخيرة حول الهوية الألمانية والمجتمع والتاريخ ألقت بالبلاد في أزمة وجودية: ماذا يعني أن تكون ألمانياً؟ وما علاقة ألمانيا بتاريخها المظلم؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“يمكن أن تتسامح المجتمعات المنفتحة مع الكثير من الآراء المختلفة، ولكن ليس مع الكثير من الحقائق المختلفة”. هكذا قال هانز جورج ماسن، الرجل الذي كان، حتى عهد قريب، يدير المكتب الاتحادي الألماني لحماية الدستور، والذي يراقب التطرف الديني والسياسي. وخلال حديثه في ندوة لمسؤولي الاستخبارات في أيار/ مايو، أراد ماسن تحذير زملائه من الأخطار التي يُشكّلها عصر التضليل المتزايد. وقال: “إذا انتشرت الأكاذيب، من خلال عمليات مختلطة، يتم التلاعب بالحقائق وإخفاؤها، وإذا أصبحت الآراء حقائق والحقائق تحوّلت آراءً، فإن المواطنين يفقدون الأساس الموثوق الذي يعتمدون عليه في اتخاذ قراراتهم السياسية”.

يبدو أمراً مثيراً للسخرية الآن أن ماسن هو الذي أصدر هذه التحذيرات. قبل مدة أطاحت به المستشارة أنغيلا ميركل من منصبه بعد أن أدلى بتصريحات تُشكّك في الأحداث التي وقعت في مدينة كيمنتز الشرقية قبل أسابيع، عندما قادت جماعات النازيين الجدد واليمينيين المتطرفين آلاف المحتجين في أعمال شغب، والتي أحيت بفخر التحية النازية، وطاردت المهاجرين والأشخاص ذوي البشرة الداكنة في الشوارع بعد حادث القتل المزعوم لرجل ألماني. يشكك ماسن تحديداً في صحة الفيديو الذي يتم تداوله على الإنترنت والذي يُصوّر إحدى هذه المطاردات.

يبدو أن قصة ماسن تنسج مجموعة من الأسئلة التي تصارعها ألمانيا – صعود اليمين المتطرف، الجدل حول المعلومات المُضلّلة والواقع، ومستقبل سياسة الهجرة. على رغم أن بعض هذه الأسئلة قد طبخت على نار هادئة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن النقاشات الأخيرة حول الهوية الألمانية والمجتمع والتاريخ ألقت بالبلاد في أزمة وجودية: ماذا يعني أن تكون ألمانياً؟ وما علاقة ألمانيا بتاريخها المظلم؟

 

تظاهرة لليمين الألماني

خلال الصيف، اجتاحت مثل هذه الأسئلة ألمانيا. وكادت المواجهة بين ميركل ووزير الداخلية هورست سيهوفر حول سياسة الهجرة أن تؤدّي إلى إسقاط الحكومة الهشة في ألمانيا، وأبرزت الضغوط التي مارسها حزب “البديل لألمانيا” اليميني المتطرّف على الأحزاب التقليدية في البلاد. بعد ذلك بوقت قصير، اعتزل لاعب كرة القدم الألماني مسعود أوزيل، ذو الأصول التركية، اللعب مع المنتخب الألماني، بسبب ما اعتبره معاملة تمييزية من أعضاء الفريق والمشجعين على حد سواء. أثارت تعليقاته حول العنصرية اليومية في ألمانيا المُوجّهة نحو أولئك الذين لا يبدون “ألمانيين” بشكل تقليدي، موجة قومية من البحث في الذات عن معنى أن تكون ألمانياً. وأدت الصور إلى بدء مناقشات صعبة حول ما إذا كانت البلاد قد تعلّمت من ماضيها، وحول الأساليب التي تستمر بها الاختلافات الثقافية والاقتصادية الرئيسية في الشرق الشيوعي السابق موجودة. يُظهر الوضع “كم أن الجميع مُتوّتر، وكم هي ضئيلة الأسباب لجعل الأمة بأكملها تشعر بالهستيريا العامة” كما أخبرني جان تيشاو، مدير برنامج أوروبا في صندوق مارشال الألماني.

هنا يأتي دور ماسن. كرئيس لوكالة الاستخبارات الألمانية المناهضة للمتطرفين، فإن مهمته هي التحقيق في الصور المُروّعة الصادرة عن كيمنيتز، بخاصة بعدما أدانت ميركل المتظاهرين “لمطاردة” الأجانب. ومع ذلك، لم يكن من المفترض أن يكون موقفه سياسياً: فمن المُتوقّع أن يتجنب رئيس الاستخبارات في ألمانيا الإدلاء بتصريحات سياسية صريحة.

ماسن فعل العكس. في مقابلة مع صحيفة “بيلد” Bild، الألمانية المنشورة في وقت سابق من هذا الشهر، سُئِل عن أفكاره حول مقاطع الفيديو التي انتشرت على الإنترنت، التي تُظهر المُتعاطفين مع اليمين المتطرف في كيمنيتز يطاردون المهاجرين. كانت ميركل قد وصفت اللقطات بأنها تُظهر الكراهية “بوضوح شديد”، لكن ماسن كان أقل اقتناعاً “لا يوجد دليل على أن الفيديو الذي يتم تداوله على الإنترنت حول هذا الحادث المزعوم هو فيديو حقيقي”، مضيفاً أنه من الُمرجّح أن “حالة من المعلومات المُوجّهة” تهدف إلى “تشتيت الانتباه” عن وفاة رجل ألماني عمره 35 عاماً، وهي الحادثة التي أثارت الاحتجاجات في المقام الأول. حتى أن ماسن أشار إلى الحادث المُميت باعتباره “جريمة قتل”، على رغم قيام المُدّعين العامّين بالتحقيق فيه رسمياً كحالة قتل خطأ. ومع ذلك، لم يكن من الواضح ما هو الفيديو الذي أشار إليه ماسن: لقد تم نشر الكثير من مقاطع الفيديو عبر وسائل الإعلام الألمانية. كما أنه أخفق في تحديد سبب اعتقاده بأن الصور قد تم تزويرها، وأعرب عن دهشته من أن ميركل وشخصيات سياسية أخرى قد اعتبروها حقيقية بهذه السرعة.

المستشارة الألمانية انجيلا ميركل

بعد أيام قليلة من حديثه مع “بيلد”، أصبح ماسن في مرمى النيران بسبب تناقضه المباشر مع ميركل. وسرعان ما تراجع عن تعليقاته، زاعماً أنه “أُسيء فهمه” وأنه كان بالكاد يعترض على تفسير الناس للفيديو وليس محتوياته. ولكن في ألمانيا، من المعتاد أن يتأكد الصحافيون من الاقتباسات من المسؤولين الحكوميين قبل طباعتها، فمن المُرجّح أنه كان يعرف هو وموظفوه ما كانوا يفعلونه عندما سمحوا لبيلد بنشر كلماته. قال لي تيشاو “من بين جميع الأشخاص، يجب أن يكون هو الشخص الهادئ، البارد، الرجل الذي يُحلّل الأمور، لا الذي يُحوّل نفسه إلى ناقد سياسي. لقد كان هذا خطأً كبيراً في قراءته الدور الذي عليه أن يلعبه في هذا الوضع”.

وجّهت بعض الشخصيات في السياسة والإعلام الألماني اتهاماً إلى ماسن بأنه يتعامل بطريقة مريحة مع “حزب البديل لألمانيا”: على رغم أنه من الشائع أن يكشف رئيس المخابرات عن التهديدات المختلفة للقادة السياسيين والمنظمات، فقد التقى ماسن مراراً وتكراراً بزعيم حزب البديل لألمانيا ألكساندر غاولاند (الذي وصف العصر النازي بأنّه “لطخة من مخلّفات الطيور” في تاريخ ألمانيا اللامع)، كما قدّم تفاصيل عن تقرير مخابراتي لعضو في البرلمان من حزب البديل لألمانيا. وأشارت تقارير وسائل الإعلام إلى أنه التقى مع الزعيمة السابقة للحزب فراوك بتري سنة 2015 لمناقشة كيفية تجنّبها المراقبة، وهو ادّعاء نفاه ماسن.

كانت تعليقات ماسن مثيرة للجدل بشكل خاص أيضاً، لأن أجهزة الاستخبارات في ألمانيا لديها تاريخ “إشكالي” في كونها مُهمِلة عندما يتعلق الأمر باليمين المتطرف، كما أخبرني ماتياس كوينت، مدير معهد الديموقراطية والمجتمع المدني في مدينة ينا. تم إنشاء Verfassungsschutz عندما كانت البلاد لا تزال منقسمة، ورأى مسؤولون من ألمانيا الغربية أن الشيوعية هي التهديد الرئيسي. في السنوات التي تلت ذلك، وُجّهِت انتقادات للمكتب لأنه لم يعمل ضد المتطرفين اليمينيين بشكل سريع. بعد فوز حزب البديل لألمانيا بنسبة 12.6 في المئة من الأصوات في الانتخابات الفيدرالية في ألمانيا في العام الماضي، أصبحت المسألة مُلحّة أكثر. قال لي كوينت “لقد حصل الخبراء على الانطباع بأن Verfassungsschutz يكون أعمى عندما يتعلق الأمر باليمين. وكان هذا التركيز الخاص جداً على اليسار من تقاليد المكتب التاريخية، في حين يترك اليمين المتطرّف ليفعل ما يفعله اليمين المتطرف”.

بعد مقابلته مع بيلد، سرعان ما أصبح ماسن بطلاً لمؤيدي اليمين المتطرف، الذين نظروا إليه على أنه صريح شجاع يرغب في تحدي ما يسمى “الصحافة الكاذبة”، وهو تعبير تعود جذوره إلى النازية. وفي تظاهرة في كوثين، وهي مدينة في ولاية ساكسونيا-أنهالت الألمانية الشرقية، قام أحد المتظاهرين برفع لافتة تقول “شكراً لك على الحقيقة، مستر ماسن”.

لكن زعماء الأحزاب السياسية البارزة الأخرى في ألمانيا، بما في ذلك “الحزب الاشتراكي الديموقراطي” (يسار الوسط)، دعوا بسرعة إلى الإطاحة بماسن. في نهاية المطاف، توصّلت ميركل وسيهوفر والحزب الاشتراكي الديموقراطي إلى اتفاق: سيترك ماسن منصب رئيس الاستخبارات للقيام بدور أكبر في وزارة الداخلية تحت قيادة سيهوفر. وسائل الإعلام والمراقبون الألمان من جميع أنحاء الطيف السياسي، انتقدوا على الفور هذه المساومة. ووصف كوينت تصريحات ماسن بأنها “محاولة انقلاب”، مشيراً إلى أنه كان يحاول بوضوح تقويض ميركل وردّها العنيف على تصرفات المُحتجّين في كيمنيتز. وقال “من غير المسؤول على الإطلاق أن نرفعه إلى وظيفة أفضل مع سلطات أكبر مما لديه الآن، بسبب فشله ونشره أفكار المؤامرة”.

وأشار تيشاو إلى أن الوضع يدل على كل من الجو السياسي المشحون الحالي في ألمانيا، وكذلك التوتّرات بين شركاء الحكم – وكل ذلك أصبح يحتاج إلى التعامل معه بعد جدل ماسن. وقال تيشاو: “كان ماسن الرجل الذي يقف في الوسط، وأصبح نوعاً من أعمدة امتصاص الصواعق لكل هذا. كان هو الرجل الذي تم إسقاط المعضلة برمتها عليه”.

هذا المقال مترجم عن theatlantic.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي