بين يوم وآخر يطل علينا “يوتيوبر” عربي أو أجنبي ليقدّم “فلوغ” عن رحلته الأسطورية إلى العراق، محاولاً بذلك أن يعكس صورة رائعة عن البلد الذي ساءت سمعته، وصار يتذكره الناس بذكر الحروب والمآسي وحسب. يجتهد كل “يوتيوبر” في أن يقدّم العراق كدولة مستقرة وشعبها سعيد ومحب للحياة، يصنع الأفراح من أبسط التفاصيل، ويكون بذلك قد كسر صورة نمطية عند الجميع عن العراق المعذّب بلد الحروب والكوارث. هذه الظاهرة تجعلنا نحن العراقيين نطرح أكثر من سؤال: هل هذه الصورة الجميلة حقيقية؟ وهل علينا ان نفرح بهذه الصورة التي يقدمها الـ”يوتيوبرز” عن بلدنا الذي يأكلنا من الداخل؟
رحلة مجانية
لا شك في أن من شأن نجوم اليوتيوب أن يكسروا صوراً نمطية عن الكثير من البلدان من خلال ما يقدمونه من محتوى “ترحالي”، وهذا الأمر من شأنه أيضاً أن يساهم في ازدهار سياحة هذه البلدان، فهل يحصل هذا الأمر مع العراق؟ للأسف الإجابة لا، وذلك لأننا عند مراجعة “فلوغات” (vlogs) اليوتيوبرز عن العراق سوف نكتشف أموراً عدة، منها أن العراق يشكل وجهة رخيصة لا تكلف الكثير، ولا تخلو من المغامرة والإمتاع، لا يتطلب الأمر من اليوتيوبر الآتي من اي بلد سوى سعر تذكرة الطيران وبعدها سوف تنفتح له مغارة علي بابا، تتيح له زيارة العراق التجول في معظم محافظاته والتمتع بآثارها التي تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة دون أن يدفع أي ثمن يذكر مقابل ذلك.
يدخل اليوتيوبر الى الناصرية ويمرح فوق زقورة أور، ملتقطاً الـ”سيلفيات” ومصوّراً الأفلام القصيرة من دون ان يساهم هذا الأمر بعودة اي مردود مالي للدولة من شأنه أن يساهم في تطوير قطاع السياحة او يمهد طريقاً معبّداً نحو الزقورة، ونسبة لكرم العراقيين وحفاوتهم بالضيف صار العراق يمثل ثيمة تحدي تضمن لجميع اليوتيوبرز ملايين المشاهدات، ومضمون هذا التحدي هو التجوال في العراق من دون صرف أي مبلغ نقدي، كما فعل اليوتيوبر المصري سيف طه، حيث تجوّل يوماً كاملاً في بغداد آكلا شارباً مستمتعا دون أي مقابل، بل حتى إنه لم يمكث في أي فندق وبات ليلته في أحد البيوت العراقية المضيافة.
يرى المتفائلون أن هذه الظاهرة من شأنها بطريقة او بأخرى ان تُنعش السياحة في العراق ورفع مستوى الإقبال عليه، وبالتالي تساهم في رفع المستوى الاقتصادي للشعب من خلال ما توفره من فرص عمل ولكن هذا الطرح المتفائل يصطدم بمرارة الواقع، لأنه طوال 18 عاماً بعد سقوط نظام صدام حسين وازدهار السياحة الدينية إلى المراقد المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية خلال الزيارات الاربعينية والشعبانية وغيرها من المناسبات، إلا أننا لم نشاهد تحسن في وضع العراق الاقتصادي ولم تُحسن كل الحكومات المتعاقبة استغلال هذا التطور، حيث لا يزال اقتصاد العراق ريعياً معتمداً بشكل كامل على النفط الذي يصدّره مقابل استيراد أبسط السلع.
لا يضطر الكثير من من السياح الدينيين خلال الزيارات الكبرى كالاربعينية والشعبانية إلى دفع أي فلس، خصوصاً الإيرانيين الذين تُلغى لهم حتى رسوم تأشيرة المرور البسيطة وحين يدخلون العراق لا يضطرون لاستئجار أي سيارة نقل، لأن الكثير من العراقيين يتباركون بنقلهم وضيافتهم مجاناً طلباً للأجر والثواب بل ويرفعون شعارات التشرف بخدمة زوار الحسين وبقية الائمة، حتى صارت زيارة الاربعين تمثل كرنفال اطعمة مجاني للكثير من الايرانيين الذين يجيئون لملء بطونهم وهذا ما سمعته انا بنفسي من لسان كثر منهم.
وعلى رغم ذلك فإن السياحية الدينية تساهم بشكل كبير في رفد الاقتصاد العراقي حيث صُنف العراق عام 2015 ضمن أفضل الدول في الأداء السياحي وكذلك ضمن أفضل 10 دول ترتكز فيها عائدات السياحة الدولية لدول منظمة التعاون الإسلامي بواقع 9.121 مليار دولار لهذه الدول مجتمعة، وبنسبة 87.5 في المئة من إجمالي العائدات السياحية للمنظمة وفق تقديرات العام نفسه، وبلغ عدد الزوار الدينيين للعراق خلال العام 2016 فقط 1.052 مليون زائر، وتؤكد تقديرات المجلس العالمي للسياحة والسفر أن قطاع السياحة الدينية في العراق يشكل نسبة 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وبعائدات ممكنة ومتاحة تُقدر بـ5 مليارات دولار، وتعتمد على هذا القطاع طبقة عاملة تقدّر بما يقرب من 544 ألف شخص.
نسبة الطبقة العاملة المستفيدة من هذا القطاع تقلّ تدريجياً، بينما تزداد نسبة العائدات وذلك يلاحظ من خلال إحكام سيطرة بعض الجماعات الدينية على هذه الموارد، حيث تتوسع رقعة المراقد الدينية بين حين وآخر على حساب الكثير من الفنادق والبيوت والاراضي المحيطة مقابل تعويض لا يراه العديد من أصحاب هذه الأراضي والأملاك مناسباً، إضافة الى سيطرة شركات معينة على السياحة الدينية حيث نشرت قناة “الجزيرة” عام 2015 تقريراً عن سيطرة بعض الشركات الايرانية على السياحة في المحافظات المقدسة في العراق من خلال فرض تعاملات خاصة مع الزوار الإيرانيين، فيما ظهرت في الأعوام الماضية الكثير من المقاطع والقصص الصحافية لصحافيين و”يوتيوبرز”، عن زيارتهم أهوار العراق وانتشرت هذه المقاطع بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى إن “ابو حيدر”، أحد سكان الاهوار، بُح صوته وهو يغني للسائحات الشقراوات الآتيات من الدول الاوروبية، لكن في النهاية الاهوار مهددة بالجفاف بسبب السياسة المائية الجائرة من دول الجوار وفشل الحكومات العراقية المتعاقبة في التعامل مع هذا الملف الخطير خصوصا بعد إنشاء سدَي اليسو والجزرة.
عليه، لا أرى ما يراه المتفائلون من “ثمار” سوف نجنيها من انفتاح ماسورة “اليوتيوبرز” ومحتواهم المصور عن العراق، بل بالإمكان ملاحظة أن هذا المحتوى المرئي يساهم في تلميع صورة الطبقة الحاكمة في العراق ويوهم الناس بإنجازات غير موجودة على الأرض، سواء على مستوى الأمن أو بعض الخدمات، ولا أستبعد أن تنتبه أجهزة الحكومة الإعلامية إلى هذه الظاهرة، وتعمل على استثمارها وهو ما حصل فعلاً مع الـ”يوتيوبر” المصرية إيمان صبحي حين استقبلها الناطق الاعلامي باسم وزارة الداخلية سعد معن وتجول معها في شوارع بغداد.
إقرأوا أيضاً:
عراق آخر على “يوتيوب”
صرح أحد أصدقائي العراقيين متهكماً برغبته في العيش في العراق الذي “يزوّره” الـ”يوتيوبرز”، وذلك لأنه مثالي ولا يشبه العراق الذي نعيش فيه، فلا يشكو أحد في عراق اليوتيوبرز من انقطاع الكهرباء المتواصل ولا من انهيار البنى التحتية ولا من انعدام الأمان في الكثير من مناطقه ولا سقوط مناطق بيد السلاح الميليشياوي أو العشائري، العراق في افلام اليوتيوبرز لا يشكو من مشكلات الصرف الصحي ولا من ارتفاع درجات الحرارة مقابل اضمحلال المناطق الخضراء وقلة التشجير، ويظهر العراق في افلام اليوتيوبرز على أنه بلد لا يجوع فيه أحد، إذ يمكنك أن تأكل وتشرب وتستمتع مجاناً، بينما العراق الذي نعيش فيه يعاني مواطِنه من ارتفاع الأسعار الصارخ مع خفض قيمة الدينار العراقي الذي ضيّق على العائلات العراقية وفرض عليها المزيد من الفقر والعوز.
صورة العراق في “يوتيوب” تشبه صورة بغداد في مخيلة الحالمين، بغداد المدينة الساحرة الغافية على ذراع دجلة، ذهب الزمان وضوعه العطر، العاصمة العالية مهد الأساطير والعلوم والآداب لكن هذه الصورة لا تتفق مع ما يراه المواطن البغدادي يومياً من زحمة سير وانهيار في البنى التحتية، إضافة إلى ارتفاع نسبة التلوث وازدياد عدد المناطق العشوائية والتجاوزات، تُنتج هذه الصورة التي يقدمها اليوتيوبرز من عوامل عدة، أولها أنهم ينظرون الى العراق بعين الغريب السائح الذي سيقضي مغامرة في العراق تمنحه قصة يظل يحكيها الى اصدقائه في سهرة لطيفة حين يعود إلى بلده المنعّم بالخدمات.
والخديعة في هذه الصورة تتأتّى من كون معظم أفلام الـ”يوتيوبرز” تُصوَر في الشتاء ويأخذون لقطاتهم في أوقات مناسبة لألوان الكاميرا (مع فلاتر)، فالمدرسة المستنصرية التي تُذهل اليوتيوبرز ليست هي نفسها التي يخترقها المتطرفون ليقيموا فيها شعائرهم الدينية، ونصب الشهيد الذي تصوره طائرات “الدرون” التابعة للـ”يوتيوبرز” في اوقات الغروب والفجر ليس هو نصب الشهيد الذي لا يستطيع زائره احتمال درجات الحرارة اللاهبة في أي يوم من ايام الصيف لانعدام المناطق المشجّرة حوله.
لا تظهر في افلام اليوتيوبرز صور قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني تملأ الشوارع بطريقة فجّة وخانقة بل حتى إن بعض صوره المثبتة على أعمدة وعارضات تتجاوز على الشوارع وتعيق السير فيها. ولا تظهر في مقاطع الـ”يوتيوبرز” ميليشيات “ربع الله” وهي تحرق مقرات الأحزاب المنافسة أو مقرات القنوات التلفزيونية التي لا تتفق مع خطابها، أو تقوم بتحطيم مراكز التجميل، ولا يظهر الحصار الذي ضربته هذه الميليشيات على مقر رئيس الوزراء العراقي، فكيف اتجاهل كل هذه الصور وأصدّق مثلاً الصورة الرائقة والمثالية التي ينقلها جو حطاب في فيلمه عن العراق، والمفارقة أن فيلم حطاب الذي حصد ملايين المشاهدات تزامن عرضه مع حملات إحراق مساجد الصرخيين (نسبة إلى رجل الدين محمود الصرخي).معظم “فلوغات” اليوتيوبرز كانت تركز على أمرين وهما شارع المتنبي والمطاعم، الأول لأنه المكان الوحيد الذي فيه إضاءة مناسبة للتصوير في الليل وترتاده العائلات العراقية لعدم وجود خيار ثان، أما المطاعم فلأن الأكل العراقي هو الشيء الوحيد الذي تطور خلال السنوات العشر الأخيرة، ويعتبر الاكل العراقي رخيصاً بالنسبة إلى كمياته بالمقارنة مع المطاعم في كل بلدان العالم.
في النهاية، فان العراق الذي فتح أبوابه لليوتيوبرز يضيق على أبناء شعبه ويطرد شبابه إلى المجهول. يشقى الشاب العراقي خلال سنوات دراسته من دون أن يعرف وجهته المقبلة بعد التخرج، لأن نعمة التعيين الحكومي لا تتوفر إلا لمن يمتلكون واسطة أو ينتمون للأحزاب، والقطاع الخاص معدوم، فيضيع الشاب العراقي في محاولته كسب لقمة عيشه، لذلك تبدو صورة العراق في “يوتيوب” بعيدة جداً عن المأساة… أو الواقع.
إقرأوا أيضاً: