fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

عقيلة، كريمة، حرمة، “بيت”…
تجريد المرأة العراقية من اسمها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كم كنت اتمنى ان ارى اسماء الضحايا من النساء. فهن في معظمهن بلا أسماء. الضحايا يعرّف عنهن بأنهن إما “عقيلة” أو “كريمة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يحبّ الموت التواجد في العراق، والتكاثر، ولأنه يحب هذه البقعة، فكل ما عليه، ان يضخم من حجم اللافتات السوداء التي تعيش مع المواطن العراقي في الشوارع. أسماء الضحايا في كل مكان، وربما هذا أمر جيد ان لا ننسى ضحايانا، وأن يظلّوا حاضرين ليذكرونا بضرورة المطالبة بمحاسبة من قتلهم.  لكنني، كم كنت اتمنى ان ارى اسماء الضحايا من النساء. فهن في معظمهن بلا أسماء. الضحايا يعرّف عنهن بأنهن إما “عقيلة” أو “كريمة”. إما زوجة فلان الذي سيُذكر اسمه الثلاثي بلا شك، او ابنة فلان الذي كذلك، سيدون اسمه كاملاً، مع اسم اخوته وابنائه. ويغيب اسم المتوفية، مع ذكر جميع أسماء أقاربها الرجال، مع وظائفهم ومهنهم: “وفاة عقيلة المهندس الفلاني” أو “وفاة شقيقة المحامي الفلاني”. فيما لا يُعرف شيء عن المرحومة، الا كونها اخت او أم، وهذا الامر لعله، بالنسبة لهم، كافيا. فهي ليست كياناً، بل عبارة عن وظيفة، من خلال حجب كل شيء يعنيها كأمرأة، لانها “عورة” وفكرة ان يعرف المارة، اسم الأم او  المتوفية، يكون بمثابة وصمة عار على عائلتها، ولهذه الدرجة واكثر، كنّا في المدرسة الابتدائية نفتعل شجاراً لكل من يسألنا عن اسماء امهاتنا، ومن “يفضح” اسم امه، يكون قد وقع في المحظور.

مفهوم استعداء اسم الام او الاخت في الموروث العراقي، مرده إلى ذكورية تصوّر اظهار “الرجولة” و”النخوة” بعدم تقبّل تناول اسماء الإناث من العائلة وترديدها وجعلها متداولة على الالسن كما يقال. وابعد من ذلك، اسم الأم أو الأخت يتحول إلى شتيمة اذا اقترن باسم الذكور، فحينما يراد شتم أحد، يضعون اسمه إلى جانب اسم امه، كنوع من الشتيمة والسخرية والتقليل من الشأن: محمد بن سليمة، مثلاً!  فان تشتمه صراحة او تضربه، خير من ان تناديه باسم امه، وقول اسم الام مجردا من الالقاب، كالخالة، او العمة، او السيدة، يعدّ أيضاً شتيمة.

المفارقة الغريبة، هو ان عدداً ليس بالقليل في المجتمع العراقي، مؤمن بقضية ان المرء، سيُنادى باسمه واسم امه، يوم القيامة -على الرغم من ضعف المعلومة فقهيا- لكن، مجموعة ليست بالهينة، ترى ان ذكر اسم الام، اهانة، وبالوقت ذاته، يأكدون، بحسب معتقداتهم، ان الملائكة، ستناديهم بعد موتهم باسماء امهاتهم. فلا اعلم، كيف لفكرتين متناقضتين، ان يجتمعا في عقل واحد. خاصة في موضوع حساس كهذا، فلم يتنصل المرء من ذكر اسم امه امام حشد من الناس، لكنه مؤمن بان اسمها سينادى امام الحشد يوم القيامة؟ حتى عند قراءة سورة الفاتحة على روح احد المتوفين، فانها ستكون على روح فلان، ابن فلانة. اي ان الام واسمها، معترف بها في السماء، فلم كل هذا التخوف من اسمها على الأرض؟

تطورت حكاية اسم الام والاخت بمرور السنين، حتى طال اسم الزوجة، ليصبح اسمها مثلاً على قائمة الإتصال “البيت” أو “الحرمة”، حتى لا يظهر اسمها على الشاشة أمام الغرباء. وحتى عندما يتحدث عنها أمام اصدقائه، يستخدم مصطلحات من مثل الحرمة أو اختكم فلانة، رافضاً ذكر اسمها. 

اقول هذا وبالطبع، لن اطلق التعميم على الجميع، فهنالك من يقدس زوجته واسمها، في الحياة والممات، ومنهم من يجاهر بذكر اسمها دون حرج او خجل، اتذكر مرة، موقف حصل، بين زميليّ عمل حينما قام أحدهما بسؤال الآخر عن زوجته، بالقول: “البيت شلونه؟”، وبقي زميله لا يعرف بماذا يجيب، فيعيد السؤال عليه وبطريقة اخرى: “اقصد، ام الجهال، الحرمة، الحرمة”. فيجيبه صديقه بصوت عال للغاية، اااه تقصد زوجتي جنان؟ بخير، اسمها جنان وليس البيت”. ولطالما استخدمت حتى السلطات الرسمية اسماء الأمهات، كنوع من التهمة أو الوشاية، ففي أيام التظاهرات، حينما ألقي القبض على مجموعة من الشباب، نشرت صورهم أثناء الإعتقال مذيلة باسمائهم مع ذكر اسماء امهاتهم، كنوع من محاولة الإهانة، فما كان من الناشطين الا ان ذهبوا بعيداً في التفاخر باسماء امهاتهم عبر وضعها على مواقع التواصل الإجتماعي قرب اسمائهم. هذا الامر فعله الناشط صفاء السراي، ايقونة مظاهرات اكتوبر العراقية الذي قتل بقنبلة دخانية في بدايات تظاهرات تشرين أول/ اكتوبر 2019، وكان يعرّف عن نفسه بأنه صفاء بن ثنوة، على اسم امه المتوفاة قبله بسنة، ولطالما كان يُسأل: من اين جئت بهذه القوة، لتجاهر باسم امك هكذا؟ 

وبالطبع، فان للاخت نصيب كذلك، اذ لا يستطيع الشخص ذكر اسم اخته، بل يقول: رضيعتي! اه حقا؟ يا الهي ما هذا الاسم الغريب؟ هكذا تبقى المرأة العراقية، اسيرة القاب واوصاف غريبة، واجزم لو ان لمحبي هذه الاوصاف سلطة، لمنعوا ورود اسم المرأة في الاوراق الثبوتية، مع ازالة صورتها كذلك. لتصير، ممحوة تماماً، بلا اسم ولا وجه ولا حتى رقم. 

إقرأوا أيضاً:

مصطفى إبراهيم - حقوقي فلسطيني | 24.01.2025

فرح أهل غزة المؤقّت والبحث عما تبقّى من ذاتهم

المفروض أن يعود النازحون من الجنوب الى مدينة غزة وشمالها حسب اتفاق وقف إطلاق النار، وهي المرحلة الثانية من الحرب، والبحث عما تبقى من ممتلكاتهم وأملاكهم وحياتهم. في الوقت ذاته، يبحث الذين هُدمت بيوتهم عن أماكن لإيوائهم أو يسعون الى استئجار شقق والبدء من جديد. هي "حرب" جديدة قد تستمر سنوات من إعادة ترميم الذات…
09.12.2021
زمن القراءة: 3 minutes

كم كنت اتمنى ان ارى اسماء الضحايا من النساء. فهن في معظمهن بلا أسماء. الضحايا يعرّف عنهن بأنهن إما “عقيلة” أو “كريمة”.

يحبّ الموت التواجد في العراق، والتكاثر، ولأنه يحب هذه البقعة، فكل ما عليه، ان يضخم من حجم اللافتات السوداء التي تعيش مع المواطن العراقي في الشوارع. أسماء الضحايا في كل مكان، وربما هذا أمر جيد ان لا ننسى ضحايانا، وأن يظلّوا حاضرين ليذكرونا بضرورة المطالبة بمحاسبة من قتلهم.  لكنني، كم كنت اتمنى ان ارى اسماء الضحايا من النساء. فهن في معظمهن بلا أسماء. الضحايا يعرّف عنهن بأنهن إما “عقيلة” أو “كريمة”. إما زوجة فلان الذي سيُذكر اسمه الثلاثي بلا شك، او ابنة فلان الذي كذلك، سيدون اسمه كاملاً، مع اسم اخوته وابنائه. ويغيب اسم المتوفية، مع ذكر جميع أسماء أقاربها الرجال، مع وظائفهم ومهنهم: “وفاة عقيلة المهندس الفلاني” أو “وفاة شقيقة المحامي الفلاني”. فيما لا يُعرف شيء عن المرحومة، الا كونها اخت او أم، وهذا الامر لعله، بالنسبة لهم، كافيا. فهي ليست كياناً، بل عبارة عن وظيفة، من خلال حجب كل شيء يعنيها كأمرأة، لانها “عورة” وفكرة ان يعرف المارة، اسم الأم او  المتوفية، يكون بمثابة وصمة عار على عائلتها، ولهذه الدرجة واكثر، كنّا في المدرسة الابتدائية نفتعل شجاراً لكل من يسألنا عن اسماء امهاتنا، ومن “يفضح” اسم امه، يكون قد وقع في المحظور.

مفهوم استعداء اسم الام او الاخت في الموروث العراقي، مرده إلى ذكورية تصوّر اظهار “الرجولة” و”النخوة” بعدم تقبّل تناول اسماء الإناث من العائلة وترديدها وجعلها متداولة على الالسن كما يقال. وابعد من ذلك، اسم الأم أو الأخت يتحول إلى شتيمة اذا اقترن باسم الذكور، فحينما يراد شتم أحد، يضعون اسمه إلى جانب اسم امه، كنوع من الشتيمة والسخرية والتقليل من الشأن: محمد بن سليمة، مثلاً!  فان تشتمه صراحة او تضربه، خير من ان تناديه باسم امه، وقول اسم الام مجردا من الالقاب، كالخالة، او العمة، او السيدة، يعدّ أيضاً شتيمة.

المفارقة الغريبة، هو ان عدداً ليس بالقليل في المجتمع العراقي، مؤمن بقضية ان المرء، سيُنادى باسمه واسم امه، يوم القيامة -على الرغم من ضعف المعلومة فقهيا- لكن، مجموعة ليست بالهينة، ترى ان ذكر اسم الام، اهانة، وبالوقت ذاته، يأكدون، بحسب معتقداتهم، ان الملائكة، ستناديهم بعد موتهم باسماء امهاتهم. فلا اعلم، كيف لفكرتين متناقضتين، ان يجتمعا في عقل واحد. خاصة في موضوع حساس كهذا، فلم يتنصل المرء من ذكر اسم امه امام حشد من الناس، لكنه مؤمن بان اسمها سينادى امام الحشد يوم القيامة؟ حتى عند قراءة سورة الفاتحة على روح احد المتوفين، فانها ستكون على روح فلان، ابن فلانة. اي ان الام واسمها، معترف بها في السماء، فلم كل هذا التخوف من اسمها على الأرض؟

تطورت حكاية اسم الام والاخت بمرور السنين، حتى طال اسم الزوجة، ليصبح اسمها مثلاً على قائمة الإتصال “البيت” أو “الحرمة”، حتى لا يظهر اسمها على الشاشة أمام الغرباء. وحتى عندما يتحدث عنها أمام اصدقائه، يستخدم مصطلحات من مثل الحرمة أو اختكم فلانة، رافضاً ذكر اسمها. 

اقول هذا وبالطبع، لن اطلق التعميم على الجميع، فهنالك من يقدس زوجته واسمها، في الحياة والممات، ومنهم من يجاهر بذكر اسمها دون حرج او خجل، اتذكر مرة، موقف حصل، بين زميليّ عمل حينما قام أحدهما بسؤال الآخر عن زوجته، بالقول: “البيت شلونه؟”، وبقي زميله لا يعرف بماذا يجيب، فيعيد السؤال عليه وبطريقة اخرى: “اقصد، ام الجهال، الحرمة، الحرمة”. فيجيبه صديقه بصوت عال للغاية، اااه تقصد زوجتي جنان؟ بخير، اسمها جنان وليس البيت”. ولطالما استخدمت حتى السلطات الرسمية اسماء الأمهات، كنوع من التهمة أو الوشاية، ففي أيام التظاهرات، حينما ألقي القبض على مجموعة من الشباب، نشرت صورهم أثناء الإعتقال مذيلة باسمائهم مع ذكر اسماء امهاتهم، كنوع من محاولة الإهانة، فما كان من الناشطين الا ان ذهبوا بعيداً في التفاخر باسماء امهاتهم عبر وضعها على مواقع التواصل الإجتماعي قرب اسمائهم. هذا الامر فعله الناشط صفاء السراي، ايقونة مظاهرات اكتوبر العراقية الذي قتل بقنبلة دخانية في بدايات تظاهرات تشرين أول/ اكتوبر 2019، وكان يعرّف عن نفسه بأنه صفاء بن ثنوة، على اسم امه المتوفاة قبله بسنة، ولطالما كان يُسأل: من اين جئت بهذه القوة، لتجاهر باسم امك هكذا؟ 

وبالطبع، فان للاخت نصيب كذلك، اذ لا يستطيع الشخص ذكر اسم اخته، بل يقول: رضيعتي! اه حقا؟ يا الهي ما هذا الاسم الغريب؟ هكذا تبقى المرأة العراقية، اسيرة القاب واوصاف غريبة، واجزم لو ان لمحبي هذه الاوصاف سلطة، لمنعوا ورود اسم المرأة في الاوراق الثبوتية، مع ازالة صورتها كذلك. لتصير، ممحوة تماماً، بلا اسم ولا وجه ولا حتى رقم. 

إقرأوا أيضاً: