لعام كامل وقف العالم في حالة ترقب شاخصاً أنظاره نحو العلماء ومختبرات الأبحاث حول العالم. ومع تخطي عداد وفيات فايروس “كورونا” المليون والنصف المليون وفاة عالمياً، وفي ظل مخاوف من موجة ارتفاع جديدة في عدد الإصابات تبدو متوقعة بعد عطلة الميلاد/ رأس السنة، بات إيجاد طريق الخلاص أمراً ملحاً وأولوية للبنان كما معظم دول العالم.
بوادر الحلول بدأت بالظهور في أوائل شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عند إعلان شركة فايزر/ بيونتيك فعالية عالية حققها اللقاح الذي تعمل عليه لتكون بذلك أول شركة تعلن النتائج الأولية لفعالية لقاح “كوفيد- 19” من المرحلة الثالثة للتجارب السريرية. تبعتها بذلك شركة “موديرنا”، الأميركية بالتصريح عن نتائج مماثلة. ثم ما لبث أن عاد لقاح جامعة “أوكسفورد” إلى الواجهة لتصرح شركة “استرازنيكا” بنجاح مرحلة التجارب السريرية الثالثة بنسبة عالية أيضاً.
الأخبار الإيجابية توالت لنستيقظ بالامس على خبر إعطاء المملكة المتحدة البريطانية الترخيص لاستخدام لقاح “فايزر/بيونتيك” على أراضيها على أن يتم تحديد المجموعات ذات الأولوية لتلقي اللقاح المرتقب، والتي ستشمل كبار السن، ومن هم في دور الرعاية والعاملين في القطاع الصحي وغيرهم من الفئات الأكثر عرضةً لمخاطر الإصابة، في القريب العاجل بحسب تصريحات الحكومة. وبذلك يتصدر لقاح “فايزر/ بيونتيك” قائمة اللقاحات المرخصة للاستعمال في العالم الغربي، لعل ذلك يكون بادرة إيجابية وبداية نهاية أزمة عالمية شلت العالم وعطلت اقتصاده. ومن المتوقع أن تكر سبحة تراخيص الاستخدام الطارئ الصادرة من المنظمات الأوروبية والولايات المتحدة، لتشمل لقاحات أخرى في الفترة المقبلة، ما سيعني أن عدداً أكبر من اللقاحات سيكون معتمداً حول العالم وبالتالي كميات أكبر ستكون متوفرة لتغطية أعداد أكبر من البشر. في سياق متصل، وافقت كل من الصين وروسيا على إعطاء لقاحات كان علماء فيهما يعملون على تطويرها لفئات محددة مبدئياً، ولكن هذه اللقاحات لم تكمل بعد الجولة الأخيرة من الاختبارات السريرية المطلوبة.
إذاً، في ظل هذه الإعلانات المشجعة وانهماك شركات من مختلف أرجاء العالم بالعمل على لقاحات مختلفة لفايروس “كورونا”، وتسابق دول العالم لحجز حصتها من اللقاحات، على أي لقاح سيقع اختيار لبنان؟ كيف يختلف لقاح عن آخر؟ وما الاعتبارات التي تجب مراعاتها لنكون قادرين على الحصول عليها؟ هذه وغيرها أسئلة كثيرة يمكن أن تحيّر المواطن وتشغل باله.
أين لبنان من اللقاح؟
فيما تتسابق دول العالم لحجز كميات كبيرة من اللقاحات تغطي أعداد سكانها وترفع عنها الوباء، يبدو لبنان بطيئاً في هذا السباق، وفي وقت لم يعد الوضع المعيشي يحتمل أي إغلاق أو تعبئة عامة أخرى.
في لبنان، لا بيانات رسمية صادرة عن الحكومة أو عن وزارة الصحة العامة تشرح للمواطن خطة الدولة في ما يخص تأمين لقاحات “كوفيد- 19”. ليس لدينا في هذا الشأن سوى تصريحات من هنا وهناك لوزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن، يعد فيها اللبناني بقرب حصوله على اللقاح. فهل هذه مجرد تطمينات أخرى أم علينا أن نضع ثقتنا ونعول على كلام الوزير؟ فقد سبق أن وعد حسن اللبنانيين بلقاح قبل نهاية العام الحالي مشيراً إلى شهر كانون الأول/ ديسمبر كحد أقصى بحسب تصريحاته الأولى، ليغير أقواله بداية هذا الشهر متوقعاً أن يستلم لبنان اللقاح المنتظر في مدة لا تتعدى منتصف شهر شباط/ فبراير 2021.
في هذا الإطار، أعلن حسن في وقت قريب أن لبنان وقّع اتفاقيتين بالفعل، واحدة للاستفادة من منصة “كوفاكس”، المبادرة العالمية التي أطلقتها “منظمة الصحة العالمية”، والمفوضية الأوروبية وفرنسا استجابة لهذا الوباء والتي تهدف إلى توفير منصف لحوالى ملياري لقاح بشكل أولي للدول الفقيرة ومتوسطة الدخل بحلول نهاية عام 2021، والثانية مع شركة “فايزر”. وبحسب ما كشفه حسن، فإن الاتفاقية مع شركة “فايزر” هي اتفاقية مباشرة تهدف لتغطية 15 في المئة من اللبنانين، فيما لا يتوقع أن تتخطى جرعات اللقاح المؤمنة من “كوفاكس” أكثر من 20 في المئة من تعداد السكان. إن صح كلام الوزير إذاً، فإن ذلك يعني جرعات تكفي 35 في المئة من التعداد السكاني فقط، فماذا إذاً عن الملايين الأخرى من اللبنانيين؟
في بلد يصنف ضمن البلدان الأكثر فساداً، من حق المواطن السؤال عن مرتبته ضمن سلم الأولوية لأخذ اللقاح.
في هذا الخصوص، لمح حسن إلى القطاع الخاص كمساهم محتمل في تأمين أعداد إضافية من اللقاحات لاحقاً عند المصادقة عليها دولياً، ما سيعني، إن كانت هذه هي الخطة بالفعل، أن المواطن الذي لن يتم تصنيفه كأولوية سيتحمل عبء الحصول على اللقاح من القطاع الخاص على نفقته الخاصة. في هذا الخصوص، وفي بلد يصنف ضمن البلدان الأكثر فساداً، من حق المواطن السؤال عن مرتبته ضمن سلم الأولوية لأخذ اللقاح، من سيرسمه؟ وهل سيخضع هو أيضاً للمحاصصات والمحسوبيات؟
أضف إلى ذلك أن عمليات التطعيم ستتم عبر جرعتين تفصلهما مدة زمنية محددة لكل فرد، فما خطة لبنان إذاً لتأمين جرعات تكفي ضعف العدد من اللبنانيين في هذه الحالة؟ وفي إطار التوقع فإن الحماية التي توفرها هذه اللقاحات لن تكون أبدية، بل موقتة والتزود بجرعات من اللقاح بشكل مستمر هو المطلوب. على سبيل المثال، فقد ضمنت المملكة المتحدة البريطانية إمكان الوصول إلى إجمالي 357 مليون جرعة من اللقاحات من 7 مطورين مختلفين في حين لا يتخطى عدد سكانها الـ70 مليون نسمة.
فلنتكلم عن التقنيات المستعملة لإنتاج اللقاح
بروتين السبايك هو بروتين تاجي الشكل يزين غلاف فايروس “كوفيد- 19”. هذا البروتين تحديداً هو المفتاح الذي يسمح للفيروس بالدخول إلى الخلية والشروع في العدوى. هذه المعطيات جعلت هذا البروتين محور التركيز لتصميم اللقاحات. في هذا السياق، استخدمت كل من “فايزر/ بيونتيك” و”موديرنا” التقنية نفسها لصناعة لقاح “كورونا”، الموعود والذي اعتمد على استعمال حمض نووي ريبوزي يرمز لبروتين السبايك على أن تتم ترجمته داخل الخلية وتحفيز المناعة ضده. هذه التقنية جديدة نسبياً في صناعة اللقاحات وإذا نجحت بالفعل فستكون لقاحات “فايزر/ بيونتيك” و”موديرنا” أول لقاحات تعتمد هذه التقنية للاستعمال البشري.
أما لقاح “أوكسفورد/ استرازنيكا”، فقد اعتمد تقنية أخرى مختلفة كانت تمت دراستها لفترات أطول ولأغراض طبية أخرى أيضاً، فاعتمدت أسلوباً أكثر رسوخاً وهو استعمال فايروس معدل جينياً (adenovirus) كناقل فايروسي لتوصيل بروتين السبايك إلى الخلايا، وهي تقنية شبيهة بالتي تم اعتمادها لتصميم لقاح “سبونتك” الروسي أيضاً.
ماذا عن الفعالية؟
في ما يتعلق بـ”فايزر/ بيونتيك” و”موديرنا”، فقد تجاوزت فعالية اللقاح في الحالتين في الحماية من الإصابة الـ90 في المئة، بحسب تصريحات الشركتين. أما بالنسبة إلى لقاح “أوكسفورد/ استرازنيكا”، فالنسبة تراوحت بين 62 و90 في المئة بحسب نظام الجرعات المعتمد. إذ إن خطأ في كمية الجرعة الأولى التي تم إعطاؤها لـ2741 متطوع (نصف جرعة أولى متبعة بجرعة كاملة لاحقة بفارق شهر ) برهنت أنها أكثر فعالية من جرعتين كاملتين بحسب البروتوكول الأساسي. لقاح آخر تم تداوله لإحرازه فعالية عالية وهو لقاح “سبونتك” الروسي التابع لشركات “جمالايا”، ولكن جوانب كثيرة من هذا اللقاح ما زالت مبهمة بخاصة أنه لم ينهِ مراحل التجارب السريرية الأساسية.
الدراسات النهائية على جميع هذه اللقاحات تحتاج المزيد من المتابعة والتدقيق مع المضي قدماً. الأسابيع والشهور المقبلة ستكون كفيلة بالإجابة عن الكثير من الأسئلة حول أداء هذه اللقاحات بخاصة لجهة سلامتها بعيدة المدى، كما فترة الحماية الزمنية التي سيوفرها كل لقاح، ودور اللقاح في وقف انتشار العدوى كما غيرها من الأسئلة التي تشغل بال المواطن والعلماء سواء.
لقاح الانفلونزا السنوي المعتمد لا تتجاوز فعاليته الـ40-60 في المئة في أحسن الأحوال
نتائج هذه الدراسات لم يتم نشرها بعد، ولكن إن برهنت هذه الأرقام الأولية أنها دقيقة فهذا يعتبر نجاحاً كبيراً للقاحات الثلاثة المذكورة آنفاً، وتبقى جميعها فعالةً للغاية. في هذا الإطار، من المناسب هنا أن نذكر أن لقاح الانفلونزا السنوي المعتمد لا تتجاوز فعاليته الـ40-60 في المئة في أحسن الأحوال ومع ذلك فهو يعتبر لقاحاً فعالاً لتجنب مساوئ هجمات الانفلونزا بشكل كبير.
الحرارة… مشكلة!
الأحماض النووية الريبوسية عرضةً للتكسر والتحلل عموماً بخاصة مع وجود النوكليازات، أي الانزيمات المسؤولة عن تحلل الأحماض النووية، في كل مكان. بالتالي، فإن لقاحات مصنوعة من الحمض النووي الريبوسي ستتطلب عنايةً أكثر لناحية الحفظ والتخزين كما تدابير الاستعمال. في هذا الإطار، فقد اعتمدت الشركات التي تنتج هذه اللقاحات أساليب لجعل اللقاح أكثر استقراراً. على رغم ذلك فإن لقاح “موديرنا”، وبحسب تصريحات الشركة يحتاج درجة حرارة -20 مئوية للحفظ والتخزين، لمدة لا تتجاوز الستة أشهر، على أن يبقى اللقاح مستقراً لمدة 30 يوماً فقط على درجات حرارة 2-8 مئوية، في حين يتطلب لقاح “فايزر/بيونتيك” -70/-80 درجة مئوية. وشركة “فايزر/بيونتيك” كانت صرحت أنها تعمل على سبل لجعل لقاحها أكثر استقراراً في درجات حرارة أعلى. أما لقاح “أوكسفورد/ استرازنيكا” فهو الأكثر استقراراً، إذ لا يحتاج إلى درجات حرارة منخفضة جداً ويكفي تخزين اللقاح ونقله والتعامل معه في ظروف التبريد العادية (2-8 درجات مئوية) لمدة ستة أشهر على الأقل. هذه اللوجستيات ليست بعوائق للدول المتقدمة التي تمتلك التجهيزات اللازمة، ولكن ماذا عن دول تجهيزاتها ليست بالمستوى المرتجى كلبنان؟ بحسب تصريحات الوزير حسن فإن لبنان وقّع اتفاقاً للحصول على لقاح “فايزر” الذي يحتاج إلى درجات حرارة متدنية لنقله وتخزينه، ولم يكشف الوزير الكثير من التفاصيل بل اكتفى بالاشارة إلى العمل على هذه النقاط لضمان ظروف الشحن والجهوزية.
هل سنكون قادرين على تحمل الكلفة؟
من المتوقع أن يكون لقاح “أوكسفورد/ استرازنيكا” هو ما سيصل إلى الملايين في الدول النامية الفقيرة أو ذات الدخل المحدود.
لقاحات كل من “فايزر” و”موديرنا” ستترواح أسعارها بين الـ20 و37 دولاراً لكل جرعة لقاح، وهذا يعتبر مكلفاً لدول تعاني أصلاً من أزمات مالية مثل لبنان. على أن لقاح “أوكسفورد/ استرازينيكا” سيكون أقل كلفةً بسعر يقدر بـ3 أو 4 دولارات للجرعة الواحدة. وبالتالي من المتوقع أن يكون لقاح “أوكسفورد/ استرازنيكا” هو ما سيصل إلى الملايين في الدول النامية الفقيرة أو ذات الدخل المحدود، ليس فقط بسبب سعره المناسب بل أيضاً كونه سهل النقل والحفظ والتخزين. ولكن الأهم هو أن “استرازينيكا” عضو في “كوفاكس” التي وقع معها لبنان اتفاقيته.
في هذا السياق، كان لبنان حصل على قرض دعم من البنك الدولي مخصص لـ”كورونا”، لتمويل حصته، وقد أشار الوزير حسن أن ليس لدى لبنان مشكلات مادية في هذا الخصوص، كما أنه حصل على “سعر خاص” لتأمين جرعاته من لقاح شركة “فايزر”.
ما حققه العلم خلال سنة واحدة فقط هو إنجاز تاريخي. إجراءات المصادقة على أي لقاح عموماً، كانت تتطلب أشهراً وسنوات من الدراسة والتدقيق والمراجعة في الحالات الطبيعية ولكن وباء “كوفيد- 19″، فرض حالةً خاصة من الطوارئ وتشريع الضرورة. ومع غياب أي دلائل لأثار جانبية خطيرة حتى اللحظة يبدو هذا الطرح مناسباً ولا يستدعي قلق عموماً.