تواصل القوات التركية الموجودة في الأراضي السورية مع حلفائها من فصائل الجيش الوطني، مناوراتها العسكرية في كل من ريف حلب الشمالي وتل أبيض ومنطقة رأس العين شمال محافظة الرقة وشمال غربي محافظة الحسكة، في ظل حديث تركيا عن هجوم عسكري يستهدف مناطق جديدة خاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، الجناح العسكري للإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية.
العملية العسكرية التركية التي قد تستهدف منطقة تل رفعت وريف مدينة منبج وصولاً إلى جسر قره قوزاق دون دخول المدينة، يهدف الأتراك منها إلى التضييق أكثر على الأكراد و”حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” عدو تركيا التقليدي، إضافة إلى بسط نفوذهم على المزيد من الأراضي السورية، لاستكمال مشروع الطوق السكاني من مهجري المدن السورية العربية على حدودها الجنوبية، ليكون بديلاً عن تجمعات سكانية ذات غالبية كردية في بعض المناطق، عفرين مثالاً.
أهداف تركيا البعيدة ليست الحامل الوحيد لعملياتها العسكرية الحالية ضد قوات “قسد”، لكن العملية تحمل أهدافاً اقتصادية وتجارية، فمن أهم أهداف عمليتها الحالية التي تنوي شّنها، وصولاً إلى نهر الفرات بالقرب من مدينة منبج، السيطرة على سد تشرين أهم المنشآت الحيوية في ريف محافظة حلب، سد تشرين الذي بني في عهد حافظ الأسد ودخل الخدمة عام 1999، بتكلفة بلغت وقتها 22 مليار ليرة سورية.
سيطرة تركيا على السد توفر لها الكثير من المكاسب على صعيد مناطق نفوذها في جنوب سوريا، فالسد يحوي على 6 مجموعات توليد كهربائية باستطاعة إجمالية للمحطة /630/ ميغاواط الضاغط الأعظمي (30 م) والضاغط الأصغري لعمل المجموعات (15.5 م) الضاغط الاسمي (26 م)، ما يعني تحقيقها شبه اكتفاء ذاتي لمناطق نفوذها السورية من الطاقة الكهربائية، بدل تزويدها بالكهرباء الداخلية لولايات شمال تركيا، وهذا قد يمنحها أموالاً جيدة إذا ما تم تقديم الخدمة مقابل رسوم تفرض على السكان.
وصول تركيا إلى شواطئ الفرات بالقرب من مدينة منبج، يوفر لها أيضاً السيطرة على جسر قره قوزاق، الذي يُعتبر الطريق الواصل بين مناطق كثيرة من المدن الواقعة شرق الفرات بغربه، بخاصة في أرياف حلب الشرقية ومناطق ريف الحسكة والرقة القريبة، ما يعني سيطرة تركيا وحلفائها على طريق تجاري يصل تلك المناطق بمناطق سيطرة النظام، ما يوفر لحلفائها من السوريين دخلاً مادياً نتيجة الضرائب المفروضة على المعابر التجارية المؤدية إلى مناطق النظام، وهذا الأمر ينطبق على مدينة تل رفعت أيضاً.
الإدارة الذاتية التي باتت تنتظر انطلاق المعركة، عادت للحديث عن ضرورة تحمل النظام السوري مسؤولياته في الدفاع عن الأراضي السورية، وهذا نهج تلك الإدارة منذ بدء العمليات العسكرية التركية التي تستهدف مناطق الوجود الكردي المباشر، وهو ما استغله النظام وبدأ من خلاله بإرسال تعزيزاته العسكرية إلى مدينة منبج، التي ترافقت مع تصريحات من رأس النظام السوري بشار الأسد قال فيها: “إن الهجوم التركي سيواجه بمقاومة شعبية”.
استنجاد الإدارة الذاتية بالنظام السوري يعود إلى حالة العجز التي وصلت إليها، بسبب صمت الحليف الأول، الولايات المتحدة الأميركية عن التدخلات التركية المستمرة، والتفاهمات شبه المعلنة بين موسكو وأنقرة. لكن الإدارة ما زالت تريد للتعاون بينها وبين النظام، أن يكون ضمن إجراءات محددة لا تفتح للنظام باب العودة بشكل كامل إلى مناطقها، إنما فقط في تلك المناطق التي تتوقع خسارتها لحساب تركيا، على أمل أن تحصل يوماً ما على وعود دستورية من النظام بالاعتراف بحقوق شعبها، بعدما فشلت على مدار تلك السنوات في الحصول على اعتراف دولي من حلفائها قبل غيرهم وعلى رأسهم الولايات المتحدة، أو تحقيق نفوذ إقليمي، أو أن تحصل على المطالب التي أرادتها من النظام في أوج قوتها ونفوذها.
محاولات النظام الدخول على خط المواجهة لا تأتي رغبة منه في مواجهة عسكرية مع تركيا، فتلك المواجهة حتماً ستكون لمصلحة الأتراك وحلفائها في ظل حالة الضعف التي يعانيها الجيش. وكان سبق أن عاش هذه التجربة في عفرين عندما حاول مساندة الوحدات الكردية هناك، لكن النظام يريد إبقاء الورقة الكردية قريبة من يديه، على أمل أن تدفع التدخلات التركية المستمرة والتي يعتبرها الأكراد أكثر خطراً من عودة النظام، نحو عودة تلك القوات إلى حضنه بشكل كامل ما يرفد جيشه بقوة عسكرية مسلحة ومدربة جيداً، ما يجنبه أي مخاطر لانسحاب أحد حليفيه روسيا أو إيران من الأراضي السورية.
معرفة الإدارة الذاتية بأهداف النظام وأنه يخوض معها سياسة مرثونية تنتهي بعودتها إلى كنفه بدون أي منجز ملموس لمصلحة القضية الكردية، لا يمنعها من الخوض فيها على أمل تغيرات محلية ودولية مستقبلية، برغم صعوبة حدوثها، بخاصة أن اللجوء إلى روسيا لم يعد ممكناً، فروسيا لن تتوانى في بيعهم على دفعات كما حدث سابقاً مقابل مقايضات سياسية لموسكو مع أنقرة.
بين تجاذبات ومطامع القوى الفاعلة شرق الفرات، تعيش المجتمعات العشائرية في المنطقة حالة تباين في الرؤى والمصالح، فلا أهداف موحدة ضمن إطار عام يجمع بين تلك المجتمعات، بل بات كل منها يبحث عن نجاته وأقرب الحلفاء له من الخيارات المتاحة،ويمكن تقسيم تلك المجتمعات القبلية على 3 أقسام
أولا، العشائر العربية في محافظة الحسكة السورية، وتلك العشائر هي المستفيد مما يجري على كافة الأصعدة، ومهما كانت نتائج العمليات العسكرية التركية ضد الإدارة الذاتية، فهي تميل إلى الخيارات التي تفرضها الوقائع سواء بمزيد من التدخل التركي في المحافظة أو عودة النظام السوري إليها، ومرد هذا الأمر إلى حالة الخلاف الشديد بين تلك العشائر والإدارة المبني على أساس قومي واحتكار المكون الكردي السلطة خلال تلك السنوات، وما رافقه من تغير ديمغرافي لبعض المناطق العربية، ولا يمكن في هذا الصدد التنبؤ بأي الطرفين هو الأكثر شعبية، تركيا أو النظام داخل المجتمع القبلي في المحافظة، فلكل منهما أنصاره ومريدوه.
ثانياً، أبناء المجتمعات العشائرية في مناطق العملية المستهدفة، وهؤلاء يميلون إلى سيطرة فصائل الجيش الوطني على المنطقة، لكونه الطرف الأقرب لهم بخاصة في مدينة تل رفعت، كونه أكثر من يمثل مطالب المجتمع المحلي، بخاصة أن تلك المناطق كان لها دور رائد في الحراك الثوري ضد النظام السوري منذ عام 2011، وعودة النظام إلى تلك المنطقة تعني عودتها إلى يد عدوها الحيوي والذي لن يترك أهلها سالمين.
ثالثاً، المجتمع العشائري في مدينة الرقة وريفيها الغربي والشرقي ومناطق شرق الفرات في محافظة ديرالزور، هذه العشائر ترغب في استمرار “قوات سوريا الديمقراطية” في الانتشار في المنطقة، خصوصاً في ظل الحماية الأميركية، لا سيما أن خياراتها الأخرى محدودة، وتتمثل بالنظام السوري وحليفتيه روسيا وإيران من جهة، وتنظيم “داعش” من جهة أخرى، وهذه الأطراف من أهم أعداء تلك المجتمعات. لكن برغم تلك الرغبة فإن تلك المجتمعات تضع في حساباتها أن الإدارة الذاتية قد تتخلى عن المنطقة يوماً ما لمصلحة النظام وحلفائه، وفي هذه الحالة تميل تلك المجتمعات إلى التفاهم مع الروس والحصول على شروط استسلام مشابهة لما حصل في درعا، بخاصة أن خيار التنظيم غير مرغوب به وهو ضعيف لا يمكنه ملء فراغ الإدارة في حال حدوثه والتصدي لمطامع النظام وروسيا وإيران في المنطقة.
إقرأوا أيضاً: