fbpx

عن الحب الذي يقتل الأكراد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تدعي حكومات الدول المهيمنة على بلاد الأكراد أنها “لا تعادي الشعب الكردي، ولكنها تحارب الإرهابيين والانفصاليين والمخربين… إلخ”. ولا تتوانى عن القول: “نحنُ نحمي مواطنينا من ذوي أصولٍ كردية” أو “نحنُ ذهبنا ودمرنا وقتلنا المئات من (الإرهابيين الأكراد) لأننا نحب الأكراد ونريد حمايتهم!”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دأبت السلطات والحكومات المتعاقبة على الدول التي تهيمن على كردستان، على إنكار أي وجود للشعب الكردي، وأحياناً تصوغ اعترافاتها الخاصة بالأكراد، بعد تجريدهم من السياسة وإنكار أي مطلب حقوقي لهم.

رافق هذه السياسات الهادفة إلى إبقاء الأكراد من دون كيان سياسي ولا هوية أو حقوق وشخصية مستقلة، تسميات عجيبة- غريبة منها (أتراك الجبال) و(أولاد الجن) و(بدو الفرس)، والكثير من التسميات العنصرية التي تهين الشعب الكردي وتقلل من كينونته وإنسانيته، ولا تترك أي مجال للاحترام أو الصداقة.

السلطات التي تتقاسم بلاد الأكراد، كانت، وما زالت، تعارض أي حركة أو انتفاضة أو مطلب عادل من مطالب الشعب الكردي وتنعت هذه الحركات بشتى التسميات مثل (مشاغبين)، (مخربين)، (ملحدين)، (انفصاليين)، (إرهابيين)، (عملاء)، (خونة)، (بقايا الأرمن)، (إسرائيل الثانية)، (رجعيين)، (شيوعيين)، (كُفار)، (أعداء الله).

في السنوات الأخيرة، وجرّاء التطورات الهائلة في تكنولوجيا الاتصالات والعولمة، وتمكن الأكراد من إيصال صوتهم بأي شكلٍ كان إلى العالم، وظهور نوع من الاهتمام والتعاطف الدولي مع الشعب الكردي، وكنتيجة طبيعية لثوراتهم وانتفاضاتهم المتتالية، فإن حكومات الدول المهيمنة على بلاد الأكراد غيّرت قليلاً من خطابها الرسمي. مع العلم أن خطابها الشعبي وممارساتها على أرض الواقع، لم تتغير بأي شكل من الأشكال. فبدأت هذه السلطات والحكومات في خطاباتها الرسمية تدّعي أنها “لا تعادي الشعب الكردي، ولكنها تحارب الإرهابيين والانفصاليين والمخربين… إلخ”. ولا تتوانى عن القول: “نحنُ نحمي مواطنينا من ذوي أصولٍ كردية” أو “نحنُ ذهبنا ودمرنا وقتلنا المئات من (الإرهابيين الأكراد) لأننا نحب الأكراد ونريد حمايتهم!”.

هذه الحكومات القمعية لن تحار كثيراً في إيجاد بعض الشخصيات المتواطئة من الأكراد أنفسهم، وتدفعها لواجهة الإعلام، وتعتبرهم “النموذج الجميل للكردي الجيد”، وربما لن تجد هذه الحكومات من إيصال بعض “أكرادها الجيدين” إلى بعض المناصب الحكومية، وستقول في كل مناسبة “أنظروا فنحنُ لسنا ضد الأكراد، فها هو الشخص الفلاني أصبح وزيراً وهو من أصول كردية”. حالة النفاق والالتفاف على الحقيقة ومحاولة خداع العالم سمة تشترك فيها الأنظمة القمعية والدول والحكومات التي تحتل أوطان الشعوب الأخرى.

الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، كان يتفاخر ببعض الأكراد الذين كانوا يخدمونه ضد الثورات الكردية. والشعب الكردي، عبر حركاته السياسية، كان يسمي هؤلاء المرتزقة “الجحوش”، حتى باتت تسمية شبه رسمية لهؤلاء. صدام كان يقول إنه ليس ضد الشعب الكردي بل هو ضد البارزاني والطالباني والمخربين والخونة الأكراد، وكان يقول إنه يريد إنقاذ الأكراد من هؤلاء (المخربين الخونة)، ومن فرط حبه للأكراد، قام بقتل مئات الآلاف من المدنيين الأكراد في عمليات الأنفال في الثمانينات، ومن شدة حبه للأكراد قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية، ولكنه لم ينسَ أن تكون الغازات السامة برائحة التفاح والفاكهة.

الخميني لم يكن ضد الأكراد أيضاً، ولكنه كان فقط يحارب (أعداء الله والكفرة) في كردستان، وارتكب الحرس الثوري مئات المجازر في المدن الكردية وأعدم وهجّر الآلاف. وكذلك فعلت الدولة السورية بحكوماتها المتعاقبة، فهي لم تكن ضد الأكراد، بل كانت ضد (الانفصاليين وعملاء الامبريالية والقوميين الأكراد)، ومن شدة حب الحكومات السورية للأكراد فإنها حرقت عشرات الأطفال في سينما عامودا عام 1960، وحرّمت حوالى ربع مليون مواطن كردي من الجنسية السورية وحولتهم بين ليلة وضحاها إلى أجانب وغرباء وغير موجودين رسمياً على وجه الأرض، وطردت عشرات الآلاف من الأكراد من قراهم وجلبت عشائر عربية وأسكنتها محلهم. ومن شدة حب هذه الحكومات للأكراد فإنها منعت اللغة والموسيقى والزي التقليدي والثقافة والألوان والأعياد والأسماء الكردية.

أما الدولة التركية وحكوماتها المتعاقبة، فقد وصلت إلى درجة العشق في علاقتها بالأكراد. فهي تحبهم إلى درجة تسيير حملات إبادة صامتة وفرض التتريك عليهم وإنكار وجودهم كشعب وهوية قومية، وهي تمنع لغتهم وأسماءهم وتغير أسماء مدنهم وقراهم وجبالهم وسهولهم، وتمنع الأسماء الكردية عن أطفالهم وتمنع الأعياد الكردية والموسيقى والغناء والكتابة وحتى الأحرف الكردية. تركيا ليست ضد الأكراد، بل هي فقط ضد (الانفصاليين والإرهابيين)، لذلك فهي تعدم عالم دين مثل الشيخ سعيد بيران، وما زال قبره مجهولاً منذ قرن من الزمن. تعدم رجل الدين العلوي الكردي، سيد رضا، مع رفاقه وابنه، وتدمر محافظة ديرسم (التي بات اسمها تونجلي نتيجة الحب الشديد للأكراد) عن بكرة أبيها. ترتكب المجازر في وادي زيلان وجِزْرة وشرناخ ونصيبين وآمد وهكاري. إنها تفعل كل ذلك من فرط الحب.

العشق التركي للأكراد لم يقف داخل حدودها فقط، بل انتقل إلى الأكراد في سوريا. وكأنه لا يكفي عشق ومحبة النظام البعثي وجبهة النصرة و”داعش” والفصائل الاسلامية المتطرفة، حتى أتحفتنا الحكومة التركية بقصة حبها الجديدة خارج حدودها. الأتراك “يحبون أكراد سوريا ويريدون حمايتهم وإنقاذهم من وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديموقراطية”. تركيا التي غمرت الشعب الكردي في تركيا بحبها وعطفها وحمايتها، ولم يبقَ أمامها سوى تصدير هذا الحب عبر الحدود إلى أكراد سوريا (روجآفا) أيضاً.

وقد عرف الأكراد في سوريا، مثلهم مثل مكونات الشعب السوري الأخرى، الحب التركي طيلة 500 سنة من الاحتلال العثماني، عرفوا هذا الحب في “سفربرلك” و”الخازوق” و”القشلة” و”قراقوش” و”اعدامات ساحة المرجة” و”مليون ونصف المليون أرمني قتلوا طعناً وحرقا وجوعاً من اسطنبول إلى دير الزور” و”مجازر سيفو بحق المسيحيين” و”73 فرماناً للإبادة ضد الايزيديين” و”احتلال لواء اسكندرون وضمه إلى تركيا”.

تركيا كانت الداعم الأكبر للنظام السوري منذ اتفاقية أضنة عام 1998 ضد الشعب الكردي، ومن ثم تحولت إلى قوة تدمير لسوريا والثورة السورية، وفتحت أبوابها لكل الجهاديين والمتطرفين في العالم ليعبروا إلى سوريا ويحولوها إلى “تورا بورا الشام” ودفعت بكل المجموعات الإرهابية والمتطرفة لمهاجمة الأكراد والعمل على قتلهم وتهجيرهم والقضاء على هويتهم ومكتسباتهم. ومن ثم تدخلت الدولة التركية مباشرة بقواتها العسكرية بصحبة الارهابيين والمتطرفين في عملية “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، فاحتلت الشريط الحدودي من جرابلس حتى إدلب، وهي تزعم وتهدد وتثور وتفور بهدف احتلال منبج وكل المنطقة المتبقية في شرق الفرات. تركيا تفعل كل ذلك وهي تكرر من دون خجل، أن “تحركها ليس ضد الأكراد؛ بل ضد الإرهابيين والانفصاليين” وتضيف من دون خجل “نحنُ أصدقاء للأكراد ونحبهم”، يا الله! وتزيد في الطرب لحناً: “نحنُ الأصدقاء الوحيدون للمواطنين الأكراد”.

لنفترض مثلاً بأن تركيا تحب الأكراد وهي صديقتهم وتريد حمايتهم. ولنترك ما تفعله تركيا بمواطنيها الأكراد وكذلك الأتراك في تركيا، ولننظر ملياً إلى ممارسات تركيا في عفرين وبقية المناطق الكردية والعربية المحتلة في الشمال السوري خلال سنتين فقط. تركيا تقول إنها ليست ضد الأكراد، حسناً، لنسأل تركيا وحكومتها وقادتها:

– قبل احتلالكم مناطق جرابلس واعزاز والباب كان هنالك أكثر من 130 قرية كردية في هذه المنطقة. أين هم أصحاب هذه القرى من الأكراد الآن؟ ومن يسكن في هذه القرى الآن؟

– لماذا ترفعون علمكم التركي وصور رئيس دولتكم التركية على أراضي دولة أخرى (سوريا) وعلى أراضي شعوب أخرى غير تركية؟

– لماذا تقومون بتغيير أسماء القرى والبلدات والميادين والشوارع والأحياء الأصلية من اللغة الكردية إلى اللغة التركية وتقومون بتتريك هوية المنطقة؟

– لماذا منعتم اللغة الكردية في عفرين وريف حلب الشمالي وأحللتم بدلاً منها لغتكم التركية واللغة العربية، مع العلم أن هذه المناطق كردية؟

– كاوا الحداد رمز وأسطورة كردية شبه مقدسة ومرتبطة بأعظم أعياد الأكراد (أي النوروز)، ما إن دخلتها القوات التركية برفقة المتطرفين إلى عفرين، حتى سارعتم إلى هدم التمثال وإهانته، فهل “كاوا” أيضاً انفصالي وإرهابي؟

– طوال سنوات المقتلة السورية قتل مئات شباب عفرين وبناتها، دفاعاً عن منطقتهم وأهلهم، وهؤلاء الذين بذلوا دماءهم، لهم قيمتهم المعنوية المقدسة لدى كل الشعب الكردي، بغض النظر عن أفكارهم السياسية والحزبية. ما أن احتلت تركيا عفرين حتى سارعت إلى جرف مقابر الشهداء وتدميرها وإهانتها وتسويتها بالأرض.

– خلال حملة احتلال عفرين قامت تركيا بقصف البيوت والأطفال والمدنيين عشوائياً وقتلتم العشرات منهم، إضافة إلى مئات الجرحى والمصابين، ودُمِّرت المدارس والمستشفيات والسدود ومحطات الكهرباء وابراج الهواتف ومحطات الاذاعة والمواقع الأثرية التاريخية. هل هكذا تعبّرون عن حبكم للأكراد أيها “الأصدقاء الوحيدون لنا”؟

– تم ترهيب وتهجير أكثر من 400 ألف مواطن كردي سوري من عفرين خلال أقل من ثلاثة اشهر، وجلبت تركيا عشرات الآلاف من الفصائل المتطرفة والنازحين والمهاجرين وأسكنتهم في بيوت الأكراد. هل التغيير الديموغرافي يدخل أيضاً في خانة “محبة الأكراد”؟

– هل بقي مسيحي واحد أو كنيسة واحدة في عفرين بعد احتلال تركيا لها؟ هل بقي إيزيدي واحد أو معبد إيزيدي سليم واحد في عفرين بعد الاحتلال التركي؟

ما يمكن أن نسمعه من أي مواطن كردي أو عربي أو سرياني، في شمال سوريا، الممثلين في المشروع السياسي لقوات سوريا الديموقراطية، بخصوص الحب التركي: أرجو أن تكفّوا عن حبّكم وصداقتكم لنا، لا نعاديكم ولا نريد أن تتدخلوا في شؤوننا السورية ولا أن تحتلوا بلادنا. إن كنتم تحبوننا حقاً، فها هم أكثر من 25 مليون كردي يعيشون ضمن حدودكم الرسمية، أظهروا صدقكم، أفرجوا عن عشرات الآلاف من المعتقلين الأكراد والأتراك، اتركوا الأكراد يقررون مصيرهم ويكونون شركاء حقيقيين في دولتكم. شمال سوريا، بكل مكوناتها، لن تكون جزءاً من الدولة التركية، وستحل قضاياها مع الدولة التي يعيشون فيها ومع الشعوب التي يشاركونها الهواء والماء والتراب، مع مقدار من الحب غير القاتل.