fbpx

عن عصر صناعة الرغبة والديكتاتوريات المستنيرة (5):
هندسة الموافـَقة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مع بزوغ نجم المحللين النفسيين بداية الخمسينيات، وتنامي نفوذهم، بدأت “نخبة” أمريكية جديدة تنبثق يَربطها قاسم مشترك يتجسّد في الفرضية الفرويدية القائلة بلاعقلانيّة الجماهير. كان الطريق أمام تلك النخبة مفتوحاً ومُعبّداً لاستغلال التقنيات النفسية الجديدة في السيطرة على لاوعي الجمهور..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في بداية الخمسينيّات، كانت أفكار التحليل النفسي قد تغلغلت في أعماق الحياة الأمريكية، باتَ المحللون النفسيّون وقتها أغنياء وذوي سُلطة، امتلكَ العديد منهم مكاتب استشارية تُطلّ على الـ “سنترال بارك” في نيويورك، سياسيّون وكُتّاب مشاهير كـ “آرثر ميلر” وصاحب (عَربة تُدعى الرّغبة) كانوا مَرضاهم.

كان صعود نفوذ التحليل النفسي في الولايات المتحدة إبّان تلك الفترة تتويجاً استثنائياً لآنا فرويد وأفكارها التي اشتغلت على ترويجها بجِدّ، اشترت هي وصديقتها المقرّبة دورثي برلنغهام بيتاً ريفياً في قرية تدعى  Walberswick على الساحل الشرقي لبريطانيا، وأثناء مكوثهما هناك، عادَ أبناء دورثي وأحفادها من الولايات المتحدة لزيارة الوالدة-الجدة.

ظاهرياً تبدو تلك الزيارة وكأنّها عائلية، لكن في العمق لم تكن الأمور تسير على ما يرام، حيث اثنان من أبناء دورثي حللتهما آنّا مطلع الثلاثينيات باتا يُعانيان انهيارات عصبية، انهار زواجهما، أدمَنَ أحدهما يدعى “بوب” على الكحول، وعانت الأخرى تُدعى “مابي” من نوبات قلق واكتئاب حادّة، واتّضحَ أن سبب الزيارة كان لاستكمال المزيد من جلسات التحليل النفسي، وبَدَا أن وصفة آنا فرويد لم تنجح.

من الواضح أنّ إدمان ابن دورثي برلنغهام (بوب) على الكحول يُشير إلى أنه لم يستطع التأقلم مع أفكار آنا فرويد بما تتضمّنه من “ضرورة الالتزام بالعادات المقبولة مجتمعياً”، ولا العيش على امتداد ما يُعرفّه المجتمع بأنه (العادي والطبيعي والمقبول).. ويعني أيضاً أنّ التحليل النفسي لأطفال دورثي الذين كانوا أشبه بحقل تجارب بالنسبة لـ آنّا قد انعكسَ سلباً عليهم، وأثّر بشكل تدميري للغاية في شخصياتهم، الأمر الذي سنراه لاحقاً؛ لكن يجدر التذكير بأن تلك التجربة كانت قد صارت وقتها أُمثولة للحياة الأمريكية (المقال 4)؛ تم البناء عليها في برامج حكومية، وفي تأسيس آلاف مراكز التحليل والطب النفسي في الولايات المتحدة، وفي خلق مواطنين ومستهلكين أمريكيين نموذجيين.

مع بزوغ نجم المحللين النفسيين بداية الخمسينيات، وتنامي نفوذهم، واهتمام العاصمة واشنطن بهم وبما يفكّرون، بدأت “نخبة” أمريكية جديدة تنبثق في عالم السياسة، التخطيط الاجتماعي، وقطاع الأعمال، يَربطها قاسم مشترك يتجسّد في الفرضية الفرويدية القائلة بـ (لاعقلانيّة الجماهير)؛ لذا، ولـ (تمكين الديموقراطية بشكلها الأمريكي القائمة على نظام السوق الحر) كان الطريق أمام تلك النخبة مفتوحاً ومُعبّداً لاستغلال التقنيات النفسية الجديدة في السيطرة على لاوعي الجمهور.. وهذا يُحيلنا مرة أخرى إلى أفكار الكاتب السياسي الشهير “والتر ليبمان” حين دعا إلى ضرورة وجود نخبة لقيادة ما أسماه بـ “القطيع الحائر – The Bewildered Herd” في كتابه (الرأي العام 1922).

اعتقدت النخبة السياسية والاجتماعية الجديدة في الولايات المتحدة آنذاك أنه لابدّ منها لأنّ المواطنين الأمريكيين غير قادرين -بمفردهم- أن يكونوا ديموقراطيين (بحكم أنّهم تقودهم قوى غير عقلانيّة)، لذلك فَهُم بحاجة إلى مَن يقودهم مِن أعلى، ويَخلق الظرف الذي من شأنه أن يُنتج أفراداً قادرين على التصرّف بعقلانية كـ مواطنين ومستهلكين ديموقراطيين على حدّ سواء.

كذلك، لم تَعتبر النخبة الأمريكية في ذلك الوقت أنشطَتها -التي تَفترض لاعقلانية الجماهير- أنشطةً مُعادية للديموقراطية إذ تَنزع عنهم أهليّة اتخاذ القرارات، إنما اعتَبرت أنها تقوم بخلق الظروف المثالية لضمان استمرارية العملية الديموقراطية نفسها في المستقبل!. “إن كانت القِوى غير العقلانيّة هي من يقود الإنسان، إذاً يجب إعادة النظر في الديموقراطية – والتر ليبمان”.

يقول ماو تسي تونغ: “سنجعل من ذاكرة شعبنا صفحة بيضاء لكي نكتب عليها أجمل العبارات وأنبل الأفكار”.

في العام 1953 فجّر الاتحاد السوفييتي قنبلته الهايدروجينية الأولى، ليسيطر الخوف من الشيوعيّة والحرب النووية على الولايات المتحدة، لكن في الوقت الذي كانت فيه السلطة الأمريكية مهتمّة بطمأنة الجماهير والتظاهر بالهدوء تجاه التهديدات الجديدة، كان لدى إدوارد بيرنيز رأيٌ آخر. 

ابن اخت فرويد الذي أسس مهنة العلاقات العامة في العشرينيات، هو أحد أكثر الأمريكيين نفوذاً في الخمسينيات، مستشارٌ لكبرى الشركات، وصديق الكثير من السياسيين، وناصح للرئيس آيزنهاور، كان نفوذه يزداد أكثر حين التَفتَ إليه السياسيون الكبار لمساعدتهم إبّان أزمة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك.

كان إدوارد بيرنيز يجادل -من موقعه في الدائرة المحيطة بالرئيس آيزنهاور- في أنه بدلاً من تقليل مخاوف الناس من الشيوعية والحرب النووية، وعوضاً عن الأخذ والرد والمحاججة والجدال ومحاكمة الأمور بعقلانية (وهو أمر غير مثمر لأن البشر غير عقلانيين من وجهة نظره)، يجب العمل على استثارة تلك المخاوف وتضخيمها، لتُصبح تلك الطريقة سلاح الولايات المتحدة في خضم أزمة منتصف القرن العشرين.

كخاله فرويد، كان بيرنيز يرى أنّ البشر مدفوعون بقوى غير عقلانية، وأنّ الطريقة الوحيدة للتعامل مع الجمهور هي في التواصل مع رغباتهم ومخاوفهم الداخلية اللاواعية، تقول ابنتهُ آنّ: “مافهمهُ والدي عن المجموعات هو أنها قابلة للتلاعب، إنها مرنة، ويمكن الاستفادة واستغلال أعمق رغباتها، وأعمق مخاوفها.. لم يكن يعتقد أن للعامّة حُكم موثوق به، كان من السهل بالنسبة له أن يصوّتوا للشخص الخاطئ، أو يريدوا الشيء الخاطئ، لذا يجب قيادتهم من أعلى”.

في تلك الفترة، كانت شركة United Fruit الأمريكية للفاكهة أحد أهم عملاء بيرنيز، تمتلك مساحات شاسعة من حقول الموز في “غواتيمالا” بمساعدة حكّامها العسكريين الخاضعين للولايات المتحدة، عُرفت غواتيمالا آنذاك بكونها “جمهورية الموز“، لكن في العام 1950 تم انتخاب ضابط شاب يدعى “جاكوبو آربينز“، وقد وعدَ منذ توليه الحكم بمحو سيطرة United Fruit على بلاده، ثم أعلنَ أن الحكومة ستستولي على معظم أراضي الشركة الأمريكية، الأمر الذي تسبب بكارثة على United Fruit التي توجّه مدراؤها إلى إدوارد بيرنيز طلباً للمساعدة.

أشارَ بيرنيز إلى يونايتد فروت بأن عليها الدفع باتجاه تغيير الأمر من كونه صادر عن حكومة غواتيمالا المُنتَخبة، إلى كونه صادر عن ذاك الكيان الخطير ذو النفَس الشيوعي، القريب من الشواطئ الأمريكية؛ واشتغَلَ بيرنيز من جانبه، وبخبرته وتلاعبه المعهود، على تحويل حكومة غواتيمالا الجديدة إلى تهديد للديموقراطية الأمريكية في خضمّ الحرب الباردة، أي في الوقت الذي كانت الحكومة الأمريكية مشغولة بتهويل خطر الشيوعية والحرب النووية.

قام برنيز بإنشاء وكالة صحافة مستقلة زائفة تدعى “Middle America Information Bureau” (مكتب أمريكا الوسطى للمعلومات) أمطرت الإعلام الأمريكي بوابل من التقارير الصحفية الكاذبة التي تدّعي أن موسكو تخطط لاستخدام غواتيمالا لمهاجمة الولايات المتحدة، كان بيرنيز بارعاً في إخراج عميله التجاري من المشهد، وجَعْل المشكلة تبدو وكأنها مسألة ديموقراطية أمريكية، وقِيَم أمريكية تحت تهديد الرّعب الشيوعي الأحمر .

في حقيقة الأمر، كان الرئيس الغواتيمالي الجديد (آربينز) ديموقراطياً اجتماعياً، لا علاقة له بموسكو، لكن بيرنيز حوّله إلى تهديد شيوعي ضد الولايات المتحدة، نظّمَ رحلة إلى غواتيمالا مع مجموعة من الصحفيين الأمريكيين ممن لا يعرفون الكثير عن غواتيمالا وسياساتها، ثم رتّبَ لقاءاً لهم مع مجموعة من السياسيين الغواتيماليين اختارهم بيرنيز ليُخبروا الصحفيين الأمريكيين بأن آربينز شيوعي تتحكّم به موسكو، واستفاد من مظاهرة مُناوِئة للولايات المتحدة في العاصمة الغواتيماليّة احتشد أنصارها خلال الرحلة، ليُضفي المزيد من الزخم على الموضوع.

في العمق كان الرئيس الأمريكي آيزنهاور قد وافق سِرّاً على عملية الإطاحة بحكومة آربينز المنتَخَبة، تلقّت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) أوامر لتدبير الانقلاب، وقامت بتدريب وتسليح جيش من المتمردين الغواتيماليين بمساعدة شركة United Fruit، وفي الوقت الذي كانت الطائرات الأمريكية التي يقودها طيارون من الـ CIA تُلقي بالقنابل على غواتيمالا العاصمة، كان بيرنيز مشغولاً بحملته الدعائية في الصحافة الأمريكية، يُهيّء الشعب الأمريكي لرؤية الأمر كما لو أنه “تحرير” لغواتيمالا من قبل المناضلين لأجل الديموقراطية!. 

لقد أدركَ بيرنيز أن الانقلاب سينجح حين تسمح ظروف الجماهير والصحافة، وقد هيّأ تلك الظروف بنفسه، لكنه في العمق كان يُعيد تشكيل الواقع، والرأي العام، ويَكتب التاريخ بطريقة متلاعبة، انتهازية، دنيئة، وضيعة، ولا يمكن نسيانها، ككل حكّام منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ زمن طويل، وحتى الآن. 

على أية حال، في 27 حزيران/ يونيو عام 1954 فرَّ الكولونيل آربينز من غواتيمالا، ونصّب الأمريكيون قائداً جديداً للبلاد يدعى “كارلوس كاستيلو أرماس“، وبعدها بأشهر قليلة قام قسم العلاقات العامة في شركة United Fruit بتنظيم زيارة لنائب الرئيس الأمريكي نيكسون آنذاك، وعرضوا عليه مجموعة من كتب الأدب الماركسي، قالوا إنهم عثروا عليها في القصر الرئاسي.

المثير هو أن أحد عملاء الـ CIA المسؤولين عن تدبير عملية الانقلاب في غواتيمالا ويُدعى “E Howard Hunt Jr” أُلقيَ عليه القبض لاحقاً في العام 1972 كأحد لصوص المعلومات الخمسة اللذين تورّطوا في عملية تجسس على اللجنة القومية للحزب الديموقراطي الأمريكي لصالح الرئيس نيكسون، فيما يُعرف بـ “فضيحة ووترغيت“.

والمثير أكثر هو أنّ أحد المتورّطين في هذه الفضيحة السياسية الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة يُدعى روجر ستون، كان وقتها ضمن طاقم الحملة الانتخابية للرئيس نيكسون، وبعده ريغان، جورج بوش الأب، وغيرهم، قبل أن يتمكّن من إيصال دونالد ترامب أخيراً سدّة الحُكم، تطاله (ستون) اتهامات بالتواصل مع “جوليان أسانج” مؤسس “ويكيليكس” لتسريب معلومات بغية تقويض فرص هيلاري كلينتون إبان الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وبالتواصل مع شركات تبيع معلومات المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لاستخدامها في استهداف الناخبين الأمريكيين بالأخبار، والمعلومات المضللة، والتلاعب بهم لصالح موكّله ترامب، وحرمانهم بالمحصلة من حقّهم في معرفة المعلومات الحقيقية التي يستحقونها لاتخاذ خيارهم الدستوري، سنتطرق لقصته لاحقاً.

مثل كثيرين غيره في الخمسينيات، كان إدوارد بيرنيز يرى بأن مصالح الأعمال الأمريكية، ومصلحة الولايات المتحدة هي فوق كل شيء، خاصة حين يتعلّق الأمر بالخطر الشيوعي، وقد تلاعبَ بالعقل الجمعي الأمريكي لقناعته بأن تفسير المصلحة الأمريكية للجماهير هو أمر مستحيل عقلانياً، لأنهم غير عقلانيين، وأنه بدلاً من ذلك يجب على المرء أن يَنقر على أعمق مخاوفهم ورغباتهم ويتلاعب بها لصالح الحقيقة الأسمى، وهو ما جاء به بيرنيز في كتابه “هندسة الموافَقة” المنشور عام 1955.

المفارقة هي أن بيرنيز كان يفعل ما يفعله إيماناً منه بأسلوب وفلسفة الحياة الأمريكية التي هي -بنظره- تستحقّ، وقد كرّس لها أعماله بإخلاص، في الوقت نفسه كان يرى أن الأمريكيين أغبياء، وغير عاقلين، ولا يجب أن يُترك الأمر لهم، إنما دَفعُهم -بمهارة- لاختيار ما تريده النخبة منهم أن يختاروه، كان يرى أن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان آلية عمل الديموقراطية، لكن في المحصّلة كان ذاك الاستبداد المستنير لايقل وطأة عن الاستبداد الكلاسيكي، لقد كان بيرنيز يريد الحفاظ على الشكل القديم من علاقة القوة بين الحاكم والمحكومين. 

في مقال نُشر عام 1947 يحمل عنوان كتابه آنف الذكر: إنّ “وسائل الإعلام، والصحافة الحرة، كأحد نتائج الديموقراطية وتجلّياتها، قد وسّعت ميثاق الحقوق لتشمل (الحق في الإقناع)، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الأبواب أمام الجميع، بحيث يصير أي شخص من خلال تلك الوسائل مؤثراً على مواقف وأفعال مواطنينا”. 

ويقول أيضاً: “إن الكلمات باتت تدقّ باستمرار في عيون وآذان أمريكا التي صارت غرفة صغيرة تتضخّم فيها الهمسة الواحدة آلاف المرات”، وإنّ “معرفة كيفية الاستفادة من تلك الكلمات هي مسألة يجب أن تكون ذات أهمية مفصليّة لمن يهتمون بالبناء المجتمعي… إن صناعة الأخبار هي قوة فعالة، للصالح العام، والشرّ المحتَمل.. بإمكان الديماغوجيين استخدام تلك القوة لتقويض الديموقراطية، لذا يجب أن يكون القائد المسؤول عن تحقيق الأهداف الاجتماعية على دراية مستمرة بإمكانية أن تتحول هندسة الموافقة إلى عمل تخريبي، الأمر الذي يفرض عليه أن يبذل قصارى جهده لمعرفة وإتقان أساليبها، ومناورة معارضيه لأجل المصلحة العامة”.

سيتحدث المقال القادم عن تبِعات استخدام الأساليب النفسية للتلاعب بالجماهير عقب الانقلاب الذي نفذته وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA في غواتيمالا، وعن قلقها إزاء تجريب السوفييت أيضاً للأساليب النفسية في الخمسينيات، وتجارب”غسيل المخ” (المصطلح الذي تم ابتكاره في تلك الحقبة) بُغية خلق أفراد “أكثر طواعية” عن طريق تغيير ذكرياتهم، وعن رغبة الـCIA  بتجربة ذلك بنفسها… “سنعتصركم، ونُفرغكم مما في أنفسكم، ثم نملؤكم بما في أنفسنا” يقول جورج أورويل في روايته 1984؛ ويقول ماو تسي تونغ: “سنجعل من ذاكرة شعبنا صفحة بيضاء لكي نكتب عليها أجمل العبارات وأنبل الأفكار”.

25.08.2020
زمن القراءة: 8 minutes

مع بزوغ نجم المحللين النفسيين بداية الخمسينيات، وتنامي نفوذهم، بدأت “نخبة” أمريكية جديدة تنبثق يَربطها قاسم مشترك يتجسّد في الفرضية الفرويدية القائلة بلاعقلانيّة الجماهير. كان الطريق أمام تلك النخبة مفتوحاً ومُعبّداً لاستغلال التقنيات النفسية الجديدة في السيطرة على لاوعي الجمهور..

في بداية الخمسينيّات، كانت أفكار التحليل النفسي قد تغلغلت في أعماق الحياة الأمريكية، باتَ المحللون النفسيّون وقتها أغنياء وذوي سُلطة، امتلكَ العديد منهم مكاتب استشارية تُطلّ على الـ “سنترال بارك” في نيويورك، سياسيّون وكُتّاب مشاهير كـ “آرثر ميلر” وصاحب (عَربة تُدعى الرّغبة) كانوا مَرضاهم.

كان صعود نفوذ التحليل النفسي في الولايات المتحدة إبّان تلك الفترة تتويجاً استثنائياً لآنا فرويد وأفكارها التي اشتغلت على ترويجها بجِدّ، اشترت هي وصديقتها المقرّبة دورثي برلنغهام بيتاً ريفياً في قرية تدعى  Walberswick على الساحل الشرقي لبريطانيا، وأثناء مكوثهما هناك، عادَ أبناء دورثي وأحفادها من الولايات المتحدة لزيارة الوالدة-الجدة.

ظاهرياً تبدو تلك الزيارة وكأنّها عائلية، لكن في العمق لم تكن الأمور تسير على ما يرام، حيث اثنان من أبناء دورثي حللتهما آنّا مطلع الثلاثينيات باتا يُعانيان انهيارات عصبية، انهار زواجهما، أدمَنَ أحدهما يدعى “بوب” على الكحول، وعانت الأخرى تُدعى “مابي” من نوبات قلق واكتئاب حادّة، واتّضحَ أن سبب الزيارة كان لاستكمال المزيد من جلسات التحليل النفسي، وبَدَا أن وصفة آنا فرويد لم تنجح.

من الواضح أنّ إدمان ابن دورثي برلنغهام (بوب) على الكحول يُشير إلى أنه لم يستطع التأقلم مع أفكار آنا فرويد بما تتضمّنه من “ضرورة الالتزام بالعادات المقبولة مجتمعياً”، ولا العيش على امتداد ما يُعرفّه المجتمع بأنه (العادي والطبيعي والمقبول).. ويعني أيضاً أنّ التحليل النفسي لأطفال دورثي الذين كانوا أشبه بحقل تجارب بالنسبة لـ آنّا قد انعكسَ سلباً عليهم، وأثّر بشكل تدميري للغاية في شخصياتهم، الأمر الذي سنراه لاحقاً؛ لكن يجدر التذكير بأن تلك التجربة كانت قد صارت وقتها أُمثولة للحياة الأمريكية (المقال 4)؛ تم البناء عليها في برامج حكومية، وفي تأسيس آلاف مراكز التحليل والطب النفسي في الولايات المتحدة، وفي خلق مواطنين ومستهلكين أمريكيين نموذجيين.

مع بزوغ نجم المحللين النفسيين بداية الخمسينيات، وتنامي نفوذهم، واهتمام العاصمة واشنطن بهم وبما يفكّرون، بدأت “نخبة” أمريكية جديدة تنبثق في عالم السياسة، التخطيط الاجتماعي، وقطاع الأعمال، يَربطها قاسم مشترك يتجسّد في الفرضية الفرويدية القائلة بـ (لاعقلانيّة الجماهير)؛ لذا، ولـ (تمكين الديموقراطية بشكلها الأمريكي القائمة على نظام السوق الحر) كان الطريق أمام تلك النخبة مفتوحاً ومُعبّداً لاستغلال التقنيات النفسية الجديدة في السيطرة على لاوعي الجمهور.. وهذا يُحيلنا مرة أخرى إلى أفكار الكاتب السياسي الشهير “والتر ليبمان” حين دعا إلى ضرورة وجود نخبة لقيادة ما أسماه بـ “القطيع الحائر – The Bewildered Herd” في كتابه (الرأي العام 1922).

اعتقدت النخبة السياسية والاجتماعية الجديدة في الولايات المتحدة آنذاك أنه لابدّ منها لأنّ المواطنين الأمريكيين غير قادرين -بمفردهم- أن يكونوا ديموقراطيين (بحكم أنّهم تقودهم قوى غير عقلانيّة)، لذلك فَهُم بحاجة إلى مَن يقودهم مِن أعلى، ويَخلق الظرف الذي من شأنه أن يُنتج أفراداً قادرين على التصرّف بعقلانية كـ مواطنين ومستهلكين ديموقراطيين على حدّ سواء.

كذلك، لم تَعتبر النخبة الأمريكية في ذلك الوقت أنشطَتها -التي تَفترض لاعقلانية الجماهير- أنشطةً مُعادية للديموقراطية إذ تَنزع عنهم أهليّة اتخاذ القرارات، إنما اعتَبرت أنها تقوم بخلق الظروف المثالية لضمان استمرارية العملية الديموقراطية نفسها في المستقبل!. “إن كانت القِوى غير العقلانيّة هي من يقود الإنسان، إذاً يجب إعادة النظر في الديموقراطية – والتر ليبمان”.

يقول ماو تسي تونغ: “سنجعل من ذاكرة شعبنا صفحة بيضاء لكي نكتب عليها أجمل العبارات وأنبل الأفكار”.

في العام 1953 فجّر الاتحاد السوفييتي قنبلته الهايدروجينية الأولى، ليسيطر الخوف من الشيوعيّة والحرب النووية على الولايات المتحدة، لكن في الوقت الذي كانت فيه السلطة الأمريكية مهتمّة بطمأنة الجماهير والتظاهر بالهدوء تجاه التهديدات الجديدة، كان لدى إدوارد بيرنيز رأيٌ آخر. 

ابن اخت فرويد الذي أسس مهنة العلاقات العامة في العشرينيات، هو أحد أكثر الأمريكيين نفوذاً في الخمسينيات، مستشارٌ لكبرى الشركات، وصديق الكثير من السياسيين، وناصح للرئيس آيزنهاور، كان نفوذه يزداد أكثر حين التَفتَ إليه السياسيون الكبار لمساعدتهم إبّان أزمة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي آنذاك.

كان إدوارد بيرنيز يجادل -من موقعه في الدائرة المحيطة بالرئيس آيزنهاور- في أنه بدلاً من تقليل مخاوف الناس من الشيوعية والحرب النووية، وعوضاً عن الأخذ والرد والمحاججة والجدال ومحاكمة الأمور بعقلانية (وهو أمر غير مثمر لأن البشر غير عقلانيين من وجهة نظره)، يجب العمل على استثارة تلك المخاوف وتضخيمها، لتُصبح تلك الطريقة سلاح الولايات المتحدة في خضم أزمة منتصف القرن العشرين.

كخاله فرويد، كان بيرنيز يرى أنّ البشر مدفوعون بقوى غير عقلانية، وأنّ الطريقة الوحيدة للتعامل مع الجمهور هي في التواصل مع رغباتهم ومخاوفهم الداخلية اللاواعية، تقول ابنتهُ آنّ: “مافهمهُ والدي عن المجموعات هو أنها قابلة للتلاعب، إنها مرنة، ويمكن الاستفادة واستغلال أعمق رغباتها، وأعمق مخاوفها.. لم يكن يعتقد أن للعامّة حُكم موثوق به، كان من السهل بالنسبة له أن يصوّتوا للشخص الخاطئ، أو يريدوا الشيء الخاطئ، لذا يجب قيادتهم من أعلى”.

في تلك الفترة، كانت شركة United Fruit الأمريكية للفاكهة أحد أهم عملاء بيرنيز، تمتلك مساحات شاسعة من حقول الموز في “غواتيمالا” بمساعدة حكّامها العسكريين الخاضعين للولايات المتحدة، عُرفت غواتيمالا آنذاك بكونها “جمهورية الموز“، لكن في العام 1950 تم انتخاب ضابط شاب يدعى “جاكوبو آربينز“، وقد وعدَ منذ توليه الحكم بمحو سيطرة United Fruit على بلاده، ثم أعلنَ أن الحكومة ستستولي على معظم أراضي الشركة الأمريكية، الأمر الذي تسبب بكارثة على United Fruit التي توجّه مدراؤها إلى إدوارد بيرنيز طلباً للمساعدة.

أشارَ بيرنيز إلى يونايتد فروت بأن عليها الدفع باتجاه تغيير الأمر من كونه صادر عن حكومة غواتيمالا المُنتَخبة، إلى كونه صادر عن ذاك الكيان الخطير ذو النفَس الشيوعي، القريب من الشواطئ الأمريكية؛ واشتغَلَ بيرنيز من جانبه، وبخبرته وتلاعبه المعهود، على تحويل حكومة غواتيمالا الجديدة إلى تهديد للديموقراطية الأمريكية في خضمّ الحرب الباردة، أي في الوقت الذي كانت الحكومة الأمريكية مشغولة بتهويل خطر الشيوعية والحرب النووية.

قام برنيز بإنشاء وكالة صحافة مستقلة زائفة تدعى “Middle America Information Bureau” (مكتب أمريكا الوسطى للمعلومات) أمطرت الإعلام الأمريكي بوابل من التقارير الصحفية الكاذبة التي تدّعي أن موسكو تخطط لاستخدام غواتيمالا لمهاجمة الولايات المتحدة، كان بيرنيز بارعاً في إخراج عميله التجاري من المشهد، وجَعْل المشكلة تبدو وكأنها مسألة ديموقراطية أمريكية، وقِيَم أمريكية تحت تهديد الرّعب الشيوعي الأحمر .

في حقيقة الأمر، كان الرئيس الغواتيمالي الجديد (آربينز) ديموقراطياً اجتماعياً، لا علاقة له بموسكو، لكن بيرنيز حوّله إلى تهديد شيوعي ضد الولايات المتحدة، نظّمَ رحلة إلى غواتيمالا مع مجموعة من الصحفيين الأمريكيين ممن لا يعرفون الكثير عن غواتيمالا وسياساتها، ثم رتّبَ لقاءاً لهم مع مجموعة من السياسيين الغواتيماليين اختارهم بيرنيز ليُخبروا الصحفيين الأمريكيين بأن آربينز شيوعي تتحكّم به موسكو، واستفاد من مظاهرة مُناوِئة للولايات المتحدة في العاصمة الغواتيماليّة احتشد أنصارها خلال الرحلة، ليُضفي المزيد من الزخم على الموضوع.

في العمق كان الرئيس الأمريكي آيزنهاور قد وافق سِرّاً على عملية الإطاحة بحكومة آربينز المنتَخَبة، تلقّت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) أوامر لتدبير الانقلاب، وقامت بتدريب وتسليح جيش من المتمردين الغواتيماليين بمساعدة شركة United Fruit، وفي الوقت الذي كانت الطائرات الأمريكية التي يقودها طيارون من الـ CIA تُلقي بالقنابل على غواتيمالا العاصمة، كان بيرنيز مشغولاً بحملته الدعائية في الصحافة الأمريكية، يُهيّء الشعب الأمريكي لرؤية الأمر كما لو أنه “تحرير” لغواتيمالا من قبل المناضلين لأجل الديموقراطية!. 

لقد أدركَ بيرنيز أن الانقلاب سينجح حين تسمح ظروف الجماهير والصحافة، وقد هيّأ تلك الظروف بنفسه، لكنه في العمق كان يُعيد تشكيل الواقع، والرأي العام، ويَكتب التاريخ بطريقة متلاعبة، انتهازية، دنيئة، وضيعة، ولا يمكن نسيانها، ككل حكّام منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ زمن طويل، وحتى الآن. 

على أية حال، في 27 حزيران/ يونيو عام 1954 فرَّ الكولونيل آربينز من غواتيمالا، ونصّب الأمريكيون قائداً جديداً للبلاد يدعى “كارلوس كاستيلو أرماس“، وبعدها بأشهر قليلة قام قسم العلاقات العامة في شركة United Fruit بتنظيم زيارة لنائب الرئيس الأمريكي نيكسون آنذاك، وعرضوا عليه مجموعة من كتب الأدب الماركسي، قالوا إنهم عثروا عليها في القصر الرئاسي.

المثير هو أن أحد عملاء الـ CIA المسؤولين عن تدبير عملية الانقلاب في غواتيمالا ويُدعى “E Howard Hunt Jr” أُلقيَ عليه القبض لاحقاً في العام 1972 كأحد لصوص المعلومات الخمسة اللذين تورّطوا في عملية تجسس على اللجنة القومية للحزب الديموقراطي الأمريكي لصالح الرئيس نيكسون، فيما يُعرف بـ “فضيحة ووترغيت“.

والمثير أكثر هو أنّ أحد المتورّطين في هذه الفضيحة السياسية الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة يُدعى روجر ستون، كان وقتها ضمن طاقم الحملة الانتخابية للرئيس نيكسون، وبعده ريغان، جورج بوش الأب، وغيرهم، قبل أن يتمكّن من إيصال دونالد ترامب أخيراً سدّة الحُكم، تطاله (ستون) اتهامات بالتواصل مع “جوليان أسانج” مؤسس “ويكيليكس” لتسريب معلومات بغية تقويض فرص هيلاري كلينتون إبان الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وبالتواصل مع شركات تبيع معلومات المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لاستخدامها في استهداف الناخبين الأمريكيين بالأخبار، والمعلومات المضللة، والتلاعب بهم لصالح موكّله ترامب، وحرمانهم بالمحصلة من حقّهم في معرفة المعلومات الحقيقية التي يستحقونها لاتخاذ خيارهم الدستوري، سنتطرق لقصته لاحقاً.

مثل كثيرين غيره في الخمسينيات، كان إدوارد بيرنيز يرى بأن مصالح الأعمال الأمريكية، ومصلحة الولايات المتحدة هي فوق كل شيء، خاصة حين يتعلّق الأمر بالخطر الشيوعي، وقد تلاعبَ بالعقل الجمعي الأمريكي لقناعته بأن تفسير المصلحة الأمريكية للجماهير هو أمر مستحيل عقلانياً، لأنهم غير عقلانيين، وأنه بدلاً من ذلك يجب على المرء أن يَنقر على أعمق مخاوفهم ورغباتهم ويتلاعب بها لصالح الحقيقة الأسمى، وهو ما جاء به بيرنيز في كتابه “هندسة الموافَقة” المنشور عام 1955.

المفارقة هي أن بيرنيز كان يفعل ما يفعله إيماناً منه بأسلوب وفلسفة الحياة الأمريكية التي هي -بنظره- تستحقّ، وقد كرّس لها أعماله بإخلاص، في الوقت نفسه كان يرى أن الأمريكيين أغبياء، وغير عاقلين، ولا يجب أن يُترك الأمر لهم، إنما دَفعُهم -بمهارة- لاختيار ما تريده النخبة منهم أن يختاروه، كان يرى أن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان آلية عمل الديموقراطية، لكن في المحصّلة كان ذاك الاستبداد المستنير لايقل وطأة عن الاستبداد الكلاسيكي، لقد كان بيرنيز يريد الحفاظ على الشكل القديم من علاقة القوة بين الحاكم والمحكومين. 

في مقال نُشر عام 1947 يحمل عنوان كتابه آنف الذكر: إنّ “وسائل الإعلام، والصحافة الحرة، كأحد نتائج الديموقراطية وتجلّياتها، قد وسّعت ميثاق الحقوق لتشمل (الحق في الإقناع)، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الأبواب أمام الجميع، بحيث يصير أي شخص من خلال تلك الوسائل مؤثراً على مواقف وأفعال مواطنينا”. 

ويقول أيضاً: “إن الكلمات باتت تدقّ باستمرار في عيون وآذان أمريكا التي صارت غرفة صغيرة تتضخّم فيها الهمسة الواحدة آلاف المرات”، وإنّ “معرفة كيفية الاستفادة من تلك الكلمات هي مسألة يجب أن تكون ذات أهمية مفصليّة لمن يهتمون بالبناء المجتمعي… إن صناعة الأخبار هي قوة فعالة، للصالح العام، والشرّ المحتَمل.. بإمكان الديماغوجيين استخدام تلك القوة لتقويض الديموقراطية، لذا يجب أن يكون القائد المسؤول عن تحقيق الأهداف الاجتماعية على دراية مستمرة بإمكانية أن تتحول هندسة الموافقة إلى عمل تخريبي، الأمر الذي يفرض عليه أن يبذل قصارى جهده لمعرفة وإتقان أساليبها، ومناورة معارضيه لأجل المصلحة العامة”.

سيتحدث المقال القادم عن تبِعات استخدام الأساليب النفسية للتلاعب بالجماهير عقب الانقلاب الذي نفذته وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA في غواتيمالا، وعن قلقها إزاء تجريب السوفييت أيضاً للأساليب النفسية في الخمسينيات، وتجارب”غسيل المخ” (المصطلح الذي تم ابتكاره في تلك الحقبة) بُغية خلق أفراد “أكثر طواعية” عن طريق تغيير ذكرياتهم، وعن رغبة الـCIA  بتجربة ذلك بنفسها… “سنعتصركم، ونُفرغكم مما في أنفسكم، ثم نملؤكم بما في أنفسنا” يقول جورج أورويل في روايته 1984؛ ويقول ماو تسي تونغ: “سنجعل من ذاكرة شعبنا صفحة بيضاء لكي نكتب عليها أجمل العبارات وأنبل الأفكار”.