fbpx

عن معاوية وأوليفر كرومويل… ماذا نختار الصحة أو العقل؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لماذا لم ينجح كرومويل في إهاجة الإنكليز على رغم أن المسافة الزمنية التي تفصلهم عنه أقل من أربعة قرون، بينما نجح معاوية في إهاجتنا وإثارتنا، على رغم أن الفاصل الزمني أربعة عشر قرناً؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عام 1970 شاهد العالم فيلماً سينمائياً عن أوليفر كرومويل الذي كان رمز الحرب الأهلية الإنكليزية في أواسط القرن السابع عشر، كما قطع رأس الملك تشارلز الأول، وقاد جيشه لاحتلال إيرلندا وابتداء الاستيطان الإنكليزي- البروتستانتي فيها.

الفيلم لم يُثر أي حساسية بين البروتستانت والكاثوليك الإنكليز، ولم يضف شيئاً إلى الحساسيات القائمة بين الإنكليز والكاثوليك الإيرلنديين. إنه مجرد فيلم يُحاكَم تبعاً لمدى دقته في نقل الأحداث التاريخية، ولإحرازه، أو عدم إحرازه، المواصفات الفنية المطلوبة في عمل سينمائي.

في الفترة الأخيرة، وليس للمرة الأولى، التهبت الحساسيات السنية– الشيعية وتورّمت في أكثر من بلد عربي، بسبب الإعلان عن مسلسل تلفزيوني موضوعه الخليفة الأموي معاوية، كان يُفترض أن يُعرض على الشاشات الصغيرة في الموسم الرمضاني المقبل.

لكن لماذا لم ينجح كرومويل في إهاجة الإنكليز على رغم أن المسافة الزمنية التي تفصلهم عنه أقل من أربعة قرون، بينما نجح معاوية في إهاجتنا وإثارتنا، على رغم أن الفاصل الزمني أربعة عشر قرناً؟

الفارق هو أن الإنكليز كفّوا عن العيش في ذاك الماضي، أما الإنكليز الذين ما زالوا يعيشون فيه فهم بعض المتزمتين الدينيين ممن يغيظهم بالفعل عمل فني أو سينمائي يعتبرونه غير أخلاقي أو مسيئاً لعقيدتهم الدينية.

عندنا، للأسف، ليس الأمر كذلك. فالماضي، عند أكثريات ساحقة لدينا، لم يمض لسببين على الأقل: من جهة، هناك الإحساس القوي بأن الحاضر مضطرب والمستقبل مسدود، ما يجعل من ذاك الماضي أكثر الأزمنة أماناً واطمئناناً للعيش. لكن من جهة أخرى، هناك الوعي السياسي والأيديولوجي السائد الذي لا يتوقف عن ردنا إلى ذاك الماضي. وفي هذا الجهد التأسيسي، لعب القوميون واليساريون دوراً ضخماً. فمثلاً، كثيراً ما يُستحضر “الصليبيون” لدى الحديث عن الغرب الراهن، أو عن إسرائيل، أو تُستحضر معركة حطين لدى الحديث عن تحرير فلسطين. وفي مرحلة سابقة، كان ذكر الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية كثيراً ما يستحضر أبا ذر الغفاري أو القرامطة أو سواهم من بطون التاريخ. أما الاستعمار الذي انقضت عقود مديدة على رحيله، فلا يزال يؤتى على ذكره كما لو أنه يشاركنا وجبة الغداء (ولا يترك لنا منها شيئاً). أما الكثيرون من جيراننا الأتراك الذين يشاركوننا تعظيم الماضي الإسلامي، فاستطاعوا أن يضيفوا “النيو عثمانية” إلى القائمة. أما الجيران الإيرانيون فيحاولون منذ مدة أن يجعلوا “كل يوم عاشوراء” و”كل أرض كربلاء”.

والبائس أن هذا التذكير المتواصل بالماضي، الذي يتحول لدى كثيرين منا إلى عيش فيه، ليس مصدراً لتوليد ذاكرة مشتركة بين المتذكرين، بل هو سبب لنكء الجراح وإعلان الغلبة أو طلب الثأر. ذاك أننا نعود إلى الماضي فرادى لا جماعة واحدة، بحيث نجعل منه جبهة أخرى من جبهات اقتتالنا أو استعداداتنا للقتال. 

وهكذا فما شهدناه راهناً مع معاوية بن أبي سفيان، يمكن أن نشهده مع أي رمز سياسي أو ديني في تاريخنا بشقيه القديم والحديث. فصالح العلي بطل في الرواية العلوية التي تبنتها الرواية السنية في المرحلة القومية العربية، لكنه إقطاعي مجرم في الرواية الإسماعيلية. وسلطان باشا الأطرش بطل في الرواية الدرزية، التي تبنتها أيضاً الرواية السنية في المرحلة نفسها، لكنه في الرواية المسيحية إقطاعي بطّاش اعتدى على القرى المسيحية كما اعتدى صالح العلي على القرى الاسماعيلية وفق الرواية الإسماعيلية. وكان العراقيون بعد استقلالهم قد عرفوا معركة شهيرة حول التاريخ الإسلامي كان بطلاها ساطع الحصري وفاضل الجمالي، فكيف ينبغي أن يُكتب هذا التاريخ ويُعلّم في المدارس: وفق الرواية السنية أم وفق الرواية الشيعية؟ وفي هذه الغضون نُزعت الجنسية العراقية عن الشاعر الشيعي محمد مهدي الجواهري الذي نُعت بالإيرانية.

لهذا السبب وجد حكام لبنان منذ اتّفاق الطائف أنه من العبث، في ظل هذا الخلاف على التاريخ، وضع كتاب موحد له، مكتفين بتعليم أبنائهم ما ورد في كتاب التاريخ الذي وضع عام 1971، أي قبل اندلاع حربهم الأهلية بأربع سنوات. إذ هل يقول كتاب التاريخ إن بشير الشهابي هو ذاك العظيم الذي وحد لبنان وأعطاه الأمن والدولة المركزية، كما تزعم الرواية المسيحية، أم هل يقول إن بشير جنبلاط هو ذاك النبيل الذي قضى عليه المجرم بشير الشهابي، كما تزعم الرواية الدرزية؟ وهل يقول إن صادق حمزة وأدهم خنجر بطلان وطنيان قاتلا الاستعمار، كما تذهب الرواية الشيعية، أم أنهما زعيما عصابات هاجمت المسيحيين الآمنين في قراهم، كما تذهب الرواية المسيحية؟ وهذا كي لا نضيف أسماء بشير الجميل وكمال جنبلاط وسواهما ممن يتراوحون، بحسب طبيعة المصدر الطائفي، بين كونهم خيرة الأفاضل وكونهم غلاة الشر. 

وهذا العيش في زمن آخر يضعف حسّنا بالزمن، ومن ثم بالتاريخ، وهو للأسف متزايد من دون انقطاع: صحيح أن خلاف علي ومعاوية ليس سبب الخلاف السني– الشيعي، لكن الخلاف السني– الشيعي بسبب العلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة يُبقي خلاف علي ومعاوية حياً ومُلهِماً، لأن الهويتين المتصارعتين تستعيدانه بإفراط وتتسلحان به كما تضعانه في المتن من ذاكرتيهما المُتَخيلتين. ونعرف أن العلاقات الأهلية سائرة في ربوعنا إلى مزيد من التردي، ما يرشح علياً ومعاوية (أو بشير الشهابي وبشير جنبلاط أو…) للقتال كل يوم وكل ساعة.  

لقد اختار اللبنانيون، تلافياً للمعضلة، تعميم الجهل بالماضي، قريباً كان أو بعيداً، وعدم وضع كتاب للتاريخ بالتالي. والخيار هذا، على سوئه، ربما كان أفضل من دفعهم إلى التذابح لأنه، على الأقل، يحفظ حياتنا ولا يهدد صحتنا، على رغم أنه يترك عقولنا في حالة لا تُحسد عليها.

إما العقل أو الصحة إذن!

https://www.youtube.com/watch?v=wsgDNtGkQK8
"درج" | 06.12.2024

سوريا: سباق بين الغبطة واحتمالات الخيبة

جميعنا مأخوذون بالمشهد، نظام بشار الأسد يتداعى تحت أنظارنا، سؤال ما بعد السقوط، أو ما بعد انعقاد الخريطة على واقع مختلف، شرط سياسي لا بد منه، لكنه لا يستوي في بعده العاطفي مع السؤال السياسي. الكلام عن تأجيل السياسة إلى ما بعد انكشاف سير المعركة، يشبه طلب تأجيل نقد حماس إلى ما بعد نهاية الحرب…
07.03.2023
زمن القراءة: 4 minutes

لماذا لم ينجح كرومويل في إهاجة الإنكليز على رغم أن المسافة الزمنية التي تفصلهم عنه أقل من أربعة قرون، بينما نجح معاوية في إهاجتنا وإثارتنا، على رغم أن الفاصل الزمني أربعة عشر قرناً؟

عام 1970 شاهد العالم فيلماً سينمائياً عن أوليفر كرومويل الذي كان رمز الحرب الأهلية الإنكليزية في أواسط القرن السابع عشر، كما قطع رأس الملك تشارلز الأول، وقاد جيشه لاحتلال إيرلندا وابتداء الاستيطان الإنكليزي- البروتستانتي فيها.

الفيلم لم يُثر أي حساسية بين البروتستانت والكاثوليك الإنكليز، ولم يضف شيئاً إلى الحساسيات القائمة بين الإنكليز والكاثوليك الإيرلنديين. إنه مجرد فيلم يُحاكَم تبعاً لمدى دقته في نقل الأحداث التاريخية، ولإحرازه، أو عدم إحرازه، المواصفات الفنية المطلوبة في عمل سينمائي.

في الفترة الأخيرة، وليس للمرة الأولى، التهبت الحساسيات السنية– الشيعية وتورّمت في أكثر من بلد عربي، بسبب الإعلان عن مسلسل تلفزيوني موضوعه الخليفة الأموي معاوية، كان يُفترض أن يُعرض على الشاشات الصغيرة في الموسم الرمضاني المقبل.

لكن لماذا لم ينجح كرومويل في إهاجة الإنكليز على رغم أن المسافة الزمنية التي تفصلهم عنه أقل من أربعة قرون، بينما نجح معاوية في إهاجتنا وإثارتنا، على رغم أن الفاصل الزمني أربعة عشر قرناً؟

الفارق هو أن الإنكليز كفّوا عن العيش في ذاك الماضي، أما الإنكليز الذين ما زالوا يعيشون فيه فهم بعض المتزمتين الدينيين ممن يغيظهم بالفعل عمل فني أو سينمائي يعتبرونه غير أخلاقي أو مسيئاً لعقيدتهم الدينية.

عندنا، للأسف، ليس الأمر كذلك. فالماضي، عند أكثريات ساحقة لدينا، لم يمض لسببين على الأقل: من جهة، هناك الإحساس القوي بأن الحاضر مضطرب والمستقبل مسدود، ما يجعل من ذاك الماضي أكثر الأزمنة أماناً واطمئناناً للعيش. لكن من جهة أخرى، هناك الوعي السياسي والأيديولوجي السائد الذي لا يتوقف عن ردنا إلى ذاك الماضي. وفي هذا الجهد التأسيسي، لعب القوميون واليساريون دوراً ضخماً. فمثلاً، كثيراً ما يُستحضر “الصليبيون” لدى الحديث عن الغرب الراهن، أو عن إسرائيل، أو تُستحضر معركة حطين لدى الحديث عن تحرير فلسطين. وفي مرحلة سابقة، كان ذكر الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية كثيراً ما يستحضر أبا ذر الغفاري أو القرامطة أو سواهم من بطون التاريخ. أما الاستعمار الذي انقضت عقود مديدة على رحيله، فلا يزال يؤتى على ذكره كما لو أنه يشاركنا وجبة الغداء (ولا يترك لنا منها شيئاً). أما الكثيرون من جيراننا الأتراك الذين يشاركوننا تعظيم الماضي الإسلامي، فاستطاعوا أن يضيفوا “النيو عثمانية” إلى القائمة. أما الجيران الإيرانيون فيحاولون منذ مدة أن يجعلوا “كل يوم عاشوراء” و”كل أرض كربلاء”.

والبائس أن هذا التذكير المتواصل بالماضي، الذي يتحول لدى كثيرين منا إلى عيش فيه، ليس مصدراً لتوليد ذاكرة مشتركة بين المتذكرين، بل هو سبب لنكء الجراح وإعلان الغلبة أو طلب الثأر. ذاك أننا نعود إلى الماضي فرادى لا جماعة واحدة، بحيث نجعل منه جبهة أخرى من جبهات اقتتالنا أو استعداداتنا للقتال. 

وهكذا فما شهدناه راهناً مع معاوية بن أبي سفيان، يمكن أن نشهده مع أي رمز سياسي أو ديني في تاريخنا بشقيه القديم والحديث. فصالح العلي بطل في الرواية العلوية التي تبنتها الرواية السنية في المرحلة القومية العربية، لكنه إقطاعي مجرم في الرواية الإسماعيلية. وسلطان باشا الأطرش بطل في الرواية الدرزية، التي تبنتها أيضاً الرواية السنية في المرحلة نفسها، لكنه في الرواية المسيحية إقطاعي بطّاش اعتدى على القرى المسيحية كما اعتدى صالح العلي على القرى الاسماعيلية وفق الرواية الإسماعيلية. وكان العراقيون بعد استقلالهم قد عرفوا معركة شهيرة حول التاريخ الإسلامي كان بطلاها ساطع الحصري وفاضل الجمالي، فكيف ينبغي أن يُكتب هذا التاريخ ويُعلّم في المدارس: وفق الرواية السنية أم وفق الرواية الشيعية؟ وفي هذه الغضون نُزعت الجنسية العراقية عن الشاعر الشيعي محمد مهدي الجواهري الذي نُعت بالإيرانية.

لهذا السبب وجد حكام لبنان منذ اتّفاق الطائف أنه من العبث، في ظل هذا الخلاف على التاريخ، وضع كتاب موحد له، مكتفين بتعليم أبنائهم ما ورد في كتاب التاريخ الذي وضع عام 1971، أي قبل اندلاع حربهم الأهلية بأربع سنوات. إذ هل يقول كتاب التاريخ إن بشير الشهابي هو ذاك العظيم الذي وحد لبنان وأعطاه الأمن والدولة المركزية، كما تزعم الرواية المسيحية، أم هل يقول إن بشير جنبلاط هو ذاك النبيل الذي قضى عليه المجرم بشير الشهابي، كما تزعم الرواية الدرزية؟ وهل يقول إن صادق حمزة وأدهم خنجر بطلان وطنيان قاتلا الاستعمار، كما تذهب الرواية الشيعية، أم أنهما زعيما عصابات هاجمت المسيحيين الآمنين في قراهم، كما تذهب الرواية المسيحية؟ وهذا كي لا نضيف أسماء بشير الجميل وكمال جنبلاط وسواهما ممن يتراوحون، بحسب طبيعة المصدر الطائفي، بين كونهم خيرة الأفاضل وكونهم غلاة الشر. 

وهذا العيش في زمن آخر يضعف حسّنا بالزمن، ومن ثم بالتاريخ، وهو للأسف متزايد من دون انقطاع: صحيح أن خلاف علي ومعاوية ليس سبب الخلاف السني– الشيعي، لكن الخلاف السني– الشيعي بسبب العلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة يُبقي خلاف علي ومعاوية حياً ومُلهِماً، لأن الهويتين المتصارعتين تستعيدانه بإفراط وتتسلحان به كما تضعانه في المتن من ذاكرتيهما المُتَخيلتين. ونعرف أن العلاقات الأهلية سائرة في ربوعنا إلى مزيد من التردي، ما يرشح علياً ومعاوية (أو بشير الشهابي وبشير جنبلاط أو…) للقتال كل يوم وكل ساعة.  

لقد اختار اللبنانيون، تلافياً للمعضلة، تعميم الجهل بالماضي، قريباً كان أو بعيداً، وعدم وضع كتاب للتاريخ بالتالي. والخيار هذا، على سوئه، ربما كان أفضل من دفعهم إلى التذابح لأنه، على الأقل، يحفظ حياتنا ولا يهدد صحتنا، على رغم أنه يترك عقولنا في حالة لا تُحسد عليها.

إما العقل أو الصحة إذن!

https://www.youtube.com/watch?v=wsgDNtGkQK8