في أول عيد النوروز المصادف 21 آذار/ مارس، سقط خنزير برّي ضحية تجمع عائلات كُردية خرجت للاحتفال بعيد رأس السنة الكُردية والعيد القومي في الطبيعة شمال مدينة السليمانية. اتسم مشهد قتل ذلك الخنزير البرّي الذي اُكتشف لاحقاً أنه أنثى وحامل، بعنف مفرط، إذ قام رجل من بين المحتفلين بسحب سلاح رشاش وإطلاق النار على الحيوان، الذي كان يحاول الهروب من التجمع البشري إلى أن أرداه قتيلاً. إنه مشهد يتكرر في جبال كُردستان حيث يتم قتل الحيوانات واقتناصها في موائلها الطبيعية. وكانت الخنزيرة المقتولة تعيش في مستوطنتها الطبيعية قبل أن يزاحمها المحتفلون بسياراتهم وضجيجهم الأمر الذي دفعها لمحاولة الهروب من المكان، لكن القتل كان بانتظارها قبل ولادة الخنانيص.
وعلى أثر الردود والنقاشات التي تمخضت عن ذلك المشهد القاسي على منصات الإعلام الاجتماعي، قالت “هيئة حماية وتحسين البيئة في إقليم كُردستان” إنها تقدم الشخص الذي قتل الحيوان إلى المحكمة بعد الانتهاء من عطلة عيد النوروز، فيما لم تتمكن شرطة المنطقة من التعرف إليه. وبدا أن الكلام عن المحاكمة وتغريم قاتل الخنزير كقطعة اسفنج لامتصاص تلك الردود على شبكات التواصل الاجتماعي، ذاك أن عمر الحديث عن الإجراءات القانونية بحق من يعتدي على البيئة والنظام الطبيعي والحياة البرّية، لا يتجاوز نهاراً واحداً في العراق ليصبح في خانة النسيان. إن المصير التراجيدي الذي واجه حيوان برّي ورآه الناس على الإنترنيت، يتكرر ضد جميع الحيوانات، من ضمنها الحيوانات التي لا تُرى بالعين المجرّدة حيث يتم القضاء عليها في موائلها المائية والبرّية بالسموم والقنابل الصوتية واقتلاع الأشجار وغير ذلك من الأنشطة غير القانونية.
بحسب الناشطة والباحثة هانا رضا، ليس لدى حكومة إقليم كُردستان أي آليات أو خطط متينة لحماية الحيوانات البرّية. لقد صدرت قوانين وإرشادات حول حماية الحيوانات والطيور وتقييد صيدها عام 2008، لكنها قوانين وارشادات ضعيفة وغير فعالة، وذلك بسبب غياب سيادة القانون من جانب وتدخل الأحزاب في تنفيذها من جانب آخر. وتشير هانا إلى أن شرطة الغابات تتعرض لإطلاق النار من صيادين مسلحين، فيما هي لا تملك السلاح قانونياً، فضلاً عن إجراءات المحاكم الروتينية وإطلاق سراح المتعدّين على الحياة البرّية من دون حساب وعقاب، الأمر الذي يقوض دور شرطة الغابات. يضاف إلى كل ذلك لا مبالاة الحكومة تجاه الطبيعة والحياة البرّية وترهل مؤسساتها التي تضم آلاف الموظفين والشرطة إنما من دون عمل.
تعمل هانا منذ أكثر من عقد على حماية الثدييات في إقليم كُردستان والعراق، لكنها تواجه صعوبات كثيرة في عملها، بعض منها متجذر في الروتين الحكومي وقوانين مترهلة في ما يخص الحفاظ على النظام البيئي، وآخر يتعلق بانعدام وعي المجتمعات المحلية بأهمية وجود أنواع الحيوان والنبات في إدامة الحياة. انضمت الناشطة بعد دراستها علوم الأحياء في جامعة السليمانية عام 2009، الى منظمة طبيعة العراق التي كانت تركز في نشاطاتها في تلك الفترة على الطيور والنباتات وجودة المياه والكائنات البحرية. اختارت هانا العمل على الثدييات، إنما كان يقتضي ذلك زيارات ميدانية لقرى وجبال كردستان بغية توثيق أنواع الثدييات وأعدادها وموائل عيشها، وذلك بسبب انعدام بيانات علمية في المراكز والجامعات. وبما أن معرفة السكان المحليين كانت تقتصر على الثعالب وابن آوى وبعض حيوانات أخرى، عملت الباحثة في ذات الوقت على طرائق منهجية في جمع البيانات ونصب أجهزة التصوير الخاصة في مستوطنات الحيوانات. تكلل عملها بالنجاح إذ وثقت وجود نمر فارسي في جبال قرداغ جنوب مدينة السليمانية.
كانت النظرة الذكورية التقليدية بخصوص قدرة المرأة على العمل على الحيوانات وتوثيق أنواعها وأعدادها وأنماط عيشها ومصادر غذائها، التحدي الرئيسي أمامها، ولم يكن لها خيار آخر سوى التجاهل والاستمرار في العمل. وتقول بهذا الشأن “لم أكن امرأة فحسب، بل كنت صغيرة الحجم أيضاً، الأمر الذي زرع المزيد من الشك بين أعضاء فريق العمل حول قدرتي على العمل حول الثدييات. كان هناك نوع من السخرية الذكورية حتى من قدرتي على حمل حقائب المعدات أثناء العمل في الجبال”.
إقرأوا أيضاً:
على رغم جميع الصعوبات استمرت الناشطة في البحث عن الثدييات ووثقت مع زملائها سبعة نمور فارسية في جبال كُردستان، لكنها تعتقد بوجود أكثر من 30 نمراً. ويعد النمر من الثدييات المهددة بالانقراض على مستوى العالم ولا تتجاوز أعداده 1200 نمر في جميع أنحاء العالم. “وبما أن أعداد هذا النوع من الثدييات قليلة في كُردستان، فإنه سينقرض ويختفي إن لم تتم حمايته كثروة طبيعية نادرة”، تقول هانا. وان ما يهدد النمر الفارسي هو القضاء على مصادر غذائه المتمثلة في الغالب بالماعز البرّي والخنازير، ولكن يكمن التحدي الرئيسي أمام بقاء النمر في القضاء على مصدر الغذاء حيث يصطاد سكان محليون تلك الحيوانات ويقتلونها، ما يدفع النمر الى مهاجمة الحيوانات المدجنة والمواشي. ويلجأ المزارعون ومربو الماشية بالتالي إلى قتله بالسم أو بأي وسيلة أخرى. “لا يتردد الأهالي أحياناً بقتل أي نوع من الحيوانات ولو على سبيل التسلية، وقد يعود سبب ذلك برأيها الى الويلات والحروب التي مرّ بها الناس وعدم التمسك بالطبيعة وكائناتها” تقول هانا.
تقتضي دراسة نمط حياة أي حيوان، فهم بيئته ومصادر غذائه قبل كل شيء. لا يمكن تالياً جمع البيانات عن النمر الفارسي مثلاً، من دون جمع البيانات عن الحيوانات الأخرى مثل الماعز البرّي والخنازير البرّية التي تشكل مصدر عيشه. وتشكل هذه المهمة عقبة أخرى أمام الباحثة، إذ يستوجب عليها البقاء لياليَ على سفوح الجبال وقممها وبين الوديان بغية انجاز العمل. تكمن الفكرة بالنسبة إليها في أن الناس ينظرون الى الدور الذي يلعبه النمر في النظام البيئي نظرة سطحية، إنما بمعاينة النتائج المترتبة عن تخريب بيئته الطبيعية والقضاء على مصادره الغذائية او القضاء عليه، نستنتج أهمية دور هذا الحيوان في النظام البيئي وكيف أن فقدانه يحدث الاختلال في التوازن البيئي كما في الحياة البرّية.
تالياً، ولأنه يعد من الحيوانات اللاحمة القوية، والقادرة على صيد أنواع كثيرة من الحيوانات، يحتل النمر هرم السلسلة الغذائية في نظامه البيئي، ويلعب دوراً جوهرياً في تنظيم أعداد الحيوانات. وفي غيابه، يشكل تكاثر الحيوانات الأخرى عبئاً على الطبيعة، وتؤدي غلبتهم الى تقلص المساحات الخضراء، تفشي الأمراض والأوبئة وحدوث مشكلات في الطرق التي يسلكها البشر.. الخ. علاوة على ذلك، يساهم في إبعاد الحيوانات اللاحمة الأخرى في أي منطقة يكون فيها، لا سيما أن وجود عدد كبير من الحيوانات البرّية اللاحمة يشكل عبئاً كبيراً على حياة القرويين ومواشيهم. وإذا حصل النمر، وهو خجول بطبيعته، على مصادر الغذاء في موئله الطبيعي، لا يقترب من التجمعات البشرية، عكس ذلك يلجأ إلى القرى ومهاجمة الحيوانات المدجنة.
من أجل فهم هذا الدور الجوهري الذي تلعبه الحيوانات البرّية في النظام البيئي وتوعية المجتمعات بأهمية وجودها، تحملت هانا مصاعب كثيرة بين سكان القرى كما بين زملائها؛ إذ كانت تلجأ في معظم الأحيان إلى إخفاء أنوثتها من أجل ذلك. “حين كنت أدخل مجالس الرجال في القرى وألقي عليهم التحية ومن ثم أطرح أسئلتي حول الثدييات، كانوا يتجاهلونني ولا ينظرون إلي، بينما كانوا يتفاعلون مع زملائي الرجال ويجيبون على أسئلتهم” تقول هانا. إضافة إلى الملابس التي كانت ترتديها، كانت حريصة أيضاً أثناء الأحاديث وطرح الأسئلة، على نبرة صوتها من أجل التواصل معهم والحصول على المعلومات. ولا تعرف إن نجحت في ذلك أم لا، لكن ذلك ساعدها في التغلب على المصاعب وإنجاز عملها، بخاصة أنها كانت تبقى لأيام وليال على قمم الجبال مع زملاء رجال ناهيك بقاءاتها الدائمة مع الأهالي المحليين. كما ساعدها الحضور والعمل المتواصل في تغيير الصورة النمطية في أذهان المجتمع وأصبح بإمكانها اليوم اللقاء بسكان القرى والتحدث معهم وطرح الأسئلة عليهم، من دون أن يتجاهلها أحد أو يشكك بقدرتها على حماية الطبيعة والحياة البرّية.
وتعد جبال كُردستان التي تعمل فيها هانا مع زملائها، موطناً تاريخياً للنمر والثدييات الأخرى مثل الدببة والضباع والذئاب والخنازير، ناهيك بالثدييات العاشبة مثل الماعز والأيل والكبش. وبحسب الباحثة وصلت حدود موئل النمر في السابق إلى مناطق محافظة ديالى جنوب العاصمة بغداد، إنما تبقى الطبيعة الجبلية لجغرافيا كردستان وغاباته الطبيعية موئلاً مناسباً له، ذلك أنه يعيش بالقرب من أشجار البلوط ويحبها، فضلاً عن وجود الماعز البرّي. وقد تم توثيق قتل أول نمر في مناطق ديالى عام 2008 وقتل آخر في غرب العراق. وفي كتاب نشر عام 1916 بعنوان “من الخليج الى جبال آرارات”، يصف الكاتب والرحالة الإنكليزي جيلبرت ارنست هُبارد سلسلة جبل “بَمو” بالمتانة وأرض الفهود. ويكتب هُبارد ” بَمو (BURLY) هي في الحقيقة التسمية الوحيدة التي تعبر عن الجرأة شديدة الخطورة لمخطط هذه الكتلة الجميلة من الجبل حيث يمتد 1000 قدم من المنحدر الهائل على طول الثلث العلوي للوجه الشرقي بأكمله. إنها معروفة بأرض صيد الفهود الكبيرة، وقد جابها مرشدونا بالبنادق؛ لكن اللعبة الكبيرة الوحيدة التي صادفناها، كانت دباً عجوزاً فضولياً، جاء وهو يشهق بالقرب من خيمتنا في إحدى الليالي الخالية من القمر، وكان الظلام شديداً بحيث لا يمكن الخروج من بعده”.
هناك مبادرات مهمة لحماية الحياة البرّية مثل إنشاء محميات طبيعية، وعلى رغم وجود قانون بهذا الخصوص ودور المحميات الطبيعية في حماية الحيوانات من الفقدان، فإن حكومة إقليم كُردستان تغض النظر. هناك الآن محمية سكران الوطنية في منطقة جومان التابعة لمحافظة أربيل، لكن طريقة إنشائها وسبل إدارتها عشوائياً، أدتا الى تخريب منطقة طبيعية كاملة بدل تحسينها، ناهيك بهدر أموال هائلة دون نتائج مرجوة. وتتحدث الناشطة عن دعم مالي من مكتب هولندا للاتحاد الدولي لإنشاء محمية قرداغ الطبيعية جنوب مدينة السليمانية وهو مشروع في منطقة طبيعية مهمة على مساحة تقدر بـ2300 هكتار ودخل حيز التنفيذ منذ عام 2019، بإدارة كل من “منظمة طبيعة العراق”، “هيئة حماية وتحسين البيئة” وجهات أخرى. ويتوقع استئناف العمل وتنظيم ورشات العمل فيه للعاملين والمجتمعات المحلية بعد توقفه بسبب تفشي وباء “كورونا”. وبحسب الناشطة يعود جزء من مماطلة حكومة إقليم كُردستان في ما خص القوانين البيئية إلى النشاط النفطي، إذ يمكن أن تشكل المعايير البيئية عقبة أمام حفر آبار النفط في المناطق الطبيعية الغنية بالحياة البرّية والتنوع الأحيائي. وان نم هذا عن شيء انما ينم عن أن الحفاظ على الطبيعة والنظام البيئي ليس جزءاً من أجندات الحكومة كما تدعي.
أمام هذه المشهد البيئي الذي تكثر فيها المخاطر على الحياة البرّية والطبيعية في إقليم كُردستان، يسود الخوف من فقدان بعض الحيوانات جراء تدهور بيئاتها وسبل بقائها. على سبيل المثال، لم يتم إدخال حيوان الوشق ضمن قائمة الحيوانات المعرضة للانقراض وفق الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، إنما لم يتم توثيق وجوده في كُردستان سوى مرتين. تقول هانا بهذا الخصوص، “لقد قمت بوضع أجهزة التصوير المخفية في مناطق مختلفة في كُردستان من أجل توثيق وجود هذا الحيوان، إنما من دون فائدة. كما بحثت عنه في لقاءاتي مع سكان القرى ولكن لم يلحظ وجوده أحد”.
ويقوم الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة في العادة بتحديد العوامل التي تشكل الخطورة على الحيوانات، وذلك بعد جميع البيانات وإجراء البحوث على المستوى الوطني للبلد الذي تم فيه تسجيل الحيوانات المقصودة. يتم بعد ذلك تحديد مخاوف الانقراض على المستوى العالمي، والمستوى المحلي قدر المستطاع. وقد لا يكون حيوان ما مهدداً عالمياً، انما يتعرض للانقراض والفقدان على المستوى المحلي. وهناك أمثلة كثيرة تذكرها الباحثة في هذا الشأن مثل الدببة، الذئاب، الثعلب الأفغاني الذي تم توثيق وجوده في كُردستان لمرة واحدة، كذلك ابن عرس صغير، اليمحور الأوروبي، الفأر الأعمى، فأر الغابة، القداد الصحراوي والخفاش، كل هذه الحيوانات ليست على قائمة الكائنات المعرضة للانقراض عالمياً، إنما أصبح وجودهم نادراً في كُردستان، بل نادراً جداً. أما الحيوانات التي تنالها مخاوف الانقراض عالمياً وفي كُردستان أيضاً فهي: النمر، الماعز البرّي، كبش الجبال الصخرية، الغزلان، الضباع، نوع من أنواع الخفاش، كلب الماء والأيل إن بقي لليوم. وهناك حيوانات أخرى تبدو أعدادها كثيرة، ولكن ليس من المستبعد أن يعرضها القتل والصيد المفرط للمخاطر، مثل النيص، السنجاب، الأرنب والغرير الأوروبي.
إقرأوا أيضاً: