يخبرني لؤي أنه بات يستعين في عمله المتخصص بتركيب أنظمة الطاقة الشمسية للمنازل، بعمّال من العسكر. يقول إن معظم العناصر الذين يخدمون في الجيش أو القوى الأمنية يعملون في أيام الراحة والإجازات، بعدما سمحت لهم المؤسسة العسكرية بذلك، لمحاولة تأمين لقمة العيش بعدما خسروا قيمة رواتبهم.
لؤي يعطي العسكري العامل لديه 400 ألف ليرة لبنانية بدل يوم عمل، ومع أن هذا المبلغ، يساوي بحسب سعر صرف الليرة اللبنانية نحو 15 دولاراً فقط، إلا أنه يعتبر رافعة للكثير من العناصر الذين لا تتخطى قيمة رواتبهم الخمسين دولاراً شهرياً، بعد انهيار العملة.
يبلغ معدّل رواتب العناصر نحو مليون و200 ألف ليرة لبنانية، وهو ما كان يساوي قبل الأزمة 800 دولار، وكان متبوعاً بتقديمات من المؤسسة العسكرية، من بدلات نقل وخصومات عالية على أقساط المدارس للأولاد، وتغطية صحية شاملة. هذه التقديمات تبخّرت مع تبخّر قيمة العملة، ومع وصول صفيحة البنزين إلى ما يقارب 500 ألف ليرة لبنانية، أي ما يقارب نصف راتب عسكري. كما أن المستشفيات الخاصة لم تعد تستقبل أبناء المؤسسة العسكرية إلا بعد دفع المال على الصندوق.
أحد الضباط في قوى الأمن الداخلي قال لـ”درج” إنه أجرى عملية قسطرة لشرايين قلبه في أحد مستشفيات العاصمة، واضطر إلى دفع 40 مليون ليرة لبنانية (نحو 1400 دولار أميركي) قبل إجراء العملية لأن المستشفى لا يقبل بتغطية مؤسسة قوى الأمن التي “لا تدفع ما يستحق عليها”، والسبب طبعاً هو تفاوت الميزانية المقررة للعسكر مع كلفة العلاج المحتسبة بالدولار حصراً.
أحد عناصر الدرك في مدينة النبطية- جنوب لبنان- يعتبر نفسه محظوظاً لأسباب عدة، أهمّها أنه يخدم في المنطقة التي يعيش فيها، وهذا يوفّر عليه كلفة النقل العالية، كما أنه غير متزوّج ويعيش مع والديه في بيت مملوك وليس بالإيجار. والده، كما يقول، كان “رؤيوياً”: “وضع نظاماً للطاقة الشمسية قبل سنوات من الأزمة، واليوم أنا عايش عالطاقة الشمسية”، يضحك وهو يقولها، لكنه يعنيها: “فاتورة الاشتراك تبلغ أكثر من راتبي الشهري الذي لا يتجاوز مليوناً و300 ألف ليرة، الحمد لله وللشمس”. هل يفكّر في الفرار من الخدمة؟ حتى الآن، لا. في أوقات الفراغ يساعد والده في عمله بالنجارة، وهو ما يؤمن له مدخولاً بسيطاً يعينه في مصاريفه الشخصية، بعد التقشّف على مختلف الصعد، وخصوصاً التدخين: “انتقلت إلى تدخين السيدرز (سجائر وطنية) أليس هذا واضحاً من بحّة صوتي؟”. هو ينتظر أن تتغير الأحوال وأن تقوم الدولة بتعديل الرواتب. هذا أمله. ولكنه أمر مستحيل كما يقول اقتصاديون لبنانيون. وإن حدث فإنه لن يكون إلا ثقلاً إضافياً على جثة الوطن الغريق.
حتى الضبّاط ذوو الرتب العالية، والذين اعتادوا على “الدلع” انقلبت بهم الحال رأساً على عقب. عميد في الجيش اللبناني، تقاعد قبل الأزمة بسنة واحدة، يقول لـ”درج” إنه خسر تعويضه البالغ 400 مليون ليرة لبنانية، والذي كان مبلغاً معتبراً لنهاية خدمة، مع راتب تقاعدي كان أكثر من معقول (نحو أربعة ملايين و500 ألف ليرة- كانت تساوي 3000 دولار). اليوم يسحب فتاتاً من هذا التعويض من المصرف الذي يحتجز المال، وقد تحول تعويضٌ يقارب 266 ألف دولار إلى ما يقارب 14 ألف دولار فقط. كما أن راتبه التقاعدي انهار إلى أقل من مئتي دولار أميركي شهرياً. لكن الضباط الكبار الذين لا يزالون في الخدمة، يبدو أن المؤسسة العسكرية، وبدعم خارجي (أميركي بشكل أساسي)، لا تزال تؤمن لهم التقديمات الأساسية من بدلات محروقات ودعم على أقساط المدارس والطبابة وسواها.
لهذا ربما لم نسمع كثيراً عن فرار ضبّاط كبار من الجيش أو من قوى الأمن الداخلي كما حدث مع فرار العناصر، الذين زاد عددهم في الجيش اللبناني عن خمسة آلاف عنصر، بحسب مصادر أمنية، تركوا مراكزهم وفرّوا من الخدمة، إما للهجرة خارج لبنان، أو للعمل داخل لبنان في مهن مختلفة، تؤمن لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة. أما في قوى الأمن الداخلي فالعدد تضاعف، بعدما أعلن وزير الداخلية بسام المولوي في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 عن فرار 243 عنصراً و4 ضباط من قوى الأمن الداخلي، ليزيد عن 560 حالة فرار من قوى الأمن الداخلي بحسب مصادر أمنية.
مؤشرات الفرار إلى خارج لبنان لعسكريين تمكن ملاحظتها لدى كتّاب العدل في عدد التواكيل العامة التي يوقّعها الفارّون لأقربائهم للتصرف بالأملاك والتوقيع عنهم، قبل هجرتهم من البلاد. يقول أحد كتّاب العدل لـ”درج” إنه يستقبل بشكل شبه يومي أشخاصاً من المؤسسة العسكرية يحضّرون وكالات لزوجاتهم او أبنائهم أو أشقائهم، قبل إقدامهم على خطوة الفرار والهجرة خارج البلاد لتفادي عوائق كثيرة قد تطرأ على عائلاتهم في حال الحاجة إلى التصرف بأملاك أو توقيع معاملات، أو حتى توكيل محامين لمتابعة ملفات الفرار، الذي يترتّب عليه في حال إلقاء القبض على العنصر الفار، عقوبة بالحبس أو غرامة مالية أو كليهما.
لكن يبدو ان المؤسسة العسكرية تتهاون مع الفارين، مراعاة للأوضاع الاقتصادية، فلا تتشدد في العقوبات. من يفرّون داخل لبنان تمكن تسوية أوضاعهم إما بالسجن لمدة لا تتجاوز 15 يوماً مع غرامة مالية (300 ألف ليرة لبنانية- 15 دولاراً تقريباً)، أو يتم الاكتفاء في أحيان كثيرة بالغرامة المالية، مع حرمانهم طبعاً من التعويضات والتقديمات وراتب نهاية الخدمة. وهو ما حدث مع حسن الذي فرّ من الخدمة ليعمل سائق شاحنة في أحد مصانع الورق. كان قد أتمّ عامه الخامس في الخدمة، حينما صار راتبه الذي لا يزيد على مليون و200 ألف ليرة، لا يكفيه بدل نقل من بيته إلى الثكنة. قرر الفرار وتحمّل تبعات الموضوع القانونية. سجن 15 يوماً، بقرار من المحكمة العسكرية ثم ترك، ونال “حريته” في العمل من دون تبعات قانونية أخرى، وأنهيت خدمته رسمياً وتم إيقاف راتبه ومخصصاته. سنوات الخدمة القليلة التي أمضاها حسن في المؤسسة العسكرية لا تخوّله نيل راتب تقاعدي أو تعويض “محرز”، لذا اتخذ الخطوة ليتحرر من عبء كان يظنه قبل خمس سنوات خلاصاً وامتيازاً. أما من يفرّون إلى خارج لبنان فتحكمهم المحكمة العسكرية غيابياً وتمكن تسوية أوضاعهم بغرامات مالية لا تتجاوز في أحيان كثيرة مليون ليرة لبنانية (40 دولاراً تقريباً)، وهو على ما يبدو ما يفسّر إقدام الآلاف على الفرار من مؤسسة الجيش اللبناني للاستفادة من التساهل في الأحكام.
كثيرون ممن يخططون للفرار بعد سنوات طويلة من الخدمة في المؤسسة العسكرية التي تحمل شعار “شرف، تضحية، وفاء”، يفكّرون في تعويضاتهم، ويمنّون النفس أن تستعيد مع الوقت قيمتها. لكنها أضغاث أحلام. سيكون عليهم، كما غيرهم، “التضحية” بـ”وفائهم” للمؤسسة والوطن صوناً لـ”شرف” العيش الكريم.
إقرأوا أيضاً: