الرائد جاسم مهووس بالنظافة. يعدم ذبحاً عنصراً من “داعش”، بلا رحمة أو شفقة، ثم يغسل يديه ويلملم كل ما تقع عليه عيناه من أوساخ وبقايا. يرفع عن الأرض قنينة بلاستيك فارغة، كيس نايلون، وأوساخاً وفضلات أخرى من بين الركام والغبار، ثم يرميها في سلة القمامة. تُرينا الكاميرا لقطة مقرّبة ليده وهي ترمي الأوساخ في سلة النفايات. يتكرر هذا السلوك في أكثر من مشهد في الفيلم. في أي مكان تذهب إليه الفرقة التي يقودها الرائد جاسم، تجده بعد انتهاء المهمة القتالية منهمكاً بالتنظيف. هل يعاني من وسواس قهري؟ لا يبدو ذلك، بقدر ما يريد مخرج فيلم “الموصل” أن يوصل إلينا فكرة أساسية عن انتماء الرائد جاسم إلى “النظافة”. وأنه إذ يقتل بدم بارد، فهو يمارس فعلاً “تطهيرياً” لمدينته من عناصر تنظيم “داعش” و”أوساخه”. الفيلم قائم على هذه القصة، وهو مستند إلى أحداث حقيقية: فرقة خاصة تدعى “فرقة نينوى للتدخل السريع”، تقاتل في شوارع الموصل آخر فلول تنظيم “داعش” في المدينة. الفرقة مؤلفة من مجموعة مقاتلين من أبناء المدينة، مدرّبين تدريباً خاصاً، ولديهم مهارات قتالية عالية. يجولون في المدينة في نهاية عام 2017 قبل قليل من هزيمة تنظيم “داعش” في الحرب التي خاضتها القوات العراقية (ومن ضمنها الألوية والميليشيات) ضده.
يحكي الفيلم قصة الفرقة وأفرادها. ويركّز على شخصيتين: الرائد جاسم والكردي كاوة الذي تعثر عليه الفرقة وقد اشتبك مع زميل له في الشرطة العراقية مع مجموعة من “داعش” وأسرا عنصرين من التنظيم. تنقذهما الفرقة بعد تدخلها، ويعدم الرائد جاسم الأسيرين من “داعش” بدم بارد. لا مكان للرحمة ولا للأسر. الفرقة هي آلة قتل مهمتها تصفية جميع عناصر “داعش” في المدينة. لا يضيعون الوقت لا في التحقيق ولا في الأسئلة ولا في أي شيء يمكن أن يؤخر مهمتهم التي وضعوها نصب أعينهم: القضاء على “داعش”.
يضم الرائد جاسم كاوة إلى الفرقة بعد أن يتأكد أن لديه أقرباء قضوا على يد “داعش”. هذا شرط أساسي للانتساب إلى الفرقة والقتال إلى جانب عناصرها. شرط تتضح تبريراته أكثر فأكثر مع التقدم في أحداث الفيلم. فالثأر هو المحرك الأساسي للفرقة. كل فرد فيها لديه حكاية مؤلمة مع التنظيم. وكل فرد منها يريد الإنتقام. ينتقمون، يعدمون اسرى بلا اي تدقيق أو تحقيق او محاكمات، ثم نرى اعضاء الفرقة وهم يصلّون في موعد الصلاة. وهذه عودة إلى فكرة “الطهارة”. مع “داعش” لا مكان للإيمان ولا للعقائد ولا للأخلاق ولا للقيم. هذه الأمور تظهر في الفيلم بعد كل معركة تصفّي فيها الفرقة عناصر من “داعش”. تختفي الإنسانية في المواجهة مع “الوحوش”، لكنها تعود ما أن يموت الوحش، أو في فترات الاستراحة. يصير أعضاء الفرقة بشراً. يجلسون في أحد البيوت ويشاهدون عبر التلفاز مسلسلاً كويتياً، ويعطون رأيهم بالنساء في المشهد. يأكلون، يستمعون إلى الموسيقى. ثم يأتي انفجار ليوقظهم من “إنسانيتهم”. يستنفرون بعد إصابة احدهم. ويعودون إلى وضعية الآلة القاتلة.
يريد مخرج فيلم “الموصل” أن يوصل إلينا فكرة أساسية عن انتماء الرائد جاسم إلى “النظافة”. وأنه إذ يقتل بدم بارد، فهو يمارس فعلاً “تطهيرياً” لمدينته من عناصر تنظيم “داعش” و”أوساخه”.
مع كل موت للوحوش تظهر أكثر فأكثر الزوايا الإنسانية في حكايا أفراد الفرقة. كأن الإنسانية تولد من موت العدو، الذي أفرغ بوجوده المدينة والبلاد كلها من أي أثر لها. يرينا الفيلم لحظات من تماس جنود الفرقة، المعروف عنهم بطشهم وسطوتهم و”إجرامهم”، مع ضحايا “داعش”: مع طفلين ينقلان جثة والدهما عبر خطوط التماس فيحاول الضابط جاسم إقناعهما بأخذهما مع الفرقة في الآليات العسكرية إلى مكان آمن. طفل واحد من الأخوين يقبل بالذهاب مع الفرقة فيما الثاني يصرّ على البقاء إيفاءً بوعد لوالده بدفنه وعدم ترك جثته. الرائد جاسم يحرص على تسليم الطفل لعائلة من العائلات النازحة من المدينة بعد تزويدها الأم بمبلغ من المال. ويستخدم بطشه مع الوالد. يهدده بأنه إذا عرف أن الصبي لم يلق معاملة حسنة سيعثر عليه. تتآخى الإنسانية مع الوحشية في مشهد واحد. تتلازمان في مسارهما معاً طوال الفيلم. ثنائيات ضدّية تتعايش في الأحداث: الموت والحياة. القسوة والعاطفة. النظافة والأوساخ. الإنسانية والوحشية. الدولة والميليشيات. النظام والفوضى. قبل نهاية الفيلم يموت الرائد جاسم. بعد اقتحام مركز لـ”داعش” وقتل عناصره، يلملم الأوساخ، ثم يعثر على مجلات بورنوغرافية على طاولة، فيروح يلملم قصاصات المجلات ويضعها معاً في صندوق على الطاولة. يظهر التضاد في هذه اللقطة من الفيلم أيضاً. يلعن الرائد جاسم عناصر “داعش” ويشتمهم على نفاقهم، لأنهم يدّعون التشدد الديني ويحتفظون بهذه المجلات. لكن لا يمكن إلا أن نرى اهتمامه هو نفسه بها، لدرجة أنه جمعها في الصندوق وحمله. لسوء حظه يكون موصولاً بعبوة ناسفة، تقتله. تقتله البورنوغرافيا التي كان يحاول “تنظيفها”.
ينتهي الفيلم مع إظهار الدوافع الشخصية الانتقامية التي تحرّك أفراد الفرقة. يحضر الثأر الشخصي قبل الانتماء إلى المدينة وقبل الانتماء إلى الوطن. لكنه الدافع الأساسي الذي سمح لهذه الفرقة بالانتصار على “داعش” و”تنظيف” الموصل من عناصره بالكامل. في جنريك الفيلم النهائي إهداء إلى “أعضاء فرقة نينوى للتدخل السريع الذين فقدوا أرواحهم”، مع لائحة بأسمائهم وتاريخ مقتل كل واحد منهم. فيلم “الموصل” مشوّق على مستوى الإنتاج والإخراج والمؤثرات. لكنه أيضاً يحاول تقديم صورة بطولية ناصعة عن عناصر الفرقة، وكأنه فيلم بالأبيض والأسود، لا مكان فيه للألوان الأخرى، ولا لمنطقة رمادية. الفرقة بيضاء نظيفة، و”داعش” سوداء متّسخة. والأبيض يثأر من الأسود. الفرقة تثأر من “داعش” بـ”النظافة”!
إقرأوا أيضاً: