fbpx

في  اليمن النفط نقمة وليس نعمة… عشرات الشركات تنتهك البيئة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يصف تقرير غير منشور أُنجز بناء على تكليف من البرلمان اليمني، 30 حادثة تلوث بيئي قامت بها اكثر من 12 شركة استكشاف نفط وغاز، ومؤسسات تابعة لها. التقرير الذي وُضع على الرف منذ اندلاع الحرب في اليمن، يتهم شركة “نكسن” الكندية بـ “التهور والإهمال المتعمد في تلويث البيئة بسوائل النفط”. الرئيس الأسبق للهيئة العامة لحماية البيئة د. عبد القادر الخراز، يقاضي شركة نفط حكومية للتأثير المستمر على صحة السكان في المناطق التي تولت فيها عمليات استخراج النفط من الشركات الأجنبية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أعد هذا التحقيق: أحمد الواسعي ، رنا الصباغ ، سلمى مهاود، عبدالواحد العوبلي، مطيع بامزاحم، زاهر بن شيخ بكر.

تصوير: أحمد الواسعي

عندما وصلت حفارات النفط إلى وسط اليمن قبل ثلاثة عقود، لم تكن قبيلة الشيخ سالم سعيد بن هوطلي تتوقع ما كان سيحدث، “وإلا لكنا حمينا أنفسنا”، بحسب ما قال الزعيم القبلي، الذي يعيش في منطقة زراعية محاطة بآبار النفط، في مقابلة مع الصحافيين. 

 يتذكر بن هوطلي أنه شاهد خلال السنوات المنصرمة، عمال شركة نفط أجنبية يلقون براميل لما يبدو أنها نفايات الحفر في حواجز رملية مفتوحة بالقرب من المكان الذي تعيش فيه قبيلته. واستذكر كيف كانت الطيور تأتي وتشرب الماء. ولكن عندما بدأت تموت، أقامت الشركة سياجاً حول الحفر الرملية،  لكن هذا لم يفعل الكثير لمنع الأمطار الغزيرة من جرف المحتويات إلى أسفل الوادي وصولاً إلى منطقة رسب، حيث تعيش قبيلة بن هوطلي في  قلب إحدى المناطق المنتجة للنفط في البلاد. 

قال بن هوطلي لـ “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود” OCCRP، أنه “عندما تأتي السيول الجارفة، نرى سواداً في الماء يشبه النفط”.

ومثل العشائر الأخرى التي تعيش بالقرب من حقول النفط اليمنية، دفعت قبيلته ثمناً باهظاً بينما حققت شركات استخراج النفط الخاصة والعامة مليارات الدولارات. ومنذ اكتشاف النفط في اليمن في ثمانينات القرن العشرين ، تعثرت محاولات المساءلة بسبب الحرب وتشظّي السلطة السياسية. 

يوثق تقرير غير منشور أُنجز نهاية عام 2014  بتكليف من البرلمان اليمني، أكثر من 30 انتهاكاً بيئياً ارتكبتها عشرات شركات النفط والغاز ما بين أيام الازدهار في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الى حين انزلاق البلاد إلى حرب أهلية في عام 2014. وتقدم المقابلات التي أجراها فريق التحقيق الصحافي مع السكان المحليين والخبراء والمسؤولين، بالإضافة إلى مراجعة سجلات المحكمة وتقارير أخرى تتعلق باستخراج النفط والغاز، صورة مماثلة عن هذه الممارسات.

سُلِّم التقرير إلى المشرعين نهاية عام 2014 عندما بدأت البلاد تنحدر إلى حرب أهلية. وما زال التقرير حبيس الإدراج منذ ذلك الحين بينما غادرت شركات نفط كثيرة البلاد مع تردي الأوضاع الامنية. وتظهر تقارير OCCRP، أن الشركات الحكومية التي استحوذت على الصناعة من الشركات الأجنبية، متهمة الآن بمواصلة الدمار. في  إحدى الحالات، يقاضي الرئيس السابق للهيئة العامة لحماية البيئة في اليمن د. عبد القادر الخراز، شركة حكومية بسبب الآثار الصحية المستمرة على الناس في المنطقة. 

يقول درهم أبو حاتم، مدير عام البيئة والسلامة في وزارة النفط والمعادن اليمنية لـ OCCRP، “إن الشركات عندما تحفر في أي دولة من دول العالم تكون عندها لوائح تنظيمية وخوف على سمعتها. ولكن عندما تعمل في دولة القانون عندها ضعيف تأخذ الشركات راحتها”، بخاصة أنه آنذاك لم تكن هناك لوائح وضوابط لتنظيم الأثر البيئي لعملية التنقيب.

كتب التقرير المؤلف من 147 صفحة، د. محمد الحيفي، أستاذ البيئة المشارك في جامعة صنعاء، وراجعه المهندس علي عبدالله الذبحاني، مدير عام السلامة الكيميائية والنفايات الخطرة في وزارة المياه والبيئة. وقد كلّفهما البرلمان في ظل تزايد الشكاوى بشأن مخالفات في قطاع استخراج النفط والغاز. وبحسب الصور الملتقطة والتحليلات  لعينات المياه والهواء وعمليات التفتيش وشكاوى المواطنين، يصف التقرير الحوادث التي تورطت فيها أكثر من 12 شركة نفط دولية، فضلاً عن شركات ومقاولين محليين. 

مثلاً، شركة النفط الكندية “نكسن” –  التي كانت تعمل حتى عام 2015  بالقرب من قبيلة بن هوطلي، متّهمة بـ “التهور والإهمال المتعمد في تلويث البيئة بسوائل الحفر”، وفق ما ذُكر في التقرير البرلماني. وخلص التقرير إلى أن حجم التلوث وتكراره “يشيران إلى الإصرار المتعمد على ارتكاب جرائم ضد البيئة”.  

تظهر صور التقطها فريق الصحافيين العاملين مع occrp نهاية عام 2021 لمواقع حفارات “نكسن” بالقرب من المكان الذي يعيش فيه بن هوطلي، وهي منطقة تُعرف بإسم قطاع 51،  كميات كبيرة من السوائل الداكنة تتجمع بين رمال الصحراء. في عام 2015، اشترت CNOOC الصينية شركة “نكسن”. 

صور من التقرير البرلماني تظهر تلوث سوائل الحفر في  قطاع 51 الذي كانت تديره شركة نكسن
المصدر: تقييم الوضع البيئي والصحي والاجتماعي للتلوث الناجم عن قطاع النفط والغاز في محافظتي حضرموت ومأرب بالجمهورية اليمنية – دراسة مقدمة للجنة البيئة والصحة في مجلس النواب

بدلاً من معالجة نفايات الحفر بشكل صحيح، اختارت “نكسن” الخيار “الرخيص والسهل”  المتمثل في خلط سوائل النفط ببساطة في التربة وتركها في حفر مفتوحة، كما قال د. عبد الغني جغمان، الخبير الجيولوجي الذي عمل في وزارة النفط اليمنية في أوائل عام 2000 ، بعد مراجعة التفاصيل الواردة في التقرير. 

وقال د. جغمان الذي راقب عمل شركات النفط خلال فترة عمله في الوزارة، في مقابلة مع occrp، إن “نكسن” كانت مهملة بشأن طريقة التخلص من سوائل الحفر أو معالجتها”. وأضاف قائلاً: “شركة نكسن لم تكن وحدها، ولكن حتى الشركات الأخرى العاملة في اليمن”. 

ولفت علي الذبحاني، الرئيس السابق لإدارة النفايات الخطرة في وزارة البيئة، الذي راجع التقرير قبل تقديمه إلى البرلمان، لـ OCCR، إن التقرير لا يظهر فقط “تهور شركات النفط وإهمالها”، ولكن أيضاً فشل السلطات اليمنية في تطبيق التعليمات بشكل صحيح. 

بحسب ياسمين الأرياني، المديرة التنفيذية للإنتاج المعرفي بمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، والتي سلطت الضوء على تحديات قطاع النفط في دراسة لها عام 2020، فإن اندلاع الحرب الاهلية في اليمن عرقلت بصورة أكبر جهود إصلاح القطاع. وقالت الارياني لـ occrp، “إن الظروف اليوم أصبحت أكثر صعوبة  لسن آليات المساءلة”.

بعد دعم موازنة الحكومة اليمنية لعقود، أصبحت أرباح النفط الآن تشكل مصدر دخل للفصائل المتحاربة في البلاد. ولا يزال المواطنون مثل الشيخ الهوطلي يعيشون مع هذه التداعيات. ومثل كثيرين في المنطقة، يلقي الشيخ بن هوطلي باللوم على التلوث النفطي في انخفاض غلة المحاصيل في منطقته وارتفاع الأمراض مثل السرطان وأمراض الكلى.

ويتحسر قائلا: “أرضنا لم تكن أبداً هكذا. لقد كانت مثمرة والآن أصبحت قاحلة ولا فائدة منها”.

لم ترد وزارة النفط والمعادن على أسئلة أرسلها فريق الصحافيين الاستقصائيين حول ما وثقوه وكشفوه. ويقول المسؤولون الذين حاولوا محاسبة الشركات إنه تم إسكاتهم. 

وقال رئيس سابق لهيئة حماية البيئة اليمنية، إنه استُهدف بعد تحدّيه شركة “صافر” لعمليات الاستكشاف والإنتاج التي تديرها الدولة بشأن سجلها، ومنذ ذلك الحين رفع دعوى قضائية ضد الشركة وفرّ من البلاد.  وقال مسؤول كبير آخر في هيئة حماية البيئة، إنه طُرد أيضاً العام الماضي بعد تحدّيه شركات النفط والسلطات. 

القطاع 14 

بعد اكتشاف النفط في اليمن في منتصف ثمانينات القرن العشرين، توافدت مجموعة من الشركات الأجنبية على البلاد للحصول على مناطق الامتياز التي قسمتها الحكومة الى “قطاعات” بموجب اتفاقيات مشاركة الإنتاج، والتي منحت الشركات حقوق التنقيب عن النفط بشرط أن تتقاسم الإتاوات مع الدولة.  

في ذروة الإنتاج في أوائل عام 2000، كان اليمن يضخّ 450,000 برميل يومياً. وقبل اندلاع الحرب، كانت عائدات النفط والغاز تمثل نحو 70 في المئة من ميزانية الدولة.  

كانت “نكسن”، التي كانت تُعرف سابقاً باسم أوكسيدنتال بتروليوم الكندية، واحدة من أوائل الشركات التي عثرت على النفط في عام 1991. وبحلول أوائل عام 2000، كانت تدير قطاعين في محافظة حضرموت.  لم يمض وقت طويل قبل أن يبدأ السكان المحليون في الشعور بآثار عملها. 

يفصّل التقرير البرلماني كيف انزلق ما يقدر بنحو 450,000 برميل من المياه الزيتية في آذار/ مارس 2008 من بئر تصريف في منطقة امتياز “نكسن” الرئيسية، قطاع 14، حيث تم انسكابها لمسافة نحو ثلاثة كيلومترات.  

يتذكر الزعيم القبلي عمر سعيد باعباد (75 عاماً) حادثة التسرب، قائلاً في مقابلة مع OCCRP خلال زيارة للمنطقة، إن المياه الملوثة استمرت في التدفق لمدة أربعة أيام، وغطت الكثير من مزارع المنطقة. وأضاف: “إن الأرض لم تعد كما كانت أبداً… كنا ننتج 40 إلى 50 كيساً من القمح في الموسم الواحد. أما الآن، فنحن ننتج 10 فقط ونشتري الباقي”. مؤلفو التقرير يصفون المياه بأنها “مياه مصاحبة”: سائل يتم ضخه إلى السطح إلى جانب النفط، وغالباً ما يكون ملوثاً بمواد كيميائية خطرة ، بعضها مشع.  

وأشار التقرير إلى أن الشركات في جميع أنحاء حضرموت ارتكبت “انتهاكات بيئية صارخة” عند التخلص من هذا النوع من النفايات.  

يمكن التخلص من المياه المنتجة عن طريق إعادة حقنها مرة أخرى في الحوض الذي أتت منه، ولكن يجب أن يتم ذلك بعناية لتجنب تلويث مصادر المياه الجوفية، كما أوضح د. جغمان، خبير الجيولوجيا. الخطر شديد بخاصة في حضرموت، التي تقع فوق أكبر طبقة مياه جوفية في اليمن.  

وقال د. جغمان إن “المياه المنتجة سامة، ولا يمكن استخدامها للبشر أو الزراعة ما لم تخضع لمعالجة كبيرة، وهو ما تتجنبه شركات النفط لأنها عملية مكلفة”.  

بعدما غادرت “نكسن” قطاع 14 في عام 2011، وجدت الشركة التي تديرها الدولة والتي استحوذت على قطاع ذلك الموقع، في حالة من الفوضى، وفقاً لقضية تحكيم دولية رفعتها وزارة النفط والمعادن اليمنية ضد الشركة الكندية وشركائها في باريس بعد عامين على مغادرتها اليمن. المحكمة التجارية متخصصة في فض النزاعات التجارية.

واتهم اليمن الشركات بإعادة حقن المياه المصاحبة بلا مبالاة، والفشل في مراقبة ما إذا كانت الشركات قد لوثت المياه الجوفية. واعترفت نكسن خلال التحكيم، بأنها ضخت المياه الملوثة أسفل طبقة المياه الجوفية العذبة لمدة خمس سنوات في تسعينات القرن العشرين، لكنها قالت إنها لم تسبب بأي ضرر بيئي.  

كما وصفت الوزارة في مرافعتها، أنها عثرت على آبار خطرة وناقصة، ونفايات ملقاة أو محترقة في العراء، ومحرقة نفايات مكسورة لم يتم إصلاحها منذ سنوات. وعلى الرغم من أن القوانين البيئية في اليمن كانت وقتها ضعيفة، إلا أن وزارة النفط جادلت في محكمة التحكيم الدولية الأولى بأن “نكسن” وشركاءها فشلوا في تلبية المعايير الأساسية المنصوص عليها في عقدها. 

في حين تم رفض بعض الاتهامات –  على أساس أنه تم اعتبار الادعاء حول التسبب في التلوث بالمياه المنتجة خارج إطار قانون التقادم –  أمرت المحكمة “نكسن” بدفع ما يقرب من 10 ملايين دولار على شكل غرامات لاستبدال المحرقة المكسورة  ومعدات أخرى لم تعد فاعلة، وأيضاً لدراسة تقييم الأثر البيئي التي لم تقم به الشركة قبل أن تغادر القطاع الذي عملت به.

بالنسبة الى اليمنيين الذين يعيشون بالقرب من حقول النفط في البلاد، يمكن قياس تأثير التلوث بأكثر من الدولارات. إذ أظهرت الدراسات العلمية أن العيش بالقرب من حقول البترول يرتبط بزيادة خطر الإصابة ببعض أنواع مرض السرطان. 

تظهر البيانات الصادرة عن مؤسسة حضرموت لمكافحة السرطان – المنطقة التي عملت فيها شركة “نكسن” – أن حالات السرطان تضاعفت ثلاث مرات تقريباً  بين أوائل عام 2000 وعام 2015.  وقال مديرها، الدكتور وليد عبد الله البطاطي، إنه على الرغم من عدم وجود دراسات تثبت أن التلوث النفطي تسبب في ارتفاع الأعداد، فإن المناطق القريبة من الكتل النفطية “لديها أعلى معدلات الإصابة بالسرطان مقارنة بالمحافظات الأخرى”. 

ويلقي باعباد، الزعيم القبلي الذي تلوثت أرضه، باللوم على التلوث النفطي أنه كان سبب السرطان الذي أودى بحياة شقيقه قبل بضع سنوات.  وقال للصحافيين في لقاء في منزله: “صحتنا وأراضينا كلها دمرت بسبب شركات [النفط]”.   

القطاع 18 

في المنطقة الرئيسية الأخرى المنتجة للنفط في اليمن، على بعد نحو 30 كيلومتراً من مدينة مأرب، يقع القطاع 18، حيث اكتشفت شركة “هنت” للنفط ومقرها دالاس في الولايات المتحدة الأميركية،  أول نفط في اليمن في عام 1984. 

يصف التقرير البرلماني انتهاكات مختلفة خلال فترة ولاية “هنت” التي استمرت 20 عاماً، تضمنت انبعاث مستويات خطيرة من أكاسيد النيتروجين في الهواء والتخزين غير السليم لمئات البراميل من المواد الكيميائية منتهية الصلاحية.  

كما وجد أن “هنت” قد دفنت مواد كيميائية في حفرة في الصحراء إلى جانب نفايات الحفر، ويُزعم أنها حاولت دفن “كمية لا يستهان بها من نفايات الحفر” في موقع آخر قبل أن يوقفها المسؤولون المحليون في منتصف الطريق.  ورفضت “هنت” التعليق على ما ورد في التقرير.  

خرجت “هنت” من قطاع 18 في عام 2005 بعدما رفض البرلمان تجديد عقد الامتياز.  لكن شركة صافر لعمليات الاستكشاف والإنتاج (SEPOC) التي تديرها الدولة، والتي استحوذت عليها،  متهمة بمواصلة إرث شركة “هنت”.

إرث مدمر

في عام 2018 ، تلقى د. عبد القادر الخراز، الذي كان آنذاك رئيس الهيئة العامة لحماية البيئة في اليمن، شكوى مفادها أن الشركة الحكومية “صافر” دفنت نفايات كيميائية خطرة من إحدى وحدات المعالجة التابعة لها في الصحراء. بعد أقل من عام، تلقت الهيئة نفسها شكوى أخرى مفادها أن الشركة كانت تخزن المواد الكيميائية بشكل غير صحيح، ما يجعلها عرضة للعوامل الجوية، في تهديد للمنطقة المحيطة. 

بعد فشل جهوده المتعددة للحصول على تعاون من شركة “صافر”،  رفع د. الخراز دعوى قضائية في عام 2020 متهماً الشركة بدفن المواد الكيميائية الخطرة ونفايات الحفر، وطالبها بتعويض نيابة عن العشرات من مرضى السرطان. 

يدعم د. الخراز ادعاءاته أمام المحكمة بنتائج تحليل 65 عينة تربة أخذها من مواقع مدافن النفايات والقمامة المختلفة في قطاع 18 الذي تديره “صافر”، وقطاعان مجاوران على مدار سنوات عدة.  وكشفت الاختبارات المعملية أنها تحتوي على جزيئات هيدروكربونية متطايرة ومعادن يمكن أن تسبب السرطان، مثل الكروم والنحاس والنيكل والرصاص بمستويات أعلى من الحدود الدولية المسموح بها.

في إحدى العينات، كان مستوى الرصاص أعلى بأكثر من 120 مرة  من المعيار الدولي المستخدم في المختبر، بينما كان الزنك أعلى 32 مرة.  

كما وزع الخراز استبياناً عام 2020 على عينة عشوائية من 51 شخصاً في حريب، وهي مدينة بالقرب من القطاع الذي أخذ عينات منه، ووجد أن ما يقرب من ثلثيهم يعانون من السرطان، وأكثر من 17 في المائة يعانون من أمراض الصدر والجهاز التنفسي. وكان معدل الإصابة بسرطان الدماغ أعلى بين الأطفال بحسب ما وثّق. 

وفي تصريحات لـ OCCRP، نفت “صافر” دفن أي مواد خطرة في موقعها أو انتهاك قانون البيئة اليمني الذي يعاقب على التلوث المتعمد الذي يضر بالبيئة بالسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات.  ورفض المتحدث باسم “صافر” التعليق على دعوى د. الخراز التي ما زالت تراوح مكانها في أروقة المحكمة.

وقالت الشركة إنه منذ تولّيها القطاع 18، اتخذت تدابير لحماية البيئة، مثل تبطين حفر النفايات وحماية إمدادات المياه من خلال تدعيم أفضل للأنابيب تحت الأرض.    

صناعة النفط “خط أحمر” 

توقفت الإجراءات القانونية التي اتخذها د. الخراز ضد “صافر” في المحاكم منذ عام 2020 ، حيث يطعن محامو الشركة في التفاصيل الفنية بينما تنحى القاضي الأصلي في القضية عن منصبه في ذلك العام، ورفض قضاة آخرون إعادة فتح القضية.   

وفي الوقت نفسه، قال د. الخراز إنه قوبل بحملة ترهيب. ففي أيلول/ سبتمبر 2019، بعد بضعة أشهر من تقديم شكواه الثانية على “صافر”، استُبدل د. الخراز كرئيس الهيئة العامة لحماية البيئة.  وعندما رفع القضية ضد “صافر” في العام التالي، طلب محامي الشركة من النيابة التحقيق معه بتهمة الإخلال بالسلام والإضرار بالمصلحة العامة.

في مرحلة ما من التقاضي، طلب د. الخراز الحماية بعدما أخبر محامي “صافر” المحكمة أن السكان المحليين عرضوا على الشركة منعه من رفع قضية ضد شركة النفط. وقال د. الخراز إنه ينظر إلى التعليقات على أنها تهديد. 

يقول د. الخراز إنه فر في نهاية المطاف من اليمن بعدما تصاعدت التهديدات ضده، والتي بدأت “كنصيحة” من الأصدقاء ثم تطورت إلى الترهيب اللفظي، بما في ذلك من مسؤول حكومي تحدث إلى والده. ويعتقد د. الخراز أن حادثة قصف منازل العائلة في مأرب بصواريخ الدبابات في 9 أيلول 2021  بعد شهر على مغادرته البلاد، “إنما هو تنفيذ للتهديدات التي يتعرض لها بسبب ما كشفه حول الموارد النفطية في القضية التي رفعها ضد الشركات النفطية المتعلقة بالتلوث النفطي ومطالبته بوقف عمليات دفن المخلفات الخطرة ومعالجة مرضى السرطان بالمنطقة وتعويضهم” على الرغم من أن OCCRP لم تجد أي دليل يؤكد ذلك.

ويظهر مقطع فيديو تم تصويره في مضارب آل الخراز، قيادات الجيش في محافظة مأرب يزورون الديوان بعد التوصل الى صلح عشائري مع وجهاء العائلة، مقرين بتعويض عن الخسائر. ونفى متحدث بإسم  قائد اللواء 14 التابع للحكومة المعترف بها دولياً، مزاعم د. الخراز بأن قصف منازل العائلة “كان بناء على أوامر وصلت القيادة المحلية من جهات داخل الدولة”. 

وقال المتحدث لـ occrp، إن “كل ما ذكرتم في رسالتكم مجانب للحقيقة. قضية الأخ محمد الخراز تم تحكيمه فيها بإشراف وجاهات قبلية، وتم تعويض الأخ محمد الخراز بما حَكم به وقد تنازل عن القضية برضاه وبعد استلام التعويض وكتب أنه لم يبق له أي دعوى أو طلب في الحكم الموجود لدينا”. 

وقال د. الخراز الذي يمضي الآن غالبية وقته متنقلاً بين عدد من الدول العربية والأجنبية: “إن الأشخاص النافذين في الحكومة وشركات النفط يحمون مصالحهم من خلال منع التدقيق الفعال في قطاع استخراج النفط”. 

وقال محمد سالم مجور، مدير مكتب الهيئة العامة لحماية البيئة في محافظة شبوة الغنية بالنفط، إنه تم إقصاؤه من الوظيفة أيضاً بعد محاولته كشف التلوث في منطقته.  

في عام 2020، بدأ مكتبه في توثيق التلوث الذي تقوم به شركات النفط الأجنبية والمحلية العاملة في المنطقة. وشملت هذه الانتهاكات الفشل في وقف تسرب النفط المتكرر وبكميات كبيرة من خط أنابيب تديره الشركة اليمنية للاستثمارات النفطية والمعدنية التي تديرها الدولة، ومعالجتها بشكل صحيح. 

ولم ترد الشركة على طلب occrp الحصول على تعليق.

وكتب مجور في بيان عام نشر في نيسان/ أبريل 2022، “أنه سرعان ما تم تحذيرنا من بعض السلطات بخطورة ذلك الملف، لأنه ظل لسنوات سابقة  “خطاً أحمر” بعيداً من الرقابة لارتباط القطاعات النفطية بقوى نفوذ تتحكم بها وتحمي تلك الشركات العاملة فيها”.

وبعد شهرين، كتب  مجور رسالتين إلى محافظ المنطقة يزعم فيها أن مبعوثه أصدر تعليمات إلى الهيئة العامة لحماية البيئة بعدم اتخاذ إجراءات قانونية ضد شركات النفط أو الإضرار بسمعتها.  وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، تم استبعاد  مجور. 

لم يرد مكتب محافظ شبوة على طلبات متكررة للتعليق.

أبرز مجور نسخة لشكوى الفصل التعسفي التي رفعها لدى مفوضية حقوق الإنسان اليمنية، التي أكدت استلام الشكوى لكنها لم تعط المزيد من التفاصيل. وقال مجور في مقابلة مع occrp  في شهر آذار/ مارس، إن مشكلة التلوث النفطي لم تحل بعد. “التربة الملوثة ما زالت هناك، وعندما تتساقط الأمطار تجرف التربة للمناطق الزراعية”. 

عودة  الشركات الى اليمن

على الرغم من أن غالبية شركات استكشاف النفط الاجنبية العاملة في اليمن غادرت بعد بدء الحرب أو أوقفت انتاجها بسبب التحديات الأمنية، إلا أن بعضها عاد للعمل. في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، زار صحافيون محليون يعملون مع occrp على هذا التحقيق الصحافي الاستقصائي، منطقة قطاع 9 في حضرموت، حيث كانت تدير العمليات وقتها شركة  “كالفالي بتروليوم”- قبرص.

وقال الشيخ عبدالله مبارك بن بدر الذي يقيم في منطقة قريبة من نطاق عمل الشركة، إنه “عندما تسقط الأمطار تتراكم مادة سوداء تحت أشجار النخيل”. وتابع: قبل أشهر، جرفت الفيضانات هذه المياه الملوثة من الموقع النفطي إلى الوادي. 

واعترف المتحدث باسم كالفالي بالحادث، وقال إن الشركة دفعت تعويضات من خلال عملية رسمية تقودها الحكومة للسكان الذين تضرروا من التسرب الذي جاء من الحفر المفتوحة التي غمرتها الأمطار الغزيرة.  وأشار المتحدث الى أن الحادث كان بسبب “فيضان استثنائي”. 

خلال الزيارة ، شاهد الصحافيون حفرة ترابية منفصلة للمياه المنتجة داخل موقع “كالفالي”، وتفتقر إلى أي بطانة. كانت محتويات الحفرة تتدفق إلى الأرض المحيطة من خلال كوة في جدار منهار. 

وقال المتحدث باسم الشركة إن هذه البركة شُيدت قبل صدور لائحة تنظيمية عام 2010، تتطلب الآن وجود طبقات واقية للمياه المنتجة وألا علاقة لها بأحدث تسرب. وأضاف أن خطط “كالفالي” لإصلاح الحفرة قد تعطلت بسبب الحرب. 

ولفت المتحدث، “سيتم ذلك بمجرد أن تتمكن الشركة من استعادة الإنتاج ويسمح الوضع الأمني في اليمن لشركات الخدمات الدولية بالعودة إلى اليمن”.  

يصف تقرير غير منشور أُنجز بناء على تكليف من البرلمان اليمني، 30 حادثة تلوث بيئي قامت بها اكثر من 12 شركة استكشاف نفط وغاز، ومؤسسات تابعة لها. التقرير الذي وُضع على الرف منذ اندلاع الحرب في اليمن، يتهم شركة “نكسن” الكندية بـ “التهور والإهمال المتعمد في تلويث البيئة بسوائل النفط”. الرئيس الأسبق للهيئة العامة لحماية البيئة د. عبد القادر الخراز، يقاضي شركة نفط حكومية للتأثير المستمر على صحة السكان في المناطق التي تولت فيها عمليات استخراج النفط من الشركات الأجنبية.

أعد هذا التحقيق: أحمد الواسعي ، رنا الصباغ ، سلمى مهاود، عبدالواحد العوبلي، مطيع بامزاحم، زاهر بن شيخ بكر.

تصوير: أحمد الواسعي

عندما وصلت حفارات النفط إلى وسط اليمن قبل ثلاثة عقود، لم تكن قبيلة الشيخ سالم سعيد بن هوطلي تتوقع ما كان سيحدث، “وإلا لكنا حمينا أنفسنا”، بحسب ما قال الزعيم القبلي، الذي يعيش في منطقة زراعية محاطة بآبار النفط، في مقابلة مع الصحافيين. 

 يتذكر بن هوطلي أنه شاهد خلال السنوات المنصرمة، عمال شركة نفط أجنبية يلقون براميل لما يبدو أنها نفايات الحفر في حواجز رملية مفتوحة بالقرب من المكان الذي تعيش فيه قبيلته. واستذكر كيف كانت الطيور تأتي وتشرب الماء. ولكن عندما بدأت تموت، أقامت الشركة سياجاً حول الحفر الرملية،  لكن هذا لم يفعل الكثير لمنع الأمطار الغزيرة من جرف المحتويات إلى أسفل الوادي وصولاً إلى منطقة رسب، حيث تعيش قبيلة بن هوطلي في  قلب إحدى المناطق المنتجة للنفط في البلاد. 

قال بن هوطلي لـ “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود” OCCRP، أنه “عندما تأتي السيول الجارفة، نرى سواداً في الماء يشبه النفط”.

ومثل العشائر الأخرى التي تعيش بالقرب من حقول النفط اليمنية، دفعت قبيلته ثمناً باهظاً بينما حققت شركات استخراج النفط الخاصة والعامة مليارات الدولارات. ومنذ اكتشاف النفط في اليمن في ثمانينات القرن العشرين ، تعثرت محاولات المساءلة بسبب الحرب وتشظّي السلطة السياسية. 

يوثق تقرير غير منشور أُنجز نهاية عام 2014  بتكليف من البرلمان اليمني، أكثر من 30 انتهاكاً بيئياً ارتكبتها عشرات شركات النفط والغاز ما بين أيام الازدهار في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الى حين انزلاق البلاد إلى حرب أهلية في عام 2014. وتقدم المقابلات التي أجراها فريق التحقيق الصحافي مع السكان المحليين والخبراء والمسؤولين، بالإضافة إلى مراجعة سجلات المحكمة وتقارير أخرى تتعلق باستخراج النفط والغاز، صورة مماثلة عن هذه الممارسات.

سُلِّم التقرير إلى المشرعين نهاية عام 2014 عندما بدأت البلاد تنحدر إلى حرب أهلية. وما زال التقرير حبيس الإدراج منذ ذلك الحين بينما غادرت شركات نفط كثيرة البلاد مع تردي الأوضاع الامنية. وتظهر تقارير OCCRP، أن الشركات الحكومية التي استحوذت على الصناعة من الشركات الأجنبية، متهمة الآن بمواصلة الدمار. في  إحدى الحالات، يقاضي الرئيس السابق للهيئة العامة لحماية البيئة في اليمن د. عبد القادر الخراز، شركة حكومية بسبب الآثار الصحية المستمرة على الناس في المنطقة. 

يقول درهم أبو حاتم، مدير عام البيئة والسلامة في وزارة النفط والمعادن اليمنية لـ OCCRP، “إن الشركات عندما تحفر في أي دولة من دول العالم تكون عندها لوائح تنظيمية وخوف على سمعتها. ولكن عندما تعمل في دولة القانون عندها ضعيف تأخذ الشركات راحتها”، بخاصة أنه آنذاك لم تكن هناك لوائح وضوابط لتنظيم الأثر البيئي لعملية التنقيب.

كتب التقرير المؤلف من 147 صفحة، د. محمد الحيفي، أستاذ البيئة المشارك في جامعة صنعاء، وراجعه المهندس علي عبدالله الذبحاني، مدير عام السلامة الكيميائية والنفايات الخطرة في وزارة المياه والبيئة. وقد كلّفهما البرلمان في ظل تزايد الشكاوى بشأن مخالفات في قطاع استخراج النفط والغاز. وبحسب الصور الملتقطة والتحليلات  لعينات المياه والهواء وعمليات التفتيش وشكاوى المواطنين، يصف التقرير الحوادث التي تورطت فيها أكثر من 12 شركة نفط دولية، فضلاً عن شركات ومقاولين محليين. 

مثلاً، شركة النفط الكندية “نكسن” –  التي كانت تعمل حتى عام 2015  بالقرب من قبيلة بن هوطلي، متّهمة بـ “التهور والإهمال المتعمد في تلويث البيئة بسوائل الحفر”، وفق ما ذُكر في التقرير البرلماني. وخلص التقرير إلى أن حجم التلوث وتكراره “يشيران إلى الإصرار المتعمد على ارتكاب جرائم ضد البيئة”.  

تظهر صور التقطها فريق الصحافيين العاملين مع occrp نهاية عام 2021 لمواقع حفارات “نكسن” بالقرب من المكان الذي يعيش فيه بن هوطلي، وهي منطقة تُعرف بإسم قطاع 51،  كميات كبيرة من السوائل الداكنة تتجمع بين رمال الصحراء. في عام 2015، اشترت CNOOC الصينية شركة “نكسن”. 

صور من التقرير البرلماني تظهر تلوث سوائل الحفر في  قطاع 51 الذي كانت تديره شركة نكسن
المصدر: تقييم الوضع البيئي والصحي والاجتماعي للتلوث الناجم عن قطاع النفط والغاز في محافظتي حضرموت ومأرب بالجمهورية اليمنية – دراسة مقدمة للجنة البيئة والصحة في مجلس النواب

بدلاً من معالجة نفايات الحفر بشكل صحيح، اختارت “نكسن” الخيار “الرخيص والسهل”  المتمثل في خلط سوائل النفط ببساطة في التربة وتركها في حفر مفتوحة، كما قال د. عبد الغني جغمان، الخبير الجيولوجي الذي عمل في وزارة النفط اليمنية في أوائل عام 2000 ، بعد مراجعة التفاصيل الواردة في التقرير. 

وقال د. جغمان الذي راقب عمل شركات النفط خلال فترة عمله في الوزارة، في مقابلة مع occrp، إن “نكسن” كانت مهملة بشأن طريقة التخلص من سوائل الحفر أو معالجتها”. وأضاف قائلاً: “شركة نكسن لم تكن وحدها، ولكن حتى الشركات الأخرى العاملة في اليمن”. 

ولفت علي الذبحاني، الرئيس السابق لإدارة النفايات الخطرة في وزارة البيئة، الذي راجع التقرير قبل تقديمه إلى البرلمان، لـ OCCR، إن التقرير لا يظهر فقط “تهور شركات النفط وإهمالها”، ولكن أيضاً فشل السلطات اليمنية في تطبيق التعليمات بشكل صحيح. 

بحسب ياسمين الأرياني، المديرة التنفيذية للإنتاج المعرفي بمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، والتي سلطت الضوء على تحديات قطاع النفط في دراسة لها عام 2020، فإن اندلاع الحرب الاهلية في اليمن عرقلت بصورة أكبر جهود إصلاح القطاع. وقالت الارياني لـ occrp، “إن الظروف اليوم أصبحت أكثر صعوبة  لسن آليات المساءلة”.

بعد دعم موازنة الحكومة اليمنية لعقود، أصبحت أرباح النفط الآن تشكل مصدر دخل للفصائل المتحاربة في البلاد. ولا يزال المواطنون مثل الشيخ الهوطلي يعيشون مع هذه التداعيات. ومثل كثيرين في المنطقة، يلقي الشيخ بن هوطلي باللوم على التلوث النفطي في انخفاض غلة المحاصيل في منطقته وارتفاع الأمراض مثل السرطان وأمراض الكلى.

ويتحسر قائلا: “أرضنا لم تكن أبداً هكذا. لقد كانت مثمرة والآن أصبحت قاحلة ولا فائدة منها”.

لم ترد وزارة النفط والمعادن على أسئلة أرسلها فريق الصحافيين الاستقصائيين حول ما وثقوه وكشفوه. ويقول المسؤولون الذين حاولوا محاسبة الشركات إنه تم إسكاتهم. 

وقال رئيس سابق لهيئة حماية البيئة اليمنية، إنه استُهدف بعد تحدّيه شركة “صافر” لعمليات الاستكشاف والإنتاج التي تديرها الدولة بشأن سجلها، ومنذ ذلك الحين رفع دعوى قضائية ضد الشركة وفرّ من البلاد.  وقال مسؤول كبير آخر في هيئة حماية البيئة، إنه طُرد أيضاً العام الماضي بعد تحدّيه شركات النفط والسلطات. 

القطاع 14 

بعد اكتشاف النفط في اليمن في منتصف ثمانينات القرن العشرين، توافدت مجموعة من الشركات الأجنبية على البلاد للحصول على مناطق الامتياز التي قسمتها الحكومة الى “قطاعات” بموجب اتفاقيات مشاركة الإنتاج، والتي منحت الشركات حقوق التنقيب عن النفط بشرط أن تتقاسم الإتاوات مع الدولة.  

في ذروة الإنتاج في أوائل عام 2000، كان اليمن يضخّ 450,000 برميل يومياً. وقبل اندلاع الحرب، كانت عائدات النفط والغاز تمثل نحو 70 في المئة من ميزانية الدولة.  

كانت “نكسن”، التي كانت تُعرف سابقاً باسم أوكسيدنتال بتروليوم الكندية، واحدة من أوائل الشركات التي عثرت على النفط في عام 1991. وبحلول أوائل عام 2000، كانت تدير قطاعين في محافظة حضرموت.  لم يمض وقت طويل قبل أن يبدأ السكان المحليون في الشعور بآثار عملها. 

يفصّل التقرير البرلماني كيف انزلق ما يقدر بنحو 450,000 برميل من المياه الزيتية في آذار/ مارس 2008 من بئر تصريف في منطقة امتياز “نكسن” الرئيسية، قطاع 14، حيث تم انسكابها لمسافة نحو ثلاثة كيلومترات.  

يتذكر الزعيم القبلي عمر سعيد باعباد (75 عاماً) حادثة التسرب، قائلاً في مقابلة مع OCCRP خلال زيارة للمنطقة، إن المياه الملوثة استمرت في التدفق لمدة أربعة أيام، وغطت الكثير من مزارع المنطقة. وأضاف: “إن الأرض لم تعد كما كانت أبداً… كنا ننتج 40 إلى 50 كيساً من القمح في الموسم الواحد. أما الآن، فنحن ننتج 10 فقط ونشتري الباقي”. مؤلفو التقرير يصفون المياه بأنها “مياه مصاحبة”: سائل يتم ضخه إلى السطح إلى جانب النفط، وغالباً ما يكون ملوثاً بمواد كيميائية خطرة ، بعضها مشع.  

وأشار التقرير إلى أن الشركات في جميع أنحاء حضرموت ارتكبت “انتهاكات بيئية صارخة” عند التخلص من هذا النوع من النفايات.  

يمكن التخلص من المياه المنتجة عن طريق إعادة حقنها مرة أخرى في الحوض الذي أتت منه، ولكن يجب أن يتم ذلك بعناية لتجنب تلويث مصادر المياه الجوفية، كما أوضح د. جغمان، خبير الجيولوجيا. الخطر شديد بخاصة في حضرموت، التي تقع فوق أكبر طبقة مياه جوفية في اليمن.  

وقال د. جغمان إن “المياه المنتجة سامة، ولا يمكن استخدامها للبشر أو الزراعة ما لم تخضع لمعالجة كبيرة، وهو ما تتجنبه شركات النفط لأنها عملية مكلفة”.  

بعدما غادرت “نكسن” قطاع 14 في عام 2011، وجدت الشركة التي تديرها الدولة والتي استحوذت على قطاع ذلك الموقع، في حالة من الفوضى، وفقاً لقضية تحكيم دولية رفعتها وزارة النفط والمعادن اليمنية ضد الشركة الكندية وشركائها في باريس بعد عامين على مغادرتها اليمن. المحكمة التجارية متخصصة في فض النزاعات التجارية.

واتهم اليمن الشركات بإعادة حقن المياه المصاحبة بلا مبالاة، والفشل في مراقبة ما إذا كانت الشركات قد لوثت المياه الجوفية. واعترفت نكسن خلال التحكيم، بأنها ضخت المياه الملوثة أسفل طبقة المياه الجوفية العذبة لمدة خمس سنوات في تسعينات القرن العشرين، لكنها قالت إنها لم تسبب بأي ضرر بيئي.  

كما وصفت الوزارة في مرافعتها، أنها عثرت على آبار خطرة وناقصة، ونفايات ملقاة أو محترقة في العراء، ومحرقة نفايات مكسورة لم يتم إصلاحها منذ سنوات. وعلى الرغم من أن القوانين البيئية في اليمن كانت وقتها ضعيفة، إلا أن وزارة النفط جادلت في محكمة التحكيم الدولية الأولى بأن “نكسن” وشركاءها فشلوا في تلبية المعايير الأساسية المنصوص عليها في عقدها. 

في حين تم رفض بعض الاتهامات –  على أساس أنه تم اعتبار الادعاء حول التسبب في التلوث بالمياه المنتجة خارج إطار قانون التقادم –  أمرت المحكمة “نكسن” بدفع ما يقرب من 10 ملايين دولار على شكل غرامات لاستبدال المحرقة المكسورة  ومعدات أخرى لم تعد فاعلة، وأيضاً لدراسة تقييم الأثر البيئي التي لم تقم به الشركة قبل أن تغادر القطاع الذي عملت به.

بالنسبة الى اليمنيين الذين يعيشون بالقرب من حقول النفط في البلاد، يمكن قياس تأثير التلوث بأكثر من الدولارات. إذ أظهرت الدراسات العلمية أن العيش بالقرب من حقول البترول يرتبط بزيادة خطر الإصابة ببعض أنواع مرض السرطان. 

تظهر البيانات الصادرة عن مؤسسة حضرموت لمكافحة السرطان – المنطقة التي عملت فيها شركة “نكسن” – أن حالات السرطان تضاعفت ثلاث مرات تقريباً  بين أوائل عام 2000 وعام 2015.  وقال مديرها، الدكتور وليد عبد الله البطاطي، إنه على الرغم من عدم وجود دراسات تثبت أن التلوث النفطي تسبب في ارتفاع الأعداد، فإن المناطق القريبة من الكتل النفطية “لديها أعلى معدلات الإصابة بالسرطان مقارنة بالمحافظات الأخرى”. 

ويلقي باعباد، الزعيم القبلي الذي تلوثت أرضه، باللوم على التلوث النفطي أنه كان سبب السرطان الذي أودى بحياة شقيقه قبل بضع سنوات.  وقال للصحافيين في لقاء في منزله: “صحتنا وأراضينا كلها دمرت بسبب شركات [النفط]”.   

القطاع 18 

في المنطقة الرئيسية الأخرى المنتجة للنفط في اليمن، على بعد نحو 30 كيلومتراً من مدينة مأرب، يقع القطاع 18، حيث اكتشفت شركة “هنت” للنفط ومقرها دالاس في الولايات المتحدة الأميركية،  أول نفط في اليمن في عام 1984. 

يصف التقرير البرلماني انتهاكات مختلفة خلال فترة ولاية “هنت” التي استمرت 20 عاماً، تضمنت انبعاث مستويات خطيرة من أكاسيد النيتروجين في الهواء والتخزين غير السليم لمئات البراميل من المواد الكيميائية منتهية الصلاحية.  

كما وجد أن “هنت” قد دفنت مواد كيميائية في حفرة في الصحراء إلى جانب نفايات الحفر، ويُزعم أنها حاولت دفن “كمية لا يستهان بها من نفايات الحفر” في موقع آخر قبل أن يوقفها المسؤولون المحليون في منتصف الطريق.  ورفضت “هنت” التعليق على ما ورد في التقرير.  

خرجت “هنت” من قطاع 18 في عام 2005 بعدما رفض البرلمان تجديد عقد الامتياز.  لكن شركة صافر لعمليات الاستكشاف والإنتاج (SEPOC) التي تديرها الدولة، والتي استحوذت عليها،  متهمة بمواصلة إرث شركة “هنت”.

إرث مدمر

في عام 2018 ، تلقى د. عبد القادر الخراز، الذي كان آنذاك رئيس الهيئة العامة لحماية البيئة في اليمن، شكوى مفادها أن الشركة الحكومية “صافر” دفنت نفايات كيميائية خطرة من إحدى وحدات المعالجة التابعة لها في الصحراء. بعد أقل من عام، تلقت الهيئة نفسها شكوى أخرى مفادها أن الشركة كانت تخزن المواد الكيميائية بشكل غير صحيح، ما يجعلها عرضة للعوامل الجوية، في تهديد للمنطقة المحيطة. 

بعد فشل جهوده المتعددة للحصول على تعاون من شركة “صافر”،  رفع د. الخراز دعوى قضائية في عام 2020 متهماً الشركة بدفن المواد الكيميائية الخطرة ونفايات الحفر، وطالبها بتعويض نيابة عن العشرات من مرضى السرطان. 

يدعم د. الخراز ادعاءاته أمام المحكمة بنتائج تحليل 65 عينة تربة أخذها من مواقع مدافن النفايات والقمامة المختلفة في قطاع 18 الذي تديره “صافر”، وقطاعان مجاوران على مدار سنوات عدة.  وكشفت الاختبارات المعملية أنها تحتوي على جزيئات هيدروكربونية متطايرة ومعادن يمكن أن تسبب السرطان، مثل الكروم والنحاس والنيكل والرصاص بمستويات أعلى من الحدود الدولية المسموح بها.

في إحدى العينات، كان مستوى الرصاص أعلى بأكثر من 120 مرة  من المعيار الدولي المستخدم في المختبر، بينما كان الزنك أعلى 32 مرة.  

كما وزع الخراز استبياناً عام 2020 على عينة عشوائية من 51 شخصاً في حريب، وهي مدينة بالقرب من القطاع الذي أخذ عينات منه، ووجد أن ما يقرب من ثلثيهم يعانون من السرطان، وأكثر من 17 في المائة يعانون من أمراض الصدر والجهاز التنفسي. وكان معدل الإصابة بسرطان الدماغ أعلى بين الأطفال بحسب ما وثّق. 

وفي تصريحات لـ OCCRP، نفت “صافر” دفن أي مواد خطرة في موقعها أو انتهاك قانون البيئة اليمني الذي يعاقب على التلوث المتعمد الذي يضر بالبيئة بالسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات.  ورفض المتحدث باسم “صافر” التعليق على دعوى د. الخراز التي ما زالت تراوح مكانها في أروقة المحكمة.

وقالت الشركة إنه منذ تولّيها القطاع 18، اتخذت تدابير لحماية البيئة، مثل تبطين حفر النفايات وحماية إمدادات المياه من خلال تدعيم أفضل للأنابيب تحت الأرض.    

صناعة النفط “خط أحمر” 

توقفت الإجراءات القانونية التي اتخذها د. الخراز ضد “صافر” في المحاكم منذ عام 2020 ، حيث يطعن محامو الشركة في التفاصيل الفنية بينما تنحى القاضي الأصلي في القضية عن منصبه في ذلك العام، ورفض قضاة آخرون إعادة فتح القضية.   

وفي الوقت نفسه، قال د. الخراز إنه قوبل بحملة ترهيب. ففي أيلول/ سبتمبر 2019، بعد بضعة أشهر من تقديم شكواه الثانية على “صافر”، استُبدل د. الخراز كرئيس الهيئة العامة لحماية البيئة.  وعندما رفع القضية ضد “صافر” في العام التالي، طلب محامي الشركة من النيابة التحقيق معه بتهمة الإخلال بالسلام والإضرار بالمصلحة العامة.

في مرحلة ما من التقاضي، طلب د. الخراز الحماية بعدما أخبر محامي “صافر” المحكمة أن السكان المحليين عرضوا على الشركة منعه من رفع قضية ضد شركة النفط. وقال د. الخراز إنه ينظر إلى التعليقات على أنها تهديد. 

يقول د. الخراز إنه فر في نهاية المطاف من اليمن بعدما تصاعدت التهديدات ضده، والتي بدأت “كنصيحة” من الأصدقاء ثم تطورت إلى الترهيب اللفظي، بما في ذلك من مسؤول حكومي تحدث إلى والده. ويعتقد د. الخراز أن حادثة قصف منازل العائلة في مأرب بصواريخ الدبابات في 9 أيلول 2021  بعد شهر على مغادرته البلاد، “إنما هو تنفيذ للتهديدات التي يتعرض لها بسبب ما كشفه حول الموارد النفطية في القضية التي رفعها ضد الشركات النفطية المتعلقة بالتلوث النفطي ومطالبته بوقف عمليات دفن المخلفات الخطرة ومعالجة مرضى السرطان بالمنطقة وتعويضهم” على الرغم من أن OCCRP لم تجد أي دليل يؤكد ذلك.

ويظهر مقطع فيديو تم تصويره في مضارب آل الخراز، قيادات الجيش في محافظة مأرب يزورون الديوان بعد التوصل الى صلح عشائري مع وجهاء العائلة، مقرين بتعويض عن الخسائر. ونفى متحدث بإسم  قائد اللواء 14 التابع للحكومة المعترف بها دولياً، مزاعم د. الخراز بأن قصف منازل العائلة “كان بناء على أوامر وصلت القيادة المحلية من جهات داخل الدولة”. 

وقال المتحدث لـ occrp، إن “كل ما ذكرتم في رسالتكم مجانب للحقيقة. قضية الأخ محمد الخراز تم تحكيمه فيها بإشراف وجاهات قبلية، وتم تعويض الأخ محمد الخراز بما حَكم به وقد تنازل عن القضية برضاه وبعد استلام التعويض وكتب أنه لم يبق له أي دعوى أو طلب في الحكم الموجود لدينا”. 

وقال د. الخراز الذي يمضي الآن غالبية وقته متنقلاً بين عدد من الدول العربية والأجنبية: “إن الأشخاص النافذين في الحكومة وشركات النفط يحمون مصالحهم من خلال منع التدقيق الفعال في قطاع استخراج النفط”. 

وقال محمد سالم مجور، مدير مكتب الهيئة العامة لحماية البيئة في محافظة شبوة الغنية بالنفط، إنه تم إقصاؤه من الوظيفة أيضاً بعد محاولته كشف التلوث في منطقته.  

في عام 2020، بدأ مكتبه في توثيق التلوث الذي تقوم به شركات النفط الأجنبية والمحلية العاملة في المنطقة. وشملت هذه الانتهاكات الفشل في وقف تسرب النفط المتكرر وبكميات كبيرة من خط أنابيب تديره الشركة اليمنية للاستثمارات النفطية والمعدنية التي تديرها الدولة، ومعالجتها بشكل صحيح. 

ولم ترد الشركة على طلب occrp الحصول على تعليق.

وكتب مجور في بيان عام نشر في نيسان/ أبريل 2022، “أنه سرعان ما تم تحذيرنا من بعض السلطات بخطورة ذلك الملف، لأنه ظل لسنوات سابقة  “خطاً أحمر” بعيداً من الرقابة لارتباط القطاعات النفطية بقوى نفوذ تتحكم بها وتحمي تلك الشركات العاملة فيها”.

وبعد شهرين، كتب  مجور رسالتين إلى محافظ المنطقة يزعم فيها أن مبعوثه أصدر تعليمات إلى الهيئة العامة لحماية البيئة بعدم اتخاذ إجراءات قانونية ضد شركات النفط أو الإضرار بسمعتها.  وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، تم استبعاد  مجور. 

لم يرد مكتب محافظ شبوة على طلبات متكررة للتعليق.

أبرز مجور نسخة لشكوى الفصل التعسفي التي رفعها لدى مفوضية حقوق الإنسان اليمنية، التي أكدت استلام الشكوى لكنها لم تعط المزيد من التفاصيل. وقال مجور في مقابلة مع occrp  في شهر آذار/ مارس، إن مشكلة التلوث النفطي لم تحل بعد. “التربة الملوثة ما زالت هناك، وعندما تتساقط الأمطار تجرف التربة للمناطق الزراعية”. 

عودة  الشركات الى اليمن

على الرغم من أن غالبية شركات استكشاف النفط الاجنبية العاملة في اليمن غادرت بعد بدء الحرب أو أوقفت انتاجها بسبب التحديات الأمنية، إلا أن بعضها عاد للعمل. في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، زار صحافيون محليون يعملون مع occrp على هذا التحقيق الصحافي الاستقصائي، منطقة قطاع 9 في حضرموت، حيث كانت تدير العمليات وقتها شركة  “كالفالي بتروليوم”- قبرص.

وقال الشيخ عبدالله مبارك بن بدر الذي يقيم في منطقة قريبة من نطاق عمل الشركة، إنه “عندما تسقط الأمطار تتراكم مادة سوداء تحت أشجار النخيل”. وتابع: قبل أشهر، جرفت الفيضانات هذه المياه الملوثة من الموقع النفطي إلى الوادي. 

واعترف المتحدث باسم كالفالي بالحادث، وقال إن الشركة دفعت تعويضات من خلال عملية رسمية تقودها الحكومة للسكان الذين تضرروا من التسرب الذي جاء من الحفر المفتوحة التي غمرتها الأمطار الغزيرة.  وأشار المتحدث الى أن الحادث كان بسبب “فيضان استثنائي”. 

خلال الزيارة ، شاهد الصحافيون حفرة ترابية منفصلة للمياه المنتجة داخل موقع “كالفالي”، وتفتقر إلى أي بطانة. كانت محتويات الحفرة تتدفق إلى الأرض المحيطة من خلال كوة في جدار منهار. 

وقال المتحدث باسم الشركة إن هذه البركة شُيدت قبل صدور لائحة تنظيمية عام 2010، تتطلب الآن وجود طبقات واقية للمياه المنتجة وألا علاقة لها بأحدث تسرب. وأضاف أن خطط “كالفالي” لإصلاح الحفرة قد تعطلت بسبب الحرب. 

ولفت المتحدث، “سيتم ذلك بمجرد أن تتمكن الشركة من استعادة الإنتاج ويسمح الوضع الأمني في اليمن لشركات الخدمات الدولية بالعودة إلى اليمن”.  

اشترك بنشرتنا البريدية