fbpx

قائد الأوركسترا بين شهوة الإبداع وغواية السُلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“قائد الأوركسترا” هو أولاً وأخيراً موسيقي مؤدٍّ أو عازف، لكنه لا يعزف على أي آلة موسيقية. آلته هي يداه المُنسجمتان مع بقية أجزاء جسده وتعبيرات عضلات وجهه. يُمسك في إحدى يديه عصا صغيرة ورفيعة يُحركُها بمسارات راقصة صعوداً ونزولاً أو جانبياً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عادةً عندما نقرر أن نستمع حضوراً إلى حفلة موسيقية لأوركسترا سمفونية تعزف عملاً موسيقياً، نرى شخصاً- رجلاً أم امرأة- واقفاً وظهره للجمهور مواجهاً الأوركسترا. يُمسك بيده عصا صغيرة يحركها في اتجاهات مختلفة، صعوداً نزولاً جانبياً أم دائرياً… يبدو لنا أنه مهم جداً للموسيقيين على رغم أنهم بالكاد ينظرون إليه! هو أو هي ما يُتعارف عليه بالتسمية conductor/ derigure/ derigint وفي الترجمة الصحيحة هو المُوجّه أو الموصل او المرشد الفني للأوركسترا… ولكن الترجمة إلى اللغة العربية أتت على ضرب من المبالغة لتستوي على كون هذا الشخص هو “قائد” الأوركسترا.

من الضروري أن نسلط الضوء بشكل مختصر على هذا الشخص “قائد الأوركسترا” بدءاً من المهمات الملقاة على عاتقه في عملية الإبداع الموسيقي، ومروراً بطبيعة هذه المهنة الفنية وكيف وأين نشأت وتطورت، وانتهاءً بإشكاليات ممارستها حيث نصل في الجزء الثاني من مقالي إلى البحث عن تموضع هذه المهنة في بلاد العرب وجدوى أو عدم جدوى وجود قائد للفرقة الموسيقية العربية التي تعزف من خزانة الموسيقى العربية حديثة كانت أم تقليدية، غنائية أو آلية. 

“قائد الأوركسترا” هو أولاً وأخيراً موسيقي مؤدٍّ أو عازف، لكنه لا يعزف على أي آلة موسيقية. آلته هي يداه المُنسجمتان مع بقية أجزاء جسده وتعبيرات عضلات وجهه. يُمسك في إحدى يديه عصا صغيرة ورفيعة يُحركُها بمسارات راقصة (Choreographic gestures) صعوداً ونزولاً أو جانبياً. مجموع هذه الحركات يشكِّل لغة متكاملة يفهمها العازفون الموسيقيون في الأوركسترا. هي لغة غير كلامية بل لغة تعتمد الإشارات والرموز ومن خلالها يتم تنفيذ مجموعة من المهمات الحيوية والضرورية لإيصال التأليف الموسيقي والمكتوب بأسلوب أوركسترالي.

من هذه المهمات مثلاً، ضبط الإيقاع والصوت المُوَحد لمجموع العازفين في الأوركسترا، وجعلهم يعزفون بانسجام وكأنهم صوت في جسد واحد يتنفس ويتحرك بطريقة مُوَحّدة. ومن مهماتهِ تحديد نسبة التسارع أو التباطؤ في نبض الموازين الإيقاعية المتغيِّرة في متن النص الموسيقي، وتحقيق التوازن بين مختلف الآلات الموسيقية على أنواعها من حيث عُلوّ الصوت أو انخفاضه، أو لناحية كثافة اللون النغمي الأساسي في انصهاره مع بقية النغمات المرافقة، بهدف وصل الجُمل اللحنية بعضها ببعض، لتشكيل الفكرة الموسيقية وتطويراتها الدرامية المختلفة. وثمة الكثير من المهمات التفصيلية ملقاة على عاتق هذا الشخص، لا مجال لتعدادها هنا في عجالة هذا المقال. ولكنني إذا أردتُ أن أُلخص وأُكثف المغزى الحقيقي من وراء ضرورة وجوده وأهمية دوره، فلعلي أقول إن مهمته الأساس والأسمى هي ترجمة الرؤية الفنية/ الجمالية والفكرية للمؤلف، كاتب النص الموسيقي وإيصالها إلى المستمع بأمانة وصدق، ويعني ذلك قراءة العمل الموسيقي قراءة تأويلية منطلقاً من أصالة العمل في ظروفه التاريخية ومناخات عصره الفني ومترجماً بذلك حرفياً رؤية المؤلف الموسيقي وأفكاره التي أراد بثّها من خلال عمله إلى جمهور المستمعين.

قد ينجح “قائد الأوركسترا” وقد يفشل في قراءته التأويلية، وقد يتعثر أو قد لا يقدم أي جديد. كل هذا يعتمد على مهاراتهِ المُكتسبة عبر دراسة أكاديمية تزوده بقدرات تقنية في لغة الإشارات وفي العلوم والنظريات الموسيقية وتاريخ الفن وعلم الجمال، وخبرات متراكمة في العمل الجَماعي الواعي والمرن مع العازفين في الأوركسترا. لذا فهو يدرس في المعاهد الموسيقية كما كل الموسيقيين. وهي دراسة لم تكن قد اكتملت أسسها النظرية والتطبيقية قبل القرن السابع عشر، ومع أن الدراسات التاريخية تلحظ أن هذا النوع من المهمات بدأ يظهر في القرن الخامس عشر، في إطار الغناء الكنسي مع بروز الحاجة إلى شخص يُنسق مجموعات الغناء الحر المُتفلِّت من دون إيقاع ثابت. وقد كبرت هذه الحاجة في القرن السادس عشر مع تطور الكتابة البوليفونية والهارمونية في الغناء الجَماعي وانضمام مجموعات الآلات الموسيقية المختلفة إلى جوقات الغناء، وبعد أن أُدخلت إلى هذه الآلات بمجملها تعديلات جذرية أدت إلى اتساع مداها الصوتي وازدياد قدراتها التقنية، وبنتيجة هذا أيضاً، تطورت الكتابة التأليفية لهذه الآلات وتنوّعت شكلاً ومضموناً. 

من رحم هذا التطور البطيء والذي دام قروناً تخلله نشوء فن الأوبرا وطغيانه في القرن التاسع عشر ووصول التأليف السيمفوني إلى مراتب عالية ومعقدة مع بدايات القرن العشرين، وفي خضم كل هذا المشهد وُلدت مهنة “قائد الأوركسترا”، وبرز دورهُ كعامل محوري وحيوي في أي عمل يُكتب للأوركسترا السمفونية أو للأوبرا أو للباليه، وأصبحت هذه المهنة في درجة كبيرة من الأهمية، إذ تتطلب دراسةً خاصة في المعاهد الموسيقية العالية.

في سعي “قائد الأوركسترا” إلى تنفيذ عمل موسيقي، يستعمل لغة غير كلامية وهي لغة الإشارات أثناء الحفلة لكنه أثناء التمارين اليومية مع الموسيقيين بجانب هذه اللغة يستعين بشروحات كلامية مجازية من أجل توضيح أفكاره التأويلية للعازفين وحثهم على التعاون الجماعي معه وفي ما بينهم. وفي سعيِهِ هذا تنشأ علاقة فنية- وجدانية بينه وبين النص الموسيقي الذي بدوره يتحول أثناء التمارين إلى كائن مُتحرك ومُتَغيِّر له قوام وانسجة وشرايين وقلب وذُروة ومسار. وكل التحدي والحِرَفية يكمان في أن يبث قائد الأوركسترا في هذا الكائن حياةً بعقول الموسيقيين والعازفين ووجدانهم، إذ يكون لهم الدور الأساسي والنهائي في إنضاج العمل وجعله يرقى إلى مصاف العمل الفني الجميل. ومن ضمن هذا التحدي والحرفية تقع مسؤولية إنجاح العمل برمته على طرفي المعادلة. الطرف الأول أي قائد الأوركسترا الذي عليه أن يكون مُقنعاً إلى الحد الأقصى بكفاءته الأكاديمية وقدراته التقنية وأن يتصف بالتوازن النفسي والأخلاقي ويتحلى بالسلوك المهنيّ السويّْ غير الجارح والمهين للموسيقيين. فيما الطرف الثاني من المعادلة أي مجموع العازفين الموسيقيين الذين تقع على عاتقهم مسؤولية إتقان أدوارهم الموسيقية والانضواء تحت راية العمل الجماعي والتقيُّد التام بأفكار “قائد” الأوركسترا وتوجيهات.

إنّ نجاح أي عمل موسيقي في الأوركسترا يكمن في خلق هذا الجو من التعاون والثقة المتبادلة بين طرفي هذه المعادلة.

وقد شهد تاريخ الأوركسترات السمفونية الكبيرة والعريقة في أوروبا خصوصاً وفي الغرب عموماً، صراعات محمومة وخفية بين العازفين الموسيقيين كجسم عضوي واحد من جهة وبين قواد هذه الأوركسترات من جهة ثانية، واتسمت العلاقة بينهما في النصف الأول من القرن العشرين بمنسوب عالٍ من التوتر والنفور إلى حد تَعطُّل مسارات الإبداع أحياناً وانحسارها إلى حدودها الدنيا. ولوقتٍ طويل، ونظراً إلى ندرة وجوده وضرورتهِ معاً، ظل قائد الأوركسترا متربعاً على رأس الأوركسترا بصورة الرجل الدكتاتور الذي لا نقاش معه إطلاقاً، فهو من يقرر ويحسم في كل الأمور التقنية والإدارية والفنية، صارخاً في وجه العازفين، آمراً ناهياً متهكماً ومتعالياً وتتحكّم بهِ عوارض متلازمة الشعور بالعظمة وتضخم “الأنا” والإدمان على ممارسة السُلطة.

التغيير أتى تدريجياً وفي سياق مجموعة عوامل مترابطة، مركبة وعميقة طرأت على المجتمع الأوروبي، بعد الحرب العالمية الثانية والصدمة التي حدثت من جرائها، وغيَّرت في طبيعة علاقة الفرد والمجموعات البشرية الأقلوية والتي تحمل صفات اجتماعية، ثقافية أم مِهنية، بالسلطة والاعلام والفن والثقافة.

أما اليوم فنرى صورة مغايرة تماماً، ليس فقط من ناحية مأسسة الأوركسترا وتفريع أجهزتها واختصاصاتها، بل والأهم لناحية إيلاء أهمية قصوى لعلاقة إنسانية متوازنة وصحية بين مجموع العازفين في الأوركسترا وبين الموجه الفني لها أي “القائد”، عبر ضوابط تحكمها قوانين المهنة وأخلاقياتها. وقد شهد الربع الأخير من القرن العشرين انتشاراً كبيراً للأوركسترات الموسيقية المتنوعة وتَوَفُّر أعداد كبيرة من قواد الأوركسترا، ما خلق جواً من التنافس للحصول على فرصة لقيادتها. كما ساهم انهيار الدول الشمولية والانفتاح ودمقرطة التعليم والليبرالية الجديدة ونشوء الاتحادات الفنية التي تحمي حقوق الموسيقيين إلى اعتدال العلاقة بين الجسم اللأوركسترالي وبين المُوَجِّه الفني (القائد) وتخفيف من غلواء وتعسف سلطة هذا الأخير الذي أصبح تعيينه مرتبطاً برغبة أكثرية أعضاء الأوركسترا ورضاها، عبر التصويت.

لم تحظ الموسيقى العربية/ المشرقية بهذا المسار التطوري الذي حظِيَت به الموسيقى الأوروبية والغربية. وطبعاً لا أقول إن هذا عيباً أو نقيصةً أصابت أو تُصيب الموسيقى العربية/ المشرقية، التي لا شك في أنها مرت بمراحل سبات طويلة منذ القرن الخامس عشر إلى اواخر القرن التاسع عشر حيث بدأت تلوح في الافق ملامح نهضوية على صعيد هذه الموسيقى. وعلى رغم التطورات المهمة، وهي كثيرة، التي استجدت على صعيد الموسيقى العربية منذ بدايات القرن العشرين إلى يومنا هذا، إنما بقيت الخصائص والصفات البنيوية الاساسية لهذه الموسيقى ملتصقة بها لا تنفك عنها، وتعطيها طابعاً ومساراً مختلفين. وأقصد بهذه الخصائص بالتحديد الطابع المونودي (اي اللحن الأفقي الواحد) والغنائي، وكما لناحية أشكال التأليف البسيطة وأسلوب الأداء الموسيقي الأحادي (unison) وأسلوب الارتجال والتقاسيم. لم يشعر الموسيقيون النهضويون في ذاك الوقت بأنهم في حاجة إلى أكثر من التخت الشرقي التقليدي في آلاته الخمس ليؤلفوا موسيقاهم التي اتخذت الشكل الغنائي والاداء المونودي لمجموعة الآلات وعلى رأسها المُغني/المُطرب. لهذا السبب ولأسباب أُخرى أيضاً قد يطول شرحها هنا، بقيت الآلات الموسيقية العربية كالعود والناي والقانون والإيقاع على حالها، من دون أيّ تطويرات جوهرية، كما بقيت أشكال التأليف وأساليبها أيضاً على ما كانت معروفة به سابقاً وإن دخلت عليها بعض التغيُّرات الشكلية والطفيفة. أما الفِرَق الموسيقية فقد أكثَرَت من عددها وأُدخل عليها بعض الآلات الغربية ولكن من دون المساس بطُرق فنون الأداء وأساليبها. في المُحصلة لم تتوافر تاريخياً معطيات علمية لتشَكُّل أوركسترا مشرقية/ عربية، بالمعنى والمفهوم الغربيين وبالتالي لم يحظَ مُوَجِّه أو “قائد” الأوركسترا بمبررات وجودهِ الطبيعية كمهنة ضرورية وحيوية في الإبداع الموسيقي العربي. أما وقد وجد وأصبح واقعاً، فلهذا أسباب كثيرة متداخلة فيها الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي معاً.

نقول كل هذا باختصار شديد قبل أن نعود إلى المقصد الأساس ألا وهو “قائد الأوركسترا”، لنحاول التقصّي عن الزمن التي أُدخل إلى اللغة العربية مصطلح لاتيني وهو ( Orchestra Conductor)، فتُرجم ليصبح “قائد الأوركسترا”… في الوقت عينه تُرجم في العلوم الطبيعية مصطلح (Conductor) على أنه “موصل” أي الشيء أو الشخص الذي يوصل بين نقطتين متباعدتين، فيجعل بينهما مجالاً موصولاً ومتفاعلاً في كلا الاتجاهين. والنقطتان في مجال حديثنا هنا هما: المؤلف الموسيقي من جهة والأوركسترا كجسم عضوي موحد من جهة ثانية، أما وسيلة التفاعل بينهما فيتولاها الموصل أو المُوَجِّه الفني الذي يُدير عمليات الإيصال والتفاعل. وفي العودة إلى كلمة “قائد” وهي في أصلها اللاتيني (Leader)، القائد يتصدَّر مجموعة قد تكون شعبية أو حزبية أو حتى قومية. وهو قد يكون زعيماً لقبيلة أو عائلة ما، كما قد يكون قائداً عسكرياً أم مدنياً لبلد ما.

ثمة حاجة ملحة لنبحث في موضوع اللغة وعلاقتها بهذه المهنة المُستجدة في الحياة الموسيقية منذ خمسينات القرن الماضي، والتي بدأت تنمو وتزدهر أكثر في بداية ثمانينات القرن ذاته ومع نشوء الأوركسترا السمفونية في بلاد العرب (مشرق ومغرب وخليج عربي).

لم يخلط الغرب في صياغة مصطلحات واضحة لمفاهيم وقيم ومهن. ففي الموسيقي وهو شأن إبداعي بامتياز، صاغ الغرب مفاهيم واصطلاحات واضحة وفصل بين مهمات القائد بالمعنى العام الدال على شأن اجتماعي أو سياسي وحتى اقتصادي، وبين المدير الفني المهني/ الموسيقي والاحترافي في مجال إدارة الأوركسترا. فالفرق شاسع وكبير بين كلمة القائد وبين المُوصل أو المُوَجّه.

أزعم أن ثمة سوء فهم كبيراً وعميقاً حصل عند شعوب العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين في ما يختص مهنة الإدارة الفنية للأوركسترا السمفونية، وأزعم أن سوء الفهم هذا قد يكون بدأ مع شيوع تعريب هذا المصطلح الفني وتثبيته بالـ”قائد” لحظة اصطدام الوعي العربي الثقافي-الموسيقي بالحداثة الغربية وتأثره بها. في الوقت ذاته كانت التحولات الاجتماعية والسياسية في الدول العربية الناشئة حديثاً تعاني من قصور في البُنى الاجتماعية مترافقة مع هزائم سياسية وعسكرية وإرهاصات ناتجة عن القمع والكبت على كل صعيد في هذه المجتمعات. وما كلمة “القائد” هنا للأوركسترا إلاّ إسقاط مؤسف ومُرعب على الثقافة والتعبير الموسيقي الإبداعي.

فالوعي الجمعي للشعوب العربية يفهم القائد كونه: شيخ العشيرة أو كبير العائلة، زعيم المافيا، أو رئيس الحزب الاوحد صاحب السُلطة المُبجَّل، المُطاع، المعصوم، والخالد إلى الأبد…

في ظل هذه الأجواء المُلتَبِسة ولدت مهنة جديدة في المجال الفني الموسيقي وهي “قائد الأوركسترا”، وهي تعاني تشوهات جنينية نمت في ظل مجتمعات ممزقة اجتماعياً سياسياً وثقافياً وما زالت تنمو وتترسخ في نفوس الأفراد والمؤسسات العاملة في المجال الموسيقي وممارساتهم.

وربما أول من افتعل صورة شخص يُدير أوركسترا، كان الملحن والمطرب محمد عبد الوهاب في أغنية سُمِّيَت “أوبريت الوطن الاكبر”… حيث نرى عبد الوهاب يعتلي منصة “القائد” ليدير ما يُشبه أوركسترا مع جوقة اصوات كبيرة. يُمثل عبد الوهاب دور “قائد الأوركسترا” بتحريك يديه صعوداً ونزولاً بما لا يتناسب اطلاقاً الإيقاع والنبض الصحيحين للموسيقى… وأسارع للقول إنني لا أدخل بتاتاً في تقييم فني لهذه الاغنية “الاوبريت” أو لصاحبها وتراثه الفني. فقط أحصر الموضوع في كون المشهد كله، أي مشهد ” قيادة” الأوركسترا من قِبل عبد الوهاب لم يكن سوى تمثيل (representational) لكل المشهد السياسي وقتها وإسقاط اجتماعي/ نفسي يُعبِّئ الجماعة ضد العدو بقيادة القائد السياسي والعسكري والأخ الأكبر: “جمال عبد الناصر” والذي يرتدي العباءة القومية من أجل “التحرير” وبناء “الدولة الحديثة”. أما القائد الثقافي والفني “قائد” الأوركسترا، المحافظ على الأصالة والداعي إلى “التجديد”، فكان محمد عبد الوهاب الذي مُنح في أواخر حياته رتبة لواء في الجيش المصري. 

[article_gallery]

وأكاد أجزم بأنه ومنذ ذلك التاريخ أي تاريخ بث هذه الأغنية على الشاشات العربية، بدأ سوء الفهم يكبر ويتعمَّق في موضوع ماهية مهنة التوجيه الأوركسترالي ونوعية مهمات الشخص المولج بإدارتها الفنية. وقد تطور سوء الفهم هذا في وقتنا الحالي ليصبح على شكل تشوهات نفسية وفراغات معرفية كبيرة في وعي المُشتغلين في مهنة الموسيقى، وأيضاً في وعي جمهور المستمعين، وهو الأخطر برأيي! 

لقد ألهمت هذه الأغنية “الأوبريت” ليس جماهير الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج فقط، بل أيضاً الكثير من الموسيقيين الذين حلِموا بالتمثُّل بشخصية القائد العظيم وسعوا إلى لعب دور القائد المُخلِّص “عبد الناصر/ عبد الوهاب” من خلال “الترقي” من صفة الموسيقي إلى صفة القائد للأوركسترا العربية المُتوَهَّمة. فها هو عبد الحليم حافظ أيضاً يأخذ المبادرة ويشرع في لعب دور القائد لفرقته الموسيقية المُكتظة بأعداد الموسيقيين يعزفون بطريقة احادية (unison) أثناء تأديته أغانيه العاطفية.

ولكن أول تكريس رسمي وعملي لفكرة قائد الأوركسترا عربياً أتى من موسيقي مصري هو عبد الحليم نويرة الذي أسس فرقة “الموسيقى العربية لإحياء التراث” سنة 1968 اختصَّت بغناء الأدوار والموشحات والقصائد العربية. وإذا اعترفنا بأنّ الفضل يعود لهذه الفرقة في إعادة تقديم وتسجيل التراث الغنائي بشكل أفضل لناحية انضباط الأداء الموسيقي للعازفين واعطاء مساحة أكبر لغناء المجموعة على حساب المغنّي/ المطرب، وإن كان غناءً مونودياً… إلاّ أنه من المفيد أن نسجّل وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه التجربة الرائدة في زمانها، أنها قد وصلت إلى حائط مسدود كونها اكتفت بالمبررات الشكلية والسطحية لوجود أوركسترا عربية بدءاً من المادة التأليفية بحد ذاتها والكتابة الأوركسترالية البدائية لها، ومروراً بالتوزيع الآلاتي المفتعل، وانتهاءً بإشكالية قيادة مثل هذه الأوركسترا… لذا فإن تجربة وجود عبدالحليم نويرة في مواجهة التخت الشرقي الموَسَع لقيادته أثناء حفلاته الأسبوعية كانت غير مثمرة وليس لها أي معنى أو ضرورة فنية وفي أفضل الحالات كانت من باب لزوم ما لا يلزم.

نلاحظ أن هذا المشهد تكرر أيضاً في بلدان عربية أُخرى ومنها سوريا ولبنان، إذ شهدا مثل هذه الظاهرة وكانت أكثرها غُلُواً ما قامت به إحدى الفرق المتخصصة بأغاني التراث العربي، تحت اسم “فرقة بيروت للموسيقى العربية” وتأسست سنة 1980 حيث تقدمها موسيقي “قائد” يُلَوِّح بعصا القيادة في مواجهة ثُلة من الموسيقيين، يعزفون على آلاتهم الشرقية موشحات وأدوار وغيرها من الأغاني التراثية والكلاسيكية العربية وحتى الشعبية منها والمُلحَّنة حديثاً، وكلها موسيقى آحادية النغم (مونودية)، وإن تخللتها نفحات بسيطة من التوزيع الموسيقي السطحي وغير المبرر تُكتب عادة تحت شعارات تطوير التراث لجعله مُستساغاً لدى الأجيال الجديدة، ولكن في المحصلة النهائية فهي لا تحتاج إلى أوركسترا ولا إلى قائد على الإطلاق.

وعلى هذا المنوال والأمثلة كثيرة وممتدة من الماضي إلى يومنا هذا تشوَّهت وتنمَّطت صورة قائد الأوركسترا في بلاد العرب بأذهان العامة وأحلام المتخصصين منهم في المجال الموسيقي، لدرجة أنها تفشّت كالوباء بين أنصاف الموسيقيين والهواة منهم.

وإذا كانت مصر وهي البلد العربي السبّاق في إنشاء اول أوركسترا سمفونية تعزف من برنامج الموسيقى الكلاسيكية الغربية مع بداية الخمسينات، وعلى رغم هذا، فقائد الأوركسترا كان وقتذاك موسيقياً نمسوياً. بعد عقدين من الزمن بدأت بعض الدول العربية مرحلة تأسيس أوركسترات سمفونية صغيرة بإمكانات ومستويات متواضعة، أدّت إلى دخول كل الموسيقيين المحليين إلى صفوفها، لكن نُدرة وجود المتخصصين في مجال الإدارة والتوجيه الفني الأوركسترالي (فنون القيادة) جعلت “القادة” الأساسيون لهذه الأوركسترات بمعظمهم أجانب، أما القادة العرب المحليون فاتسمت ممارساتهم الفنية بالقليل من الدراية والمعرفة في شؤون هذه المهنة وتفاصيلها، وبالكثير من التعسف وسوء استخدام السلطة بوجه العازفين والمؤلفين الموسيقيين على السواء، واكتفوا بنجومية إعلامية فارغة إلا من إعادة إنتاج سلطتهم المستمدة من سلطة القائد والزعيم السياسي. وقد يُكتب الكثير عن ممارسات هؤلاء الأفراد وتجاربهم الكاريكاتورية في قيادة الأوركسترا السيمفونية أو العربية/ المشرقية، ففيها الكثير من الأخبار المُبكية والمُضحكة والمؤلمة في آن.

 ومع دخولنا الألفية الثالثة بدأت طلائع من الشباب الموسيقيين في البلدان العربية التوجه إلى أوروبا وأميركا للتخصص أكاديمياً في موضوع الأوركسترا وفنون إدارتها أو قيادتها، وهذا ما يدفع بنا من جديد إلى دائرة الأمل، بأن يبدأ فصل جديد يتعلق بممارسة هذه المهنة الحيوية والضرورية في عملية الإبداع الموسيقي وتأثيرها في تطوره على كل المستويات.

ولكن تبقى الأسئلة المشروعة والمُقلقة، معلقة بلا أجوبة تنتظر على قارعة الزمن؛ فهل يتخلص جيل “قادة” الأوركسترا الجدد عند العرب من كل رواسب المراحل السابقة وتشوّهاتها وفراغاتها المعرفية؟ وإلى أي مدى يستطيع ردم الهوّة العميقة في انزياحات اللغة وانفصامها عن مفاهيمها الأصلية؟ وكيف سيترجم هذا الجيل رغباته في الخلق والإبداع في الموسيقى، بعيداً من السقوط المُفجع في غواية السُلطة واستبدادها ومراياها المُضخِمة للذات؟

 

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!