هدأ الزلزال في داخلي قليلاً، سمعت عصفوراً يكرر نغمة حادة لفترة طويلة ذكّرتني بروتين صوت طفلتي عندما كانت تطلب شيئاً، ربما كان ينادي أمه. سأعود إلى البيت قريباً بالطريقة نفسها التي خرجت منه فيها.
عادت حياتي إلى رتابتها وتوقفت عن التفكير في جدول أعمال يومي الطويل، وبدأت في ممارسة الفراغ. ربما كان هذا التباطؤ في الحركة دليل الغنى، فعدم الإنجاز أيضاً دليل التميّز.
لماذا أشعر بأنني يجب أن أكون مشغولة طوال الوقت؟
لم تعد تجدي محاولاتي إجبار نفسي على إنجاز قائمة واجبات طويلة تبدأ بالاهتمام بنظافة المنزل وترتيبها وإعداد الوجبات، ولا تنتهي بكل أشكال المجاملات الاجتماعية الثقيلة.
أنهي قهوتي الصباحية وأنا أحدّق برؤوس الأشجار التي تتمايل اليوم بفعل هبّات باردة تهدد بعودة الشتاء. أنظر إلى قرص الشمس المختفي وراء غيوم شفّافة. أحاول أن أتبين من شكل الغيمة التي رسمتها الرياح، ما إذا كانت السماء تريد أن توجّه لي رسالة ما. أترك الفنجان الفارغ على الطاولة وأذهب إلى غرفتي ألبس بسرعة أول ما يقع تحت يدي وأتوجه إلى باب الشقة.
في الشارع، يتسكّع شبّان على الرصيف، يمشي عجوز ببطء ثم يقرّر فجأة أن يقطع إلى الطرف الآخر وهو يتعثّر بخطواته. أنا أيضاً أتعثّر بخطواتي. أشعر بأن جسدي أثقل مما يمكن أن تحمله ركبتاي. تتمرّد الرجل اليسرى بانعكاسات فجائية وكأنها تأتمر بريموت خارجي لا يمتّ إلي بصلة. حسناً، اقتربت من الحديقة العامّة ويمكنني أن أجلس على مقعد فارغ، بعيداً من كل الموجودين الذين لا يشبهونني.
تحتل فتاتان شابتان أقرب مقعد من باب الحديقة، أحدهما تفصفص البزر بأسنانها وتتفّ القشور بقذائف تنتهي على الأرض تحت قدميها، والأخرى تدخّن النرجيلة. التفتّ لأتمعّن في وجه آكلة البزر، الحجاب لم يخفِ تفاصيل جمال وجهها، نظراتي لم تعجب مدخنة النرجيلة.
_ لماذا تنظرين هكذا؟
_ ضاقت عينها لأني أتفّ القشور على الأرض.
ربما كان يجب أن أتوقف قليلاً وأطلب منها ألا تفعل ذلك. لكني هربت وتجاوزتهما واخترت مقعداً بعيداً جداً، مقعداً تمنيت أن يخفيني عن أي مجال للنظر.
هل احتضنت هذه البلاد طفولتنا؟ وهل كانت حقّاً طفولة سعيدة؟ انقطع الإحساس بالأمان حتى لم يعد الحنين إلى الماضي يعيد إلينا بعض الصور المطمئنة. صارت صور المدينة القديمة بعماراتها الفخمة وشوارعها النظيفة و”الترام الكهربائي”، مدعاة للاستهزاء لا الفخر والمباهاة بماضٍ عريق. لا يمكن لماضٍ بهذه النظافة أن ينجب حاضراً بهذه السفالة. هناك وراء الصور الرمادية تختبئ صور قاتمة لم يؤرشفها المؤرخون.
طفولتنا كانت سجناً في تراث خانق من التعليمات الدينية الملطَّفة بتفاسير بدائية، وتهديداً برب يحرق المتمردين على العرف الإلهي ويدخل المطيعين إلى جنة لا تشبه كثيراً أحلام الأطفال. ومراهقتنا كانت تدور حول حراسة الشرف المتعلق بالجسد الأنثوي، تحديداً وإيعازاً بالتعود على ابتلاع تفوّق الذكور بالإجبار واتّباع عادات زواج قسرية، وفي ظل قانون يدّعي حماية شكل المجتمع المثالي على نمط لم يتطور منذ بضع وألف سنة، والتخطيط لمستقبلنا كان على أسس كاريكاتورية تماماً، فالتعليم المجاني يصنّف طلبة العلم على أساس نتائج الشهادة الثانوية. فالطبيب في أعلى مرتبة يليه المهندس ويليه الصيدلاني، ثم تتدرج المهن بتراتبية مجموع درجات الامتحانات المدرسية نفسها. ونُجبر على اتباع خط سير موحّد ليس بالضرورة ما يتمناه أحد منا. وبقية الرغبات المكبوتة تبقى مكبوتة في قعر بئر عميق ومؤجلة إلى زمن قد ينال فيه أحدنا بضع أيام من الحرية.
فهل كان غريباً حصول الزلزال؟ طالبت الأرض بالحرية فخرج الغضب من أعماقها. أحالت سكننا في ليلة عاصفة إلى قبور محكمة في إيعاز ضمني إلى هذه الحياة التي تشبه الموت. فأطبقت الأسقف على الشعب النائم. فهل استيقظ الشعب النائم؟
التقطت صورة لقشور البزر المنثورة تحت مقعد الفتاتين قبل أن أخرج. أحسست أنّها صورة مدينتي اليوم. الصورة التي يجب أن تنشر على كل المنصّات لتعبّر عن واقعنا. نحن اليوم هذه الفتاة التي تأكل البزر وترمي القشور على أرض الوطن، لا نوع الأكل يشبع ولا أرض الوطن تستحقّ النظافة.
إقرأوا أيضاً: