بينما كانت هيام، وهي سيدة لبنانية أودعت مدخراتها في “بنك عوده”، تكابد عجزها عن تحويل الأقساط الجامعية لابنها الذي يتابع دراسته في فرنسا، بعدما أقدم المصرف على حجز وديعتها في عملية “كابيتال كونترول” غير قانونية، كان “بنك عوده” يستلم “قرضاً” من مصرف لبنان بقيمة مليارين و700 مليون دولار، لم يصرح المصرف عن هدفه من اقتراضها، إنما قالت مصادر مصرفية لـ”درج” إنه اقترضها لسداد “التزامات خارجية، من بينها اعتمادات كانت مفتوحة قبل الأزمة المالية عام 2019”.
النائب الأسبق لحاكم مصرف لبنان غسان عياش أوضح لـ”درج” ومشروع الابلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد OCCRP أن “تهافت المصارف اللبنانية على مصرف لبنان في بدايات الأزمة للحصول على السيولة بالعملة الأجنبية، يعود إلى حاجة بعض المصارف الملحة للأموال لسداد التزامات هي عبارة عن اعتمادات مستندية تم فتحها عبر المصارف الأجنبية المراسلة… لبى مصرف لبنان احتياجات هذه المصارف بتسليفها الأموال التي تحتاجها مع أنها كانت أودعت لديه أموالاً طائلة لا تستطيع استردادها”. أما التزامات هذه المصارف حيال المودع اللبناني، وهي أكثر إلحاحاً من التزاماتها حيال المصارف الأجنبية، فتم غض النظر عنها، طالما أن النظام القضائي اللبناني لم يشعرها بما أشعرتها به نظم القضاء الخارجية.
بهذا المعنى، وحتى إذا استبعدنا الارتياب المشروع في أن يكون المصرف قد استعمل جزءاً من هذه المبالغ لتحويلها إلى حسابات رئيس وأعضاء مجلس إدارته، ففي أحسن الأحوال يكون المصرف قد قدم التزاماته الخارجية على التزاماته تجاه مودعيه اللبنانيين، فسارع إلى سداد ديونه في الخارج خوفاً من القضاء الخارجي، في حين أمن له القضاء في لبنان حماية، على رغم مخالفته قانون النقد والتسليف عبر حجزه أموال اللبنانيين.
لا يأبه “بنك عوده” لمنع ابن هيام من متابعة تحصيله الجامعي، إلا أنه يخاف من أن تحاكمه المصارف المراسلة في الخارج إذا لم يسدد لها الديون المستحقة. وهذا شأن جميع المصارف التي رفضت رفع السرية المصرفية عن حسابات مديريها، بحسب ما طلبت القاضية غادة عون في أعقاب اكتشافها واقعة الإقراض، ذاك أن التذرع بأن القانون لا يشمل الفترة التي حصلت فيها المصارف على القرض، أي بين العامين 2019 و2020 يؤشر إلى رغبتها بالاستفادة من مرحلة “سماح قانوني يتم فيها تمرير ما يمكن تمريره”، بحسب “رابطة المودعين”.
والحال أن مصرف لبنان كان أقرض بين 30 أيلول/ سبتمبر 2019، و25 كانون الثاني/ يناير 2020، في ذروة الاستعصاء المالي وحجز الودائع، 15 مصرفاً لبنانياً مبلغاً يفوق الـ8 مليارات دولار أميركي، وفي هذه الفترة كانت المصارف ترفض، وعلى نحو غير قانوني، سداد الودائع لزبائنها! فكيف تصرفت هذه المصارف بهذا المبلغ الكبير؟
ثلاثة مصارف من بين الـ15 مصرفاً استفاد من القرض وافقت على طلب مدعي عام جبل لبنان غادة عون رفع السرية المصرفية عن رؤساء وأعضاء مجالس إداراتها، للتأكد مما إذا كانوا قد استفادوا من هذه القروض، أو إذا كانوا قد حولوها إلى الخارج. والمصارف التي وافقت هي “بنك لبنان والمهجر” الذي كان وصله من مجمل القروض مليار و500 مليون دولار، وبنك “سرادار” وبلغت قيمة القرض الذي حصل عليه 74 مليون دولار و”بنك الاعتماد المصرفي” وبلغت قيمة قرضه 208 ملايين دولار. أما المصارف المتبقية فرفضت رفع السرية المصرفية عن مديريها، بحجة أن قانون رفع السرية المصرفية سرى مفعوله عام 2022، أي بعد حصول المصارف على هذه القروض!
ويبدو أن القاضية عون مرتابة في الوجهة التي استعملت فيها المصارف اللبنانية هذه القروض، واحتمال أن يكون مديرو هذه البنوك قد استفادوا من جزء منها. وفي هذا السياق، شهد القضاء اللبناني عملية تجاذب طاحنة، طلب خلالها المدعي العام اللبناني غسان عويدات من القاضية عون وقف تعقب المصارف والتمنع عن اتهامها إياها بتبييض الأموال. وفيما ادعت المصارف أن عون تنفذ تعليمات سياسية وأن استهدافاتها انتقائية، اتهم المودعون عويدات بأنه يسعى إلى حماية المصارف.
“درج” ومشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد OCCRP أرسلا كتباً للمصارف الـ15 المستفيدة من القروض سألا فيها عن وجهة استعمال هذه المبالغ، فتلقيا أجوبة من مصرفين هما “بنك لبنان والمهجر” و”البنك اللبناني للتجارة”. أما المصارف المتبقية فآثرت عدم الرد حتى الآن. وفيما ظهرت وثائق تؤكد إجراء تحويلات إلى الخارج في الفترة ذاتها (لدى “درج” اثنان منها)، يؤكد مصرفيون تواصل معهم “درج” أن معظم هذه المبالغ تم تحويلها إلى الخارج لسداد التزامات لدى المصارف المراسلة، وهي مقابل اعتمادات خارجية كانت المصارف قد فتحتها قبل الأزمة. وهنا يظهر مرة أخرى ما يؤكد أن المودع اللبناني لا يشكل التزاماً تشعر المصارف حياله بالمسؤولية عن إعادة الأمانة التي ائتمنها عليها، أما المصارف الخارجية فعدم السداد لها يعني احتمال المقاضاة في الخارج.
لكن لماذا لم توافق معظم المصارف على رفع السرية المصرفية عن رؤساء وأعضاء مجالس إداراتها؟ لا بل أقدمت على خطوة تصعيدية تمثلت بإعلان الإضراب وإقفال أبوابها أمام اللبنانيين! الخطوة تكشف عن ذهول وهلع بحسب أحد المديرين السابقين في مصرف لبنان، رفض الكشف عن اسمه. أما القول بأن القاضية عون محسوبة على جهة سياسية، وهو قول صحيح، وأن خطوتها تنطوي على مزاج ثأري، فلا يكفي للامتناع عن الاستجابة لطلبها، لا بل إن التجاوب معها في حال لم تجر التحويلات إلى الخارج، سيشكل دحضاً لـ”ادعاءات سياسية”، واثباتاً لحسن النيات تجاه المودع.
“بنك لبنان والمهجر” قال في رده على أسئلة “درج”، إنه “تم استخدام القرض بالدولار الأميركي (مليار ونصف المليار دولار) بالكامل تقريباً لتغطية تحويلات محلية داخلية وشيكات صادرة من العملاء ومودعة في مصارف محلية، وأخرى لشراء عقارات أو لسداد قروض ممنوحة من البنوك المحلية…”. ورد المصرف وإن عبر كلام عام ويحتمل التأويل، يبقى متقدماً على الصمت الذي مارسته بقية المصارف. أما “البنك اللبناني للتجارة” فقال في رده إنه القرض الذي ناله استعمل من أجل تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة صديقة للبيئة وقروض سكنية واستهلاكية صغيرة.
“بنك البحر المتوسط”، وهو ثاني أكبر المستفيدين من قرض مصرف لبنان، وبلغت قيمة القرض الذي حصل عليه ملياراً و900 مليون دولار، أجاب على أسئلتنا برسالة مقتضبة هذا نصها: “وفقاً للقوانين واللوائح اللبنانية المعمول بها يرجى ملاحظة أن البنك لا يمكنه التعليق على مسألة تخضع لإجراءات قضائية”.
أما رابع أكبر المستفيدين من قرض مصرف لبنان، أي “بنك سوسيتيه جنرال”، والذي يرأس مجلس إدارته أنطون صحناوي، وهو طبعاً لم يستجب لطلب القاضية عون رفع السرية المصرفية عن حسابات رئيس وأعضاء مجلس إدارته، ولم يصلنا منه رد على أسئلة توجهنا إليه بها، فقد كشفت وثيقة حصل عليها “درج” أن المصرف حصل على معاملة تفضيلية من مصرف لبنان في بداية الانهيار عبر الموافقة على كسر وديعة مجمدة له في مصرف لبنان حتى تاريخ 2047 بقيمة 254 مليار ليرة لبنانية. علماً أن حصة “سوسيتيه جنرال” من قرض التسعة مليارات دولار، بلغت ملياراً و100 مليون دولار.