ضربة الجزاء التي حصل عليها كريستيانو رونالدو في مباراة فريقه منتخب البرتغال مع منتخب غانا، في مونديال قطر، أثارت جدلاً واسعاً حول أحقية احتسابها لمصلحة رونالدو، الذي نفذها ببراعة وأسكنها الشباك. مردّ الجدل في العودة إلى تقنية الـ”فار” التي تكشف عن قيام رونالدو، بذكاء، بتعمّد ضرب قدمه بقدم المدافع بعدما قطع الأخير الكرة، في مساره للسقوط أرضاً، وهو ما خدع على ما يبدو الحكم الرئيسي، وأيضاً حكم الـ”فار”، واحتسبت ضربة الجزاء لمصلحته، فيما معظم تحليلات خبراء التحكيم بعد انتهاء المباراة، أكدت أن ضربة الجزاء غير صحيحة.
الواقع ان عشّاق كرة القدم يشتاقون إلى زمن ما قبل تقنية الـ”فار”، لأن هذا النوع من الأخطاء التحكيمية يصنع مفارقات هي في صلب اللعبة الأكثر شعبية في العالم. وأتت تقنية الفيديو لتقتل احتمالات التحايل والتذاكي والتمثيل التي لا يقل أثرها رونقاً عن الأهداف “الصحيحة”. وفي تقنية الفار هنا شيء أشبه بـ”الصوابية السياسية” التي وضعت ملازم على حرية التعبير في مجالات شتى، لا يبدو أن كرة القدم بمنأى عنها. ولا شكّ في أن تقنية الـ”فار” تقتل سحر اللعبة عبر قتل الغشّ اللذيذ الذي لا ينفصل عن روحية كرة القدم التي تقوم أساساً على تكتيكات لمحاولة تفادي قوانين اللعبة والوصول إلى المرمى لتسجيل الأهداف، فلنا أن نتخيل ما كان سيحدث، لو أن هذه التقنية كانت معتمدة في مونديال 1986، حين سجّل مارادونا هدفه الشهير بيده اليسرى في مرمى المنتخب الإنكليزي، وألغي الهدف حينها.
ومع أن فيديو المباراة هو ما كشف غشّ مارادونا، إلا أن هدفه هذا يعتبر حتى اليوم من الأهداف التاريخية التي يستذكرها مشجعو كرة القدم في العالم كله، حتى بعد مرور أكثر من 37 عاماً عليه.
“في الشمس والظلّ”
في كتاب إدواردو غاليانو الشهير “كرة القدم في الشمس والظلّ” (أصدره عام 1995)، الكثير من الطرائف والمفارقات المرتبطة بهذا النوع من الغش، أو من الأخطاء التحكيمية التي تقلب مسار مباراة، وقد تقلب مسار بطولة وتغيّر مصير منتخب. و”بينالتي” رونالدو هذه أمام غانا، قد تكون ذا شأن كبير فيما لو استطاع البرتغال أن يحرز الكأس، أو نجح رونالدو في أن يكون هداف كأس العالم بفارق هدف واحد مثلاً. كل ذلك قد يزيد من الجدل حول هذه “البينالتي” ويرفعها إلى مصاف الحدث المصيري المؤسس للحدث الأكبر، إن حصل. وهو قد حصل فعلاً، لكن على مستوى آخر، إذ أدخل هذا الهدف رونالدو التاريخ، مع تسجيله في خامس مونديال بشكل متواصل، واذا لم يسجل رونالدو خلال هذا المونديال هدفاً آخر، فسيكون قد دخل التاريخ من ضربة جزاء مشكوك في صحتها. وعليه قد ترتقي ضربة جزاء كهذه لتصبح مادة في كتاب شبيه بكتاب غاليانو يؤرخ لكرة القدم في القرن الحادي والعشرين، أو يكمل ما بدأه غاليانو بعد توقّفه في كتابه عند مونديال 1994.
وتشبيه تقنية الـ”فار” بالصوابية السياسية، مدخل مقصود لـ”التسلل” إلى الحديث عن حضور القضايا والأحداث السياسية في ملاعب كرة القدم وعلى مدرّجاتها. وما تشهده قطر من تجاذب سياسي وانتقادات لاذعة (أكثرها محقّ) حول تنظيمها المونديال، يعيدنا إلى حقيقة لا لبس فيها، عن حضور السياسة، والقضايا الاجتماعية والثقافية والطبقية والاقتصادية وحتى العسكرية، يداً بيد مع كرة القدم مذ اتخذت شكلها “الحديث” عام 1863 مع تبنّي 12 نادياً إنكليزياً قواعد كانت قد أقرّت في جامعة كامبردج عام 1846. وقد أنتجت “نتفلكس” مسلسلاً درامياً عن تلك المرحلة بعنوان “اللعبة الانكليزية”، يروي حكاية تحول كرة القدم إلى الاحتراف، والصراع الطبقي العنيف قبل السماح للفقراء والعمال بلعبها ومقارعة الأغنياء واللوردات.
لنا أن نتخيل ما كان سيحدث، لو أن هذه التقنية كانت معتمدة في مونديال 1986، حين سجّل مارادونا هدفه الشهير بيده اليسرى في مرمى المنتخب الإنكليزي، وألغي الهدف حينها.
وغاليانو يبني كتابه على هذا التداخل الأساسي في صناعة تاريخ اللعبة، واعطائها أبعاداً أكثر من كونها مجرّد رياضة للتسلية والترفيه. يحكي عن ارتباط كرة القدم على الدوام بمفهوم الوطن والسياسة، وكيفية استغلال السياسيين والديكتاتوريين بهذه الروابط: “فصيلة كرة القدم الإيطالية ربحت مونديالي 1934 و1938 باسم الوطن وموسوليني، وكان لاعبوها يبدأون كل مباراة وينهونها بصرخة “تحيا إيطاليا” مع تحية الجمهور برفع الراحات، ويضيف غاليانو أن كرة القدم “كانت بالنسبة إلى النازيين مسألة دولة. وهناك نصب في أوكرانيا يذكّر بلاعبي فريق دينامو كييف في 1943. ففي أوج الاحتلال الألماني، اقترف هؤلاء اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في الملعب المحلي، وكان الألمان قد حذروهم: إذا ربحتم ستموتون.
دخلوا الملعب وهم مصمّمون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، لكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة. وأُعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب عند حافة هاوية، بعد انتهاء المباراة مباشرة، وفق الكتاب.
في مثل آخر، يتحدث غاليانو عن مونديال 1978 وتنظيمه من قبل الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين للتغطية على فظائعها: “على إيقاع مارش عسكري قام الجنرال فسيديلا بتقليد هافسيلانج وساماً في حفل الافتتاح في استاد مونيمانتل في بيونس آيرس. وعلى بعد خطوات من هناك، كان يوجد أوشفيتز الأرجنتين، مركز التعذيب والإبادة في المدرسة العسكرية الآلية. وعلى بعد كيلومترات أخرى، كانت الطائرات تلقي بالمعتقلين أحياء إلى البحر”. ويحكي غاليانو عن عملية تبييض صفحة الديكتاتورية الأرجنتينية من قبل الرياضيين والسياسيين على السواء، بنقل تصريح رئيس الفيفا أمام الكاميرات حينما يقول: “يمكن للعالم أخيراً أن يرى الصورة الحقيقة للأرجنتين”. فيما أعلن هنري كيسينجر وكان مدعواً خاصاً إلى الحفل (بعدما ترك منصبه كوزير لخارجية الولايات المتحدة): “لهذه البلاد مستقبل عظيم على كل المستويات”، فيما كان كابتن الفريق الألماني بيري فوغتس، الذي ركل كرة الافتتاح، قد صرّح بعد أيام بأن “الأرجنتين بلاد يسودها النظام. وأنا لم أر أي معتقل سياسي”.
“إحدى عشرة قدماً سوداء“
بتأثّر معلن بكتاب غاليانو وأسلوبه، يكتب محمود العدوى عن كرة القدم الأفريقية في كتابه “إحدى عشرة قدماً سوداء- عندما يلعب المضطهدون كرة القدم” (دار الطليعة الجديدة- 2018)، وفيه يحكي عن أثر السياسة والقهر والاستعمار والعنصرية على كرة القدم في أفريقيا، في مطلع الكتاب يقول العدوى: “نحن في أفريقيا طوال الوقت نتحدث عن كرة القدم، لأننا لا نستطيع أن نتحدث في السياسة. نحن نختار الفرق التي نشجّعها إلى أن نموت، لأننا لا نستطيع أن نختار رؤساءنا. نحن ننتقد بكل قسوة وأحياناً بكل وقاحة حكّام المباريات، لأنهم لا يملكون القدرة على أن يسجنونا”. هذه الأسباب هي التي تجعل الكاتب يعشق كرة القدم ومعه الملايين في أفريقيا. في الكتاب أمثلة عن وحشية السياسة وكيفية استغلالها كرة القدم. أحدها عن إصدار معمر القذافي في أحد أيام 1979 أوامره بمحاصرة ملعب أثناء لعب فريقي “الاتحاد” و”الأهلي” في ديربي ليبي لكرة القدم. وعند انتهاء المباراة يعتقل الجيش الليبي جميع المشجعين ويحملهم عبر الصحراء في شاحنات من “الاستاد” إلى الحدود مع تشاد حيث يخوض القذافي حرباً: “تم إجبارهم على ارتداء الزي العسكري وحمل السلاح والتوجه إلى جبهة القتال من دون أي تدريب. ولم يتم منح المجندين أية فرصة للتواصل مع أهاليهم وأحبائهم. وتمّ زجّهم في الحرب ليموتوا هناك”. ويتابع العدوى: “من الاستاد حيث كانوا يشجعون فريقين يتقاتلان على كرة، إلى الصحراء ليموتوا من أجل حكومتين لم يعرفوا لماذا تتقاتلان”.
وفي إسقاط آخر لقسوة السياسة والحياة واللاعدالة على كرة القدم، يقول العدوى إن “الأفارقة المتألقين في فهم الطبيعة وتعلّم الدروس منها، تعلّموا من قطعان الحيوانات في الغابة انهم لا يجب أن يسيروا منفردين حتى لا يتمّ اصطيادهم. كانوا في لعبهم، فوزهم، خسارتهم، جماعات. لا يسيرون فرادى أبداً. لذلك أحبوا تلك اللعبة التي لا يمكن أن يلعبها أحد منفرداً”.
“استراحة بين شوطين“
هذا العنوان اختاره فوزي يمّين، الشاعر والاستاذ الجامعي اللبناني ولاعب كرة القدم المحترف السابق، لكتابه الصادر حديثاً (منشورات المتوسط- 2022)، قبل انطلاقة المونديال بأيام قليلة. الكتاب يستوحي أيضاً فكرة غاليانو، لكن بصيغة ملبننة، وأكثر التصاقاً بالتجارب الشخصية التي عاشها الكاتب نفسه، وبلغة شعرية، تشبه سحر المهارات الفردية للاعبي كرة القدم الكبار. وهو يتناول كرة القدم أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) من منظار لاعب، يعرف كيف يرى إلى اللعبة بعين الشاعر، وبلغة ذكية يحكي عن علاقته الحميمة بالكرة وما تعنيه له كلاعب محترف في نادي “السلام زغرتا” ثم في “الحكمة بيروت”، ثم بعد الحرب كان لاعباً أساسياً في المنتخب الوطني خلال تصفيات كأس العالم عام 1993. في كتابه يروي كيف دخلت الحرب إلى الكرة ومزّقتها، وأفرغتها من هواء الحرية، وكيف تحولت المدرّجات إلى معلّبات طائفية: “تتأثّر اللعبة بالحرب. قبلها كانت النار تحت الرماد. والأندية التي اعتادت أن تجمع لاعبين مسلمين ومسيحيين على مدى سنوات طويلة، تخرج مكنوناتها، وتبدأ فرزاً ديموغرافياً، يتناسب مع ميول إداراتها، فيصبح كل ناد يعبّر عن فئة، تديرها الزعامات والتيارات السياسية”.
الكتاب فيه سرد ليوميات لاعبي كرة القدم في فترة الحرب واضطرارهم إلى عبور الحواجز وخطوط التماس للعب المباريات، وكيف تحولت لعبة تجمع الناس، بسبب السياسة والطائفية، إلى لعبة تفرّقهم، وتحولّهم إلى جماهير متناحرة. لكن لا يمكن، مع كل ذلك، إلا أن تلمس هذا الشغف الجميل بلعبة هي بمثابة الحياة، بل ربما في حالة يميّن “حياة بين انفجارين” في حرب أهلية عبثية لا يفقه فيها شيء الولد الذي كانه والذي كان شغفه الوحيد أن يلعب كرة القدم: “أركض بقدمين خفيفتين باتجاه أبي، من الخوف طبعاً، كما لم أركض يوماً في أي مباراة، كما لم أركض يوماً في أحلامي. وحينما أصير بجانبه بعد ثوان حسبتها ساعات، يقع انفجار ثان”.
يعجّ كتابا غاليانو والعدوى، بالإضافة إلى كتاب يمّين، بأمثلة كثيرة عن تدخّل السياسة والعسكر والحروب في كرة القدم وحضور القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية في أحداث المونديال التي تتكرر كل أربع سنوات. يتم استغلال اللعبة، في كثير من الأمثلة الموثقة بتقنية الـ”فار” أو بالتوثيق المكتوب، وعلى رغم شعبيتها الكبيرة، للترويج لأنظمة وحروب وتعزيز الفساد وتلميع صورة زعماء وتسليع اللاعبين وتكريس العنصرية والتمييز الجندري، على حساب الشعوب والفقراء والمضطهدين والفئات الضعيفة. يحدث هذا في كل مكان. وحدث منذ تأسيس اللعبة حتى كتابة هذه السطور. لكن يحدث أيضاً عكسه، يحدث أن تكون اللعبة منصة للوقوف في وجه الاضطهاد وفي وجه الحرب وفي وجه التمييز والإقصاء. ويحدث أن يخرج لاعبون شجعان ليقفوا في صفوف الفئات الضعيفة ويواجهوا الطغيان بجرأة موصوفة. هكذا هي كرة القدم: ملايين الناس من فقراء وميسورين وأغنياء، من السود والبيض والنساء والرجال والأطفال والمسنين، من الإقطاعيين والفلاحين، والمتدينين التوحيديين والمشركين والملحدين والكفرة، والمثليين والمثليات والنسويين والنسويات، والعابرين الجنسيين والعابرات، والعسكر والمدنيين، المسالمين والمحاربين، من القتلة والسارقين والمغتصبين والمجرمين والفاسدين، إلى الرهبان والمتنسكّين، والشعراء والمغنين وغيرهم الكثير الكثير… يحبون هذه الكرة ويتابعونها وهي تدور في الملاعب ولا تتوقف. تدور كأنها كرة أرضية تتقاذفها الأقدام، لتطير وتضيع في كون لا متناه، وتتحول إلى مجرّد “نقطة زرقاء باهتة”.