fbpx

“كل يوم عاشوراء”… كيف حطّم الملالي مبادئ “الجمهورية” المتوهمة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد أربعة عقود على الثورة الإسلامية، لا تبدو أن المبادئ التي روّج لها الخميني وساهمت في ترميم حواضنه المجتمعية الشيعية، تحظى بالشرعية ذاتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

غداة الثورة الإيرانية، قال الإمام الخميني: “يوم القدس يوم عالمي، وليس يوماً يخص القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعَفين للمستكبرين”.

بعد لحظة التأسيس تلك، تشظى العالم بحسب نظرية الخميني السياسية إلى “مُستكبِرين” و”مُستضعَفين”، لتوليد لغة خطاب سياسي تعبوي ومتشدد من التراث الديني النظري، في إطار صراعات وحروب “مقدسة” انخرط فيها نظام الخميني على امتداد المنطقة.

وهذه المبادئ والقيم المختلطة تم استدعاؤها، قسراً، من النطاق الديني لجهة تعميمها في الفضاء العام السياسي عبر الأجهزة الإعلامية والثقافية، ثم تولت الأخيرة مأسسة (وإدارة) أفكار النخبة الدينية (سياسياً) التي صعدت إلى الحكم منذ عام 1979. 

في المقابل، تصر أدبيات الثورة الإسلامية على تعميم تصورات دينية راديكالية تطوّق جماعاتها المتخيّلة، تضطلع بدورها في عزل الأفراد عن أيّ جماعات أخرى لا تقف في حيز “الولي الفقيه” ومداه السياسي. تلخص هذه الرؤية عبارة وردت في الدستور الإيراني تقول: “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء”. وهي عبارة تحقق ما هو أبعد من العزل السياسي، إذ تصنع ذاكرة انتقائية من خلال تضخيم المظلومية التاريخية والدينية.

بعد أربعة عقود على الثورة الإسلامية، لا تبدو أن المبادئ التي روّج لها الخميني وساهمت في ترميم حواضنه المجتمعية الشيعية، تحظى بالشرعية ذاتها. 

تبدو الاحتجاجات التي تطوّق النظام، محلياً، بل وتطاوله في مجاله الحيوي، إقليمياً، كما حدث في احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر في بغداد وبيروت، مواجهة حتمية للقطعية مع السياسة الوصائية التي يتبناها “الولي الفقيه”، بينما يقوم بتنفيذها وكلاؤه المحليون من “حزب الله” إلى “الحشد الشعبي”. وهم الآخرون يملكون السلاح والثروة التي تحمي امتيازاتهم الفئوية، بينما حواضنهم تتمرد على أوضاعهم التي وصلت بهم إلى الحافة.

تبدو الشعارات التي حكمت لأكثر من 4 عقود، تعاني من التآكل والمراجعة بفعل إخفاقات عدة وتحت وطأة احتجاجات متواترة. ولم تنج من عملية التهميش والتآكل سوى مؤسساتها التي تحتفظ بالاسم فقط، وانحرفت نحو أدوار مغايرة عما جاء في خطابات تأسيسها. بينما تحولت مؤسسات “المستضعفين” إلى اقتصاديات خاصة أوليغارشية عسكريتارية تقبض على المال والثروة والسلاح.

ولا يعدو مفهوم “المستضعفين” كونه أكثر من أداة تعبوية في الداخل كما في الخارج، ولحشد القوى المجتمعية الشيعية والمهمشة التي تعاني الحرمان من حقوقها في عدد من البلدان. وقد عمد الملالي تحت وطأة التسييس والأدلجة إلى تعميمه بالدرجة التي تشمل الفئات المحرومة، بما يسمح لدعوتهم أن تكون أممية على طريقة “أستاذية العالم” التي صاغها حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين”، النسخة السنية من الإسلام السياسي. 

غير أن واقع الحال يشير إلى تبدلات هائلة في هذا المفهوم الذي تآكل بفعل حقائق، منها معاناة الإيرانيين القصوى على اختلاف ثقافاتهم وهوياتهم الدينية والطائفية والقومية. وهي معاناة اقتصادية وسياسية وحقوقية تكشف تفاصيلها خريطة الاحتجاجات المجتمعية والفئوية في البلاد منذ 2019.

غداة الثورة الإيرانية، قال الإمام الخميني: “يوم القدس يوم عالمي، وليس يوماً يخص القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعَفين للمستكبرين”.

الفساد البنيوي والدولة

في كتابها “الخبرة الإيرانية: الانتقال من الثورة للدولة”، تقول أمل حمادة، إنّ الفساد البنيوي في هياكل الاقتصاد الإيراني، والذي يطاول المؤسسات والأجهزة كافة، كرسه تصرف مؤسسات وتنظيميات ثورية تابعة للمرشد الإيراني، ولا تملك الحكومة أي رقابة وسلطة عليها. فهذه المؤسسات معفاة من الضرائب بموجب مرسوم من الخميني، بينما تعمل خارج نطاق الحكومة ولا تخضع للمسائلة البرلمانية.

وتضيف: “وهنا، نذكر مثلاً، الحرس الثوري ومؤسسة خاتم الأنبياء ومؤسسة القدس الرضوي، ومؤسسة الباسيج، ومؤسسة المستضعفين. ويمثل الريع النفطي المورد الأساسي لهذه الشبكة الواسعة من المؤسسات، التي من المؤكد أنّ دورها كان حاسماً في تأمين حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي وحماية الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً من التأثير السلبي للوسطاء التجاريين والمضاربين في مختلف المجالات”.

واللافت أن المرشد الإيراني له فتوى شهيرة رفضت قطعاً نشر أيّ معلومات عن قضايا الفساد المتفاقمة في إيران وتطاول رجال دين. وقال إنّ “الأصلح هو الإبلاغ بها إلى الجهات الحكومية المعنية”. وسبق للعضو البرلماني الإيراني علي رضا زاكاني، أنّ قال: “الفساد انتشر في كل هياكل الجمهورية الإسلامية”. 

حدث ذلك في خضم صراع سياسي محموم نهاية حكم محمود أحمدي نجاد، والذي هدد بالكشف عن أسماء وأجهزة نافذة متورطة في قضايا فساد. الأمر الذي استدعى، قبل فتوى خامنئي، صدام نجاد مع رئيس أركان الجيش، آنذاك، حسن فيروزبادي، الذي اعتبر اتهامات الرئيس الإيراني السابق “غير مقبولة” بينما الهدف منها “تشويش الرأي العام”، في لحظة تنافس انتخابي محتدم يخفي محاولات ضرب الخصوم وتصفيتهم.

صحيح أنّ مؤسسات مثل “الشهيد” و”المستضعفين”، بدأت بتقديم رعاية مادية هائلة، فضلاً عن خدمات صحية وتعليمية وسكنية لضحايا الحرب العراقية – الإيرانية وذويهم، لكنّها تخطت، لاحقاً، هذا الدور، الذي بدا مرحلياً وموقتاً، أو بالأحرى انتهازياً، لتنفيذ سياسة خارجية ضمن مشروع نفوذ “الولي الفقيه” لأدلجة المجتمعات الشيعية في عدد من بلدان المنطقة، ورعاية الجاليات المسلمة في الغرب.

النضال في سبيل الجمهورية

بالعودة الى الدستور الإيراني، فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تضع ضمن أولوياتها القصوى “دعم النضال المشروع للمستضعَفين ضد المستكبِرين في كل بقعة من بقاع العالم”. 

فيما عرج الدستور الإيراني في مقدمته على توضيح آليات “الجمهورية الإسلامية” في إدارة السياسة الخارجية، قائلاً: “بالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت حركة تهدف إلى نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين، فإنّ الدستور يعدّ الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً في ما يتعلق بتوسيع العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية. إذ يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم، ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم”.

إذاً، يجعل تنفيذ هذه السياسات بميزانيات ضخمة، الرقابة على هذه المؤسسات منخفضة ومنعدمة تماماً. فالنظام “استخدم الثروة الوطنية وإمكانات الدولة وسائل لحشد الدعم الأيديولوجي له، بحيث تجري عملية الصرف بعيداً من أيّ رقابة حكومية، ويكون الغطاء دائماً هو الاحتراز من أعداء الثورة”، حسبما لمّح تييري كوفيل في كتابه: “إيران الثورة الخفية”، الصادر عن دار الفارابي. 

ونتيجة لهذه الممارسات، “تأسست طبقة كاملة من الزبائن وأثرياء الأيديولوجية، الذين يقايضون ولاءهم للنظام الحاكم بالامتيازات التي يحصلون عليها، ويؤدون دور الوسطاء بين قيادة النظام والقوى التي تقوم بتأمين الاستقرار ومواجهة أيّ تحرك اجتماعي معارض”. وفضلاً عن هذه العلاقة الزبائنية في تشجيع الفساد، فإنّها تعمل أيضاً على إطالة أمد الاستبداد السياسي، وكل الاختلالات الاجتماعية والثقافية المصاحبة له. 

وبعد أربعة عقود من الثورة، طرأت متغيرات جمّة في إيران باعدت بين “المستضعفين” والقوى التي تفترض حمايتهم. وقد أمست طبقة تحمي مكتسباتها وطموحها في الثروة والسلطة. فـ”الحاصل أنّ إيران تمر بعملية تعبئة متواصلة تختلط فيها مطالب الإصلاح السياسي من جانب الطبقات الأكثر حظاً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، بمطالب الفئات المحرومة الأكثر تضرراً من الأوضاع المعيشية الصعبة ومن هيمنة النخبة الدينية على مقاليد الأمور، ما أعاق الدولة وجعلها أسيرة للأيديولوجيا ومبادئها شديدة الراديكالية”، بحسب ما جاء في كتاب “حراك المستضعفين وتآكل مبادئ الثورة الإيرانية”، وهو كتاب من جزئين أحدهما للباحث عبد الرؤوف الغنيمي والثاني لمحمود أبو القاسم.

ويردف: “خلق ذلك الوضع تعبئة ومقاومة متواصلة، نجح خلالها الخميني في طرح مشروع الجمهورية الإسلامية بدلاً من الدولة الشاهنشاهية التي كانت قد وصلت بإيران إلى أفق مسدود”. وقد نجم عن ذلك أنّ الدولة تمضي في دائرة مماثلة تنتهي بها عند المصير ذاته لدولة الشاه. إذ تواجه الثورة الإيرانية اليوم مأزقاً كبيراً في ظل هذه التناقضات التي تجعلها في مواجهة مع وعودها التي لم تتحقق، سواء نصرة “المستضعفين”، أو تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية في ظل “الجمهورية الإسلامية بدلاً من الملكية العلمانية”.

وبالتالي، فإنّ معضلة “الثورة”، التي يحتمي بها النظام في إيران، متمثلة في حيازته ثروات هائلة عبر آليات قمعية، وقد حققت التراكم الرأسمالي بين فئات بعينها، ووصلت الى مستويات مافياوية. هذه الفئات المستفيدة من ارتباطاتها العضوية بشبكات الحكم، ومنهم رجالات الدين، لا تختلف عن الأنماط السائدة خلال فترة حكم الشاه. 

هذا ما تؤكده الاحتجاجات الممتدة منذ عام 1979، مروراً باحتجاجات تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، واستمرت هذه الموجة التي عُرفت بـ”احتجاجات الوقود” حتى عام 2021. فضلاً عن التظاهرات المتواصلة، حتى الآن، بعد مقتل مهسا أميني على يد أفراد دورية “شرطة الأخلاق”. فـ”هي صرخات المستضعفين المدوية، إذ فشلت منظومة الولي الفقيه في الوفاء بالوعود التي قطعتها بتمكينهم. وربما كانت الاحتجاجات الأخيرة هي الصرخة التي اخترقت جدار الصمت. إذ لم تسمع النخبة الدينية الإيرانية الحاكمة مثلها منذ اندلاع الثورة”، وفق كتاب “حراك المستضعفين”.

31.03.2023
زمن القراءة: 6 minutes

بعد أربعة عقود على الثورة الإسلامية، لا تبدو أن المبادئ التي روّج لها الخميني وساهمت في ترميم حواضنه المجتمعية الشيعية، تحظى بالشرعية ذاتها.

غداة الثورة الإيرانية، قال الإمام الخميني: “يوم القدس يوم عالمي، وليس يوماً يخص القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعَفين للمستكبرين”.

بعد لحظة التأسيس تلك، تشظى العالم بحسب نظرية الخميني السياسية إلى “مُستكبِرين” و”مُستضعَفين”، لتوليد لغة خطاب سياسي تعبوي ومتشدد من التراث الديني النظري، في إطار صراعات وحروب “مقدسة” انخرط فيها نظام الخميني على امتداد المنطقة.

وهذه المبادئ والقيم المختلطة تم استدعاؤها، قسراً، من النطاق الديني لجهة تعميمها في الفضاء العام السياسي عبر الأجهزة الإعلامية والثقافية، ثم تولت الأخيرة مأسسة (وإدارة) أفكار النخبة الدينية (سياسياً) التي صعدت إلى الحكم منذ عام 1979. 

في المقابل، تصر أدبيات الثورة الإسلامية على تعميم تصورات دينية راديكالية تطوّق جماعاتها المتخيّلة، تضطلع بدورها في عزل الأفراد عن أيّ جماعات أخرى لا تقف في حيز “الولي الفقيه” ومداه السياسي. تلخص هذه الرؤية عبارة وردت في الدستور الإيراني تقول: “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء”. وهي عبارة تحقق ما هو أبعد من العزل السياسي، إذ تصنع ذاكرة انتقائية من خلال تضخيم المظلومية التاريخية والدينية.

بعد أربعة عقود على الثورة الإسلامية، لا تبدو أن المبادئ التي روّج لها الخميني وساهمت في ترميم حواضنه المجتمعية الشيعية، تحظى بالشرعية ذاتها. 

تبدو الاحتجاجات التي تطوّق النظام، محلياً، بل وتطاوله في مجاله الحيوي، إقليمياً، كما حدث في احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر في بغداد وبيروت، مواجهة حتمية للقطعية مع السياسة الوصائية التي يتبناها “الولي الفقيه”، بينما يقوم بتنفيذها وكلاؤه المحليون من “حزب الله” إلى “الحشد الشعبي”. وهم الآخرون يملكون السلاح والثروة التي تحمي امتيازاتهم الفئوية، بينما حواضنهم تتمرد على أوضاعهم التي وصلت بهم إلى الحافة.

تبدو الشعارات التي حكمت لأكثر من 4 عقود، تعاني من التآكل والمراجعة بفعل إخفاقات عدة وتحت وطأة احتجاجات متواترة. ولم تنج من عملية التهميش والتآكل سوى مؤسساتها التي تحتفظ بالاسم فقط، وانحرفت نحو أدوار مغايرة عما جاء في خطابات تأسيسها. بينما تحولت مؤسسات “المستضعفين” إلى اقتصاديات خاصة أوليغارشية عسكريتارية تقبض على المال والثروة والسلاح.

ولا يعدو مفهوم “المستضعفين” كونه أكثر من أداة تعبوية في الداخل كما في الخارج، ولحشد القوى المجتمعية الشيعية والمهمشة التي تعاني الحرمان من حقوقها في عدد من البلدان. وقد عمد الملالي تحت وطأة التسييس والأدلجة إلى تعميمه بالدرجة التي تشمل الفئات المحرومة، بما يسمح لدعوتهم أن تكون أممية على طريقة “أستاذية العالم” التي صاغها حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين”، النسخة السنية من الإسلام السياسي. 

غير أن واقع الحال يشير إلى تبدلات هائلة في هذا المفهوم الذي تآكل بفعل حقائق، منها معاناة الإيرانيين القصوى على اختلاف ثقافاتهم وهوياتهم الدينية والطائفية والقومية. وهي معاناة اقتصادية وسياسية وحقوقية تكشف تفاصيلها خريطة الاحتجاجات المجتمعية والفئوية في البلاد منذ 2019.

غداة الثورة الإيرانية، قال الإمام الخميني: “يوم القدس يوم عالمي، وليس يوماً يخص القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعَفين للمستكبرين”.

الفساد البنيوي والدولة

في كتابها “الخبرة الإيرانية: الانتقال من الثورة للدولة”، تقول أمل حمادة، إنّ الفساد البنيوي في هياكل الاقتصاد الإيراني، والذي يطاول المؤسسات والأجهزة كافة، كرسه تصرف مؤسسات وتنظيميات ثورية تابعة للمرشد الإيراني، ولا تملك الحكومة أي رقابة وسلطة عليها. فهذه المؤسسات معفاة من الضرائب بموجب مرسوم من الخميني، بينما تعمل خارج نطاق الحكومة ولا تخضع للمسائلة البرلمانية.

وتضيف: “وهنا، نذكر مثلاً، الحرس الثوري ومؤسسة خاتم الأنبياء ومؤسسة القدس الرضوي، ومؤسسة الباسيج، ومؤسسة المستضعفين. ويمثل الريع النفطي المورد الأساسي لهذه الشبكة الواسعة من المؤسسات، التي من المؤكد أنّ دورها كان حاسماً في تأمين حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي وحماية الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً من التأثير السلبي للوسطاء التجاريين والمضاربين في مختلف المجالات”.

واللافت أن المرشد الإيراني له فتوى شهيرة رفضت قطعاً نشر أيّ معلومات عن قضايا الفساد المتفاقمة في إيران وتطاول رجال دين. وقال إنّ “الأصلح هو الإبلاغ بها إلى الجهات الحكومية المعنية”. وسبق للعضو البرلماني الإيراني علي رضا زاكاني، أنّ قال: “الفساد انتشر في كل هياكل الجمهورية الإسلامية”. 

حدث ذلك في خضم صراع سياسي محموم نهاية حكم محمود أحمدي نجاد، والذي هدد بالكشف عن أسماء وأجهزة نافذة متورطة في قضايا فساد. الأمر الذي استدعى، قبل فتوى خامنئي، صدام نجاد مع رئيس أركان الجيش، آنذاك، حسن فيروزبادي، الذي اعتبر اتهامات الرئيس الإيراني السابق “غير مقبولة” بينما الهدف منها “تشويش الرأي العام”، في لحظة تنافس انتخابي محتدم يخفي محاولات ضرب الخصوم وتصفيتهم.

صحيح أنّ مؤسسات مثل “الشهيد” و”المستضعفين”، بدأت بتقديم رعاية مادية هائلة، فضلاً عن خدمات صحية وتعليمية وسكنية لضحايا الحرب العراقية – الإيرانية وذويهم، لكنّها تخطت، لاحقاً، هذا الدور، الذي بدا مرحلياً وموقتاً، أو بالأحرى انتهازياً، لتنفيذ سياسة خارجية ضمن مشروع نفوذ “الولي الفقيه” لأدلجة المجتمعات الشيعية في عدد من بلدان المنطقة، ورعاية الجاليات المسلمة في الغرب.

النضال في سبيل الجمهورية

بالعودة الى الدستور الإيراني، فإنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تضع ضمن أولوياتها القصوى “دعم النضال المشروع للمستضعَفين ضد المستكبِرين في كل بقعة من بقاع العالم”. 

فيما عرج الدستور الإيراني في مقدمته على توضيح آليات “الجمهورية الإسلامية” في إدارة السياسة الخارجية، قائلاً: “بالنظر إلى محتوى الثورة الإسلامية في إيران، التي كانت حركة تهدف إلى نصرة جميع المستضعفين على المستكبرين، فإنّ الدستور يعدّ الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها، خصوصاً في ما يتعلق بتوسيع العلاقات الدولية مع سائر الحركات الإسلامية والشعبية. إذ يسعى إلى بناء الأمة الواحدة في العالم، ويعمل على مواصلة الجهاد لإنقاذ الشعوب المحرومة والمضطهدة في جميع أنحاء العالم”.

إذاً، يجعل تنفيذ هذه السياسات بميزانيات ضخمة، الرقابة على هذه المؤسسات منخفضة ومنعدمة تماماً. فالنظام “استخدم الثروة الوطنية وإمكانات الدولة وسائل لحشد الدعم الأيديولوجي له، بحيث تجري عملية الصرف بعيداً من أيّ رقابة حكومية، ويكون الغطاء دائماً هو الاحتراز من أعداء الثورة”، حسبما لمّح تييري كوفيل في كتابه: “إيران الثورة الخفية”، الصادر عن دار الفارابي. 

ونتيجة لهذه الممارسات، “تأسست طبقة كاملة من الزبائن وأثرياء الأيديولوجية، الذين يقايضون ولاءهم للنظام الحاكم بالامتيازات التي يحصلون عليها، ويؤدون دور الوسطاء بين قيادة النظام والقوى التي تقوم بتأمين الاستقرار ومواجهة أيّ تحرك اجتماعي معارض”. وفضلاً عن هذه العلاقة الزبائنية في تشجيع الفساد، فإنّها تعمل أيضاً على إطالة أمد الاستبداد السياسي، وكل الاختلالات الاجتماعية والثقافية المصاحبة له. 

وبعد أربعة عقود من الثورة، طرأت متغيرات جمّة في إيران باعدت بين “المستضعفين” والقوى التي تفترض حمايتهم. وقد أمست طبقة تحمي مكتسباتها وطموحها في الثروة والسلطة. فـ”الحاصل أنّ إيران تمر بعملية تعبئة متواصلة تختلط فيها مطالب الإصلاح السياسي من جانب الطبقات الأكثر حظاً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، بمطالب الفئات المحرومة الأكثر تضرراً من الأوضاع المعيشية الصعبة ومن هيمنة النخبة الدينية على مقاليد الأمور، ما أعاق الدولة وجعلها أسيرة للأيديولوجيا ومبادئها شديدة الراديكالية”، بحسب ما جاء في كتاب “حراك المستضعفين وتآكل مبادئ الثورة الإيرانية”، وهو كتاب من جزئين أحدهما للباحث عبد الرؤوف الغنيمي والثاني لمحمود أبو القاسم.

ويردف: “خلق ذلك الوضع تعبئة ومقاومة متواصلة، نجح خلالها الخميني في طرح مشروع الجمهورية الإسلامية بدلاً من الدولة الشاهنشاهية التي كانت قد وصلت بإيران إلى أفق مسدود”. وقد نجم عن ذلك أنّ الدولة تمضي في دائرة مماثلة تنتهي بها عند المصير ذاته لدولة الشاه. إذ تواجه الثورة الإيرانية اليوم مأزقاً كبيراً في ظل هذه التناقضات التي تجعلها في مواجهة مع وعودها التي لم تتحقق، سواء نصرة “المستضعفين”، أو تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية في ظل “الجمهورية الإسلامية بدلاً من الملكية العلمانية”.

وبالتالي، فإنّ معضلة “الثورة”، التي يحتمي بها النظام في إيران، متمثلة في حيازته ثروات هائلة عبر آليات قمعية، وقد حققت التراكم الرأسمالي بين فئات بعينها، ووصلت الى مستويات مافياوية. هذه الفئات المستفيدة من ارتباطاتها العضوية بشبكات الحكم، ومنهم رجالات الدين، لا تختلف عن الأنماط السائدة خلال فترة حكم الشاه. 

هذا ما تؤكده الاحتجاجات الممتدة منذ عام 1979، مروراً باحتجاجات تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، واستمرت هذه الموجة التي عُرفت بـ”احتجاجات الوقود” حتى عام 2021. فضلاً عن التظاهرات المتواصلة، حتى الآن، بعد مقتل مهسا أميني على يد أفراد دورية “شرطة الأخلاق”. فـ”هي صرخات المستضعفين المدوية، إذ فشلت منظومة الولي الفقيه في الوفاء بالوعود التي قطعتها بتمكينهم. وربما كانت الاحتجاجات الأخيرة هي الصرخة التي اخترقت جدار الصمت. إذ لم تسمع النخبة الدينية الإيرانية الحاكمة مثلها منذ اندلاع الثورة”، وفق كتاب “حراك المستضعفين”.