لدي موعد مؤجل مع طبيب الأسنان لتبييض أسناني. قررت أخيراً أن اقوم بالعملية لإزالة اصفرار سنوات من الملوّنات التي جعلت ابتسامتي صفراء بعد ان انتهيت من عملية شاقة لمحاولة تقويم اعوجاج قديم فيهم، جعل ابتسامتي عوجاء، بل عرجاء وناقصة. و”الإبتسامة الصفراء” في العرف العربي هي الابتسامة المصطنعة لاخفاء استياء أو ارتباك، لستُ أخفيهما فعلياً، بل أريد لهما أن يظهرا في المكان والزمان المناسبين، ولا مجال لفعل ذلك إلا بإعادة الأسنان إلى بياضها الأصلي، واصطناع الضحكة الصفراء متى لزم الأمر. والضحكة الصفراء يصعب اخفاؤها عن طبيب الأسنان، فهو يعلم تماماً متى تكون ابتسامتك مصطنعة، ومتى تكون ناصعة وحقيقية. وطبيب أسناني بالمناسبة يدعى طوني بدر، وهو شقيق صديقة عزيزة، ومسؤول قطاع الطلاب في القوات اللبنانية. تخرّج من جامعة القديس يوسف طبيباً جرّاحاً متخصصاً بجراحة الفم والأسنان، ويعمل في عيادته الخاصة في منطقة الجديدة. كان منهمكاً بشدّة في الأيام الماضية في التحضير للإنتخابات في جامعته القديمة وكان حاضراً مع الطلاب القواتيين في المواجهة “الطالبية” مع “حزب الله” الذي استقدم مناصرين له ليهتفوا كعادتهم “شيعة شيعة شيعة” في جامعة يقول احد مناصري القوات بغضب في فيديو انتشر على مواقع التواصل الإجتماعي إنها “جامعة يسوع المسيح”.
هنا لا استطيع ان اخفي ابتسامة صفراء. ولا أظن انها كانت لتخفى على طوني. فالاشكال الذي وقع بين القوات والحزب، على حقيقته الناصعة، لا يحيد، برأيي، عن دور أحزاب السلطة في شدّ العصب الطائفي لدى الجمهورين على السواء، لتفويت الفرصة على صفاء ابتسامة الطلاب المستقلين الذين شكلوا تهديداً فعلياً للسلطة في جامعات أخرى، ويشكّلون ورقة صعبة في انتخابات “اليسوعية”.
لا شيء كالطائفية قادر على تهشيم أسنان هذه التجربة التي كانت تحاول الإبتسام في زمن التجهّم الإقتصادي والسياسي. وأعطت هذه الإنتصارات الصغيرة لهؤلاء الطلاب في بعض الجامعات الخاصة، شيئاً من الأمل الطفيف الذي يترجم بابتسامة بالشفاه تخفي الأسنان، فلا يظهر بياضها من اصفرارها ولا حتى تهشّمها. وغالباً خلف ابتسامة المستقلين الطفيفة، أسنان مهشّمة، من سنوات من التهميش والتهشيم لكل خيار مستقل يظهر في لحظة ما، ليصار إلى تأطيره بسرعة وربطه بالاصطفافات السياسية والطائفية، لنفي استقلاليته وإعادته بالقوة إلى “السيستم” بوصفه خارجاً عليه. كانت السيستم يتعامل مع أي حراك مستقل على انه اعوجاج في الأسنان، وكان يخضعه لتقويم صارم، فيعيد الإبتسامة إلى “طبيعتها”. وفي حالات بسيطة كان “السيستم” يتعامل مع حالات مستقلة على انها “خرّاج” يتطلب المعالجة الجراحية بعد التغلب على الإلتهابات. في الحالة الأخيرة التي نشهدها منذ تفجير الرابع من آب، هناك ظهور لما يشبه “ضرس العقل” في فم النظام الذي ينخر أسنانه السوس. ضرس عقل في فم مليء بالإلتهابات والأسنان المنخورة والمهترئة السوداء والصفراء من كثرة الدخان والتلوث. ضرس يحاول ان يجد لنفسه مكاناً بصعوبة بالغة. وبألم بالغ لما تبقى من لثة وأسنان، يشقّ طريقه للخروج أبيض ناصعاً جديداً من قلب الإلتهابات والدماء والجير، مسبباً ألماً هائلاً في رأس النظام، الذي لا يجد سبيلاً للتخلص منه إلا بالإقتلاع، مهما تطلّب الأمر.
في الحالة “اليسوعية” فكيّ الكماشة هما “حزب الله” والقوات.
البنج؟ أحدس أن طوني يعرف ما هو البنج المستخدم من قبل “السيستم”. والقوات اللبنانية، كما “حزب الله،” وكما غيرهما تمتلك كميات كبيرة من هذا البنج لاستعمالات شتى. وهو مكوّن من خليط مكثّف من الطائفية والمظلومية السياسية والخطاب المتشنّج وهي مكونّات إذا ما اجتمعت تخدّر موضع الألم في فم التنين(السيستم) ليتسنى له اقتلاع “ضرس العقل” من جذوره بكمّاشة لا تعمل إلا بفكّين، وفي الحالة “اليسوعية” فكيّ الكماشة هما “حزب الله” والقوات. وهذا برز في وضوح في بيان الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات (لادي) التي دانت “الخطاب التحريضي لأحزاب السلطة -لا سيما حزب الله والقوات اللبنانية- والذي تطور الى عنف من تضارب ورشق بالمفرقعات النارية أدى الى سقوط جرحى بعدما استقدم بعض الأحزاب مناصريهم من خارج جامعة القديس يوسف للتجمع عند مداخلها والتحريض الطائفي ما زاد من حدة التوتر”. يعرف طوني ان ابتسامتي لا تزال صفراء. أحاول وانا اكتب رأيي هنا أن أخفي بها استيائي وارتباكي. فهو يعلم أنني اعلم انه شخص عصامي وناجح وكفوء، وأنه في السياسة كما في الطب ارتقى الدرجات واحدة بعد الأخرى للوصول إلى هدفه. وأنا أحترم فيه شجاعته ودفاعه عن افكاره ومعتقاداته، واحترامه لافكار ومعتقدات الآخرين. لكنه يعلم أيضاً انه لن يستطيع أن يقنعني أن القوات ليست جزءاً من المنظومة السياسية الحاكمة، وأنها كانت السبب، عبر تسوياتها التي تتجاوز منطق الدولة، في إيصال هذا العهد “القوي” إلى ذروة “قوته” التي انفجرت بالللبنانيين في المرفأ وهشّمت ما تبقى من أسنان عاصمتنا. يعلم طوني أنني مستاء من القوات اللبنانية ودورها السيء في خدمة “السيستم” عبر اعطائه جرعات البنج الكافية لاقتلاع اي “ضرس عقل” يحاول ان ينبت في أي زاوية من هذا “الجنون”. سيحاول قبل تبييض أسناني في الموعد المقبل أن يقنعني بالعكس. لكنني سأبتسم مرة أخيرة أمامه ابتسامة صفراء، قبل أن يقوم هو بنفسه بتبييضها!