مرت أسابيع منذ نَشْر تقرير يفيد بأن زوجة الصحافي الروسي المنفي أركادي بابتشينكو سمعت صوت طلقات نارية، ووجدت زوجها ملقى على وجهه على أرضية شقتهما في العاصمة الأوكرانية كييف. كان هناك ثلاثة ثقوب واضحة في سترته نتيجة الطلقات النارية، ما يرجح إطلاق النار عليه من الخلف. وكانت هناك أيضاً بركة دماء أسفل جثته، إضافة إلى أن بعض الدم خرج من فمه.
وفي اليوم التالي، ظهر بابتشينكو حياً وفي صحة جيدة خلال مؤتمر صحافي بقيادة جهاز الأمن الأوكراني، ليعلن عن أن الموضوع برمته كان خدعة- أو لدغة مثلما يصفونه في أميركا- للتخلص من المتآمرين في مكيدة دبرها الكرملين لاغتيال نقاده الذين لجأوا إلى أوكرانيا لتكون ملاذاً آمناً لهم.
ومنذ ذلك الحين، تحدث بابتشينكو باستفاضة مع مجموعة صغيرة من زملائه، وفي غضون ذلك مَثُل المشتبه فيه الرئيسي في هذه المؤامرة أمام المحكمة.
تشير التفاصيل إلى وجود عمليات سوداء موسعة، وهي ما اعتاد الجواسيس الروس تسميتها Mokroye Delo، التي تعني جرائم قتل متعاقد عليها، أو وفقاً لمصطلح أميركي أكثر نقاءً: عمليات قتل مستهدفة. وثمة إشارات أخرى إلى أن المتآمرين استدعوا أجهزة الجرائم المنظمة، وهو شيء ليس غريباً في العالم السري المتداخل لأجهزة الاستخبارات والعصابات.
ولكن توجد أيضاً قضايا رئيسية كثيرة مثيرة للقلق حول أفعال بابتشينكو وجهاز الأمن الأوكراني في قضية كان من الممكن أن تلحق ضرراً بصدقيته وبالصحافيين في أوكرانيا وروسيا، أكثر من الضرر الذي ستلحقه بالقتلة المحتملين.
وقد تُرك سؤال من دون الإجابة، بل وفي الغالب من دون طرح، وهو: لماذا كانت تمثيلية بابتشينكو ضرورية من الأساس لإلقاء القبض على المتآمر الذي ظهر في قفص الاتهام؟ إذ إن جميع الإشارات تفيد بأن القضية ضده كانت مُعدَّةً بالفعل. يصاحب المرء انطباع بأن الغرض من اللدغة كان في الأساس الإعلان عن التحقيقات أمام الجمهور، وهو ما تحصل بالتأكيد. ولكن إذا صاحب هذا تسليط الضوء على معلومات جديدة من جراء القضية، فذلك هو ما لم يُفصَح عنه بعد.
هل هم عملاء مزدوجون؟
ظهر المُنظِّم المزعوم لمحاولة الاغتيال، واسمه بوريس هيرمان، في محكمة أوكرانية يوم الخميس 7 يونيو/ حزيران، وأشارت التقارير إلى أنه اعتُقل قبل يوم من هذا التاريخ، أي قبل عودة بابتشينكو إلى الحياة، التي بُثَّت على التلفاز.
ظهر بوريس هيرمان (وتُكتب أيضاً بوريس جيرمان) رجلاً بديناً ذا وجه مستدير ويبلغ من العمر 50 عاماً، وهو صانع أسلحة مستقل مثُل أمام القضاة مرتدياً قميصاً أبيض بأكمام قصيرة. وكان الرجل معزولاً في قفص زجاجي، يمسك برأسه في أغلب الأوقات، أو يهزه كما لو أنه يعاني من ومضات من الألم الجسدي عندما سمع الاتهامات التي كان متورطاً بموجبها في الإرهاب المدعوم من روسيا.
جادل محامي هيرمان بأن شركة الأسلحة التي يملكها موكله، واسمها Schmeisser، تعاونت تعاوناً وثيقاً مع وزير الدفاع الأوكراني، وباعت أسلحة لجيش البلاد استُخدمت في القتال ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا.
والأهم من ذلك، أن هيرمان أعلن أنه كان عميلاً مزدوجاً يعمل في آن واحد لمصلحة أجهزة مكافحة الجاسوسية الأوكرانية وصندوق منظمة مرتبطة ببوتين أو مؤسسة يمثلها “أحد المعارف القديمة” له في موسكو يسمى فياتشيسلاف بيفوفارنيك.
قال هيرمان إن هذا الصندوق الغامض “ينظم الاضطرابات في أوكرانيا”، وكان يتآمر لتنفيذ “هجمات إرهابية” ترمي إلى التأثير في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية العام المقبل. فيما قال ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، إنه ليس هناك مثل هذا الصندوق.
وفقاً لتسلسل الأحداث الذي يرويه هيرمان، اتصل به بيفوفارنيك قبل ستة أشهر وأعلمه بسرعة عما يسمى “أجهزة مكافحة الجاسوسية الأوكرانية”. ادّعى هيرمان أن هؤلاء المسؤولين الأوكرانيين تحدثوا إليه في البداية طلباً للمساعدة في استكشاف مخططات الكرملين المتعلقة بتعاقدات الاغتيال، لكنه احتُجز آنذاك واتُهم بالتعاون مع برنامج إرهابي تنظمه موسكو.
تعتبر أجهزة مكافحة الجاسوسية تابعة، على الأقل تقنياً، إلى جهاز الأمن الأوكراني، وفق ما أشار المدعي العام. كان رد هيرمان كالتالي: “إن جهاز مكافحة الجاسوسية خاصتنا في صراع مع جهاز الأمن الأوكراني. يسحب كل شخص بطرف الغطاء في اتجاهه الخاص، بدلاً من الدفاع عن الدولة سوياً”.
ومثل هذا الاقتتال الداخلي في أوكرانيا هو ما تورط فيه حتى المدعي العام في هذه القضية، وهو وزير الشؤون الداخلية السابق يوري لوتسينكو، وخضع للتحقيق في الماضي لادّعاء ضلوعه في الفساد.
زعماء العصابات
لعل الخلفية الأسرية لهيرمان جعلته خياراً مرجحاً لتنظيم تعاقدات الاغتيال. إذ إن أباه ليف هيرمان يُعرف في أوكرانيا بعلاقاته العميقة مع زعيم عصابة روسي من أصول أوكرانية، وهو سيميون موغيليفيتش، الذي يقال إن لديه علاقات مزعومة مع كبار المسؤولين الروس.
وفي مقابلة أجريت يوم الجمعة 8 يونيو/ حزيران مع موقع The Daily Beast، أكد السفير السابق لأوكرانيا لدى الولايات المتحدة، جون هيربست، الذي يدير الآن مركز أوراسيا التابع للمؤسسة البحثية المسماة “المجلس الأطلسي”، أنه يفهم أن بوريس هيرمان، مثل أبيه “مرتبط بموغيليفيتش”. ويبدو هذا مثيراً للاهتمام بكل تأكيد إذا وُضع في السياق الحالي.
كان موغيليفيتش هدفاً لتحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي حول قضية غش وخداع تعود إلى التسعينات على أقل تقدير (يصادف في هذه الأيام أن واحداً من أعلى ملازميه عاش في برج ترامب).
وعام 2008، اعتقلت الشرطة أخيراً موغيليفيتش، متهمة إياه بقضية تهرب ضريبي بمبلغ مليوني دولار، لكن أُخلي سبيل زعيم العصابة في العام التالي إنما افتُرض أنه لا يشكل “خطراً على عامة الشعب”.
ليست تلك هي الطريقة التي نظر بها مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى الأمر. فقد وضعه المكتب ضمن قائمة أكثر 10 شخصيات مطلوبة عام 2009، وأشار إلى أن قضية الغش والاحتيال التي اتُهم فيها كانت عنصراً واحداً صغيراً نسبياً من “منظمة إجرامية دولية” كبيرة.
اشتمل المؤتمر الصحافي لمكتب التحقيقات الفيدرالي حول هذا “المحتال العالمي والمجرم القاسي” على هذه التصريحات التي أدلى بها أحد العملاء الذين كانوا يلاحقون موغيليفيتش:
قال العميل الخاص بيتر كوهينهوفن “ليست لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي سلطة قضائية لاتهامه بجرائم أخرى وقعت منفردة في بلاد أخرى. لكن توضح تقارير مفتوحة المصدر أنه ضالع في عمليات تهريب أسلحة، وتعاقدات اغتيال، وابتزاز، وتهريب مخدرات، ودعارة على مستوى دولي”.
وأضاف كوهينهوفن أن “الضحايا لا يعنون شيئاً له. وما يجعله خطيراً أنه يعمل من دون حدود. لدينا شخص دبر عملية نصب على المستثمرين بمبلغ قدره 150 مليون دولار من دون حتى أن تطأ قدمه في منطقة فيلادلفيا”.
موغيليفيتش، الذي تجاوز عمره الستين عاماً، يبلغ طوله 168 سنتم ووزنه 136 كلغ، وفي وجهه بثور، وربما شارب، إضافة إلى أنه يدخن كثيراً. يعيش موغيليفيتش في موسكو، حيث يحظر القانون الروسي تسليمه للولايات المتحدة.
يتحكم موغيليفيتش عبر شبكته الإجرامية الدولية الموسعة في خطوط أنابيب غاز طبيعي ممتدة في أوروبا الشرقية، ويستخدم ثروته وسلطته ليس لتوسيع حجم منظمته الإجرامية وحسب، بل للتأثير في الحكومات واقتصاداتها، وفق ما يقول كوهينهوفن.
وأضاف: “يتعلق الأمر برمته بالمال – المال والنفوذ. وما تقشعر له الأبدان أنه يبدو عازماً للعمل مع أي مجرم، بغض النظر عن أيديولوجيته”.
تضمنت شبكة غسيل الأموال لموغيليفيتش 27 دولة حول العالم، وفقاً لإشعار قائمة “أكثر المطلوبين” الذي أصدره مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن سيميون موغيليفيتش عام 2009.الراهب الذي حصل على العقد
يقول المدعي العام الأوكراني يوري لوتسينكو إن أجهزة المخابرات الروسية كانت وراء المؤامرة المزعومة لقتل بابتشينكو، وأوكلوا لهيرمان مهمة ربط كل الخيوط ببعضها بعضاً، ثم بعد ذلك استأجر هيرمان، أوليكسي تسيمبالايوك Oleksiy Tsymbalyuk، وهو راهب سابق ومن قدامى المحاربين في الحرب في شرق أوكرانيا.
قال هيرمان إنه أوكل المهمة إلى تسيمبالايوك، مقابل دفعة أولى قدرها 20 ألف دولار، من عقدٍ قيمته 40 ألف دولار، وقع الاختيار على تسيمبالايوك بالتحديد لأن هيرمان علم أن مثل هذا المحارب المتدين لن يقدم على قتل رجل غير مسلحٍ.
شهد أيضاً صديق قديم لتسيمبالايوك، على صفاته الشخصية، وهو تيمور نيشنيندزاي، وهو ديبلوماسي جورجي سابق عمل في أوكرانيا، إذ قال لموقع “دايلي بيست” Daily Beast، الإخباري في مقابلة هاتفية، “إن من يُطلق عليه لقب “قاتل مأجور” هو قومي أوكراني، ووطني مخلص لأوكرانيا، وهو أيضاً صديقي، إنه رفيق طيب ومرح للغاية، وذو سمعة طيبة في أوساط الأجهزة الأمنية الأوكرانية وفي الجيش”.
وقال نيشنيندزاي، لموقع “دايلي بيست” The Daily Beast، “أخبرنا تسيمبالايوك في اجتماع خاص عقد أخيراً إن بعض الرجال جاؤوا إليه وعرضوا عليه آلاف الدولارات لقتل الصحافي الروسي بابتشينكو. أخبر تسيمبالايوك على الفور جهاز أمن أوكرانيا، وأضاف نيشنيندزاي بأن ذاك كان واجبه الأخلاقي.
لا يعترض أحد على تعاون تسيمبالايوك، مع جهاز أمن أوكرانيا SBU، أو حتى حدوث تبادل مال خلال لقاءٍ في سيارة.
ولكن إذا كان تسيمبالايوك، يعمل مع الشرطة وكان هناك بالفعل دليل يدين هيرمان- الذي ربما كان يعمل لمصلحة فرع آخر للجهاز الأمني ذاته- فما هو الغرض من وراء هذه اللدغة؟ هل كان ذلك لملء ثغرة ما في القضية ضد بوريس هيرمان؟ هل كانت إضافة إلى ذلك تسعى إلى مزيد من التوريط لشريكه المزعوم في صندوق بوتين الغامض؟ وهل كان الغرض هو أن يفتضح أمر الجواسيس ضمن جهاز أمن أوكرانيا من خلال ردود أفعالهم؟ ربما حققت وفاة بابتشينكو المفبركة عدداً من المنجزات، لكن لا شيء قُدم حتى الآن ليظهر لنا حقيقة تلك الأمور. الأمر الوحيد المؤكد هو أن هذا الموت المفبرك خلق ضجة كبيرة.
في غضون ذلك، ما فعلته المعلومات التي نُشرت بالفعل حتى الآن في شأن القضية؛ هو إثارة الرعب بين مجموعة كبيرة من الناس في أوكرانيا، وكثيرون منهم صحافيون، وربما يكونون على لائحة المستهدفين بالقتل، المزعومة من قبل الكرملين، وكل هذا ينذر بمزيد من السوء؛ لأنه لم يتم إخبار الناس بماهية الأسماء.
جيمي شيلتر
صرح المدعي العام لوتسينكو يوم الجمعة، بأن عدد الأشخاص المدرجين في قائمة الاغتيالات التي يزعم أنها أُعدت من قبل المخابرات الروسية ومُررت إلى هيرمان، كان أعلى بكثير من القائمة الأصلية التي تضم 30 اسماً المذكورة في مؤتمر جهاز أمن أوكرانيا الصحافي الخاص بإعلان فبركة موت بابتشينكو في الأسبوع الماضي. يتحدث المدعي العام الآن عن عدد أسماء في حدود 47 اسماً.
وقال مصدر يحصل على المعلومات من الأجهزة الأمنية، لموقع دايلي بيست، إن القتلة المزعومين كانوا سيختارون ضحية أو اثنتين من هذه القائمة التي تضم حوالى 48 شخصاً. وربما كانت الفكرة استهداف شخص ما، يمكن أن يؤدي موته إلى إحداث فضيحة كبيرة قدر الإمكان، لكن من سيكون هذا الجاهل الذي يسهل استهدافه. ويقول محققون أوكرانيون إنهم حصلوا على مراسلات بين المنظمين المزعومين للائحة المستهدفين بالقتل، تدور حول مناقشة السعر على رأس سياسي أوكراني.
يرتاب بعض الصحافيين في أوكرانيا للغاية من القضية التي قدمتها الحكومة حتى الآن. ويخشون أن يكون ما يسمى “قصة قائمة السبعة والأربعين مغتالاً” تلك إنما يقصد بها المزيد من الضغوط على عاتق الدوائر الصحافية المثقل بالفعل. ومن خلال نشر قائمة كهذه، يخبرهم جهاز أمن أوكرانيا بشكل أساسي أن الطريق للبقاء آمنين يكون من خلال العمل مع الأجهزة الأمنية. وهذا ما جعل بابتشينكو يقول إنه قرر المشاركة وتمثيل الدور. شعر بأن لا خيار لديه.
نُشرت قائمة يزعم أنها تضم 47 اسماً بواسطة موقع strana.eu، وهو موقع إخباري أوكراني. وطبقاً لأحد المصادر هناك، فقد سلمها هيرمان إلى أجهزة المخابرات قبل حادثة مقتل بابشينكو المفبركة. هناك أيضاً تكهنات بأن جهاز أمن أوكرانيا هو من كتب القائمة بنفسه.
كتبت ايكاترينا سيرجاتسكوفا، وهي واحدة من الذين تضمنتهم القائمة المسربة، على صفحتها على “فيسبوك”: “تلقيت استدعاءات يوم الإثنين 4 مايو/ أيار من جهاز أمن أوكرانيا، إذ قيل بوضوح إنني شاهدة في قضية بابتشينكو التي كانت ضد بوريس هيرمان. لماذا اعتبروني شاهدة؟ ماذا أعرف عن القضية؟ أثناء الاستجواب، كنت ما زلت لا أفهم لماذا اعتبروني شاهدة، لماذا استدعوني وما الذي قد أعرفه عن هذه القضية”.
تدير سيرجاتسكوفا مشروعاً طبياً يسمى Banned، يوثق الموضوعات المراقبة في أوكرانيا.
لو كان لدى جهاز أمن أوكرانيا سمعة أفضل بين الصحافيين، لكان التعاون مقبولاً أكثر، لكن إضافة إلى العامل “47” الجديد الذي يركز على الخطر الروسي، تنبّه الصحافيون الأوكرانيون إلى أنهم يجب أن يروا تحقيقاً لائقاً في قضية اغتيال صديقهم بافل شيرميت، صحافي جريدةUkrainskaya Prabada. لقد نُسف في سيارته في يوليو/ تموز 2016. تلقى بافل وصديقته أولينا بريتولا، الصحافية في الجريدة ذاتها، تهديدات بالموت بسبب انتقادهم السلطات الأوكرانية، وأيضاً كانا قد اشتكيا من تعقب شخص ما لهما.
سجل الاغتيالات الواسع في أوكرانيا هو ما يجعل التهديدات تؤخذ على محمل الجد. وقال السفير هيربست في نهاية المطاف “الشيء المهم هو أن هناك عدداً كبيراً من الاغتيالات لشخصيات أوكرانية معارضة لروسيا ومقاتلين أوكرانيين ذوي التأثير في شرق أوكرانيا [الدونباس] “.
إن كانت قضية بابشينكو لفتت الانتباه إلى هذا الواقع وساعدت على تجنب عمليات قتل واغتيال أكثر، وبشكل فوضوي وفق ما أثبتت هذه الخدعة، فيجب أن توضع على الجانب الإيجابي.
* آنا نيمتسوفا من موسكو وكريستوفر ديكي من باريس.
هذا المقال مترجم عن the daily beast ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي