قبل نحو سبع سنوات، اختار اللاعب أنور الغازي، المولود في هولندا لأبوين من أصول مغاربية، تمثيل بلد المولد لا بلد الأجداد، بعد أن استدعاه المدرب داني بليند للمشاركة مع المنتخب الهولندي في تصفيات كأس أمم أوروبا 2016. لاحقاً، دافع الغازي الذي يلعب لأيندهوفن الهولندي عن قراره، وتحدث في أكثر من مقابلة صحافية عن تعرضه لضغوط من والده وأسرته ومحيطه كي يمثل المغرب، لا هولندا، في مقابل نصائح معاكسة أتت من طرف “نادي أياكس أمستردام”، الذي كان يلعب له حينها، وكذلك من طرف اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو، بعدما استأنس الغازي برأيه.
“إذا اخترت هولندا فسيعتقد المغاربة أنني لست مغربياً حقيقياً، وإذا اخترت المغرب، فسيقول الهولنديون أنني لم أهتم بالمكان الذي تربيت به”، قد تكون هذه العبارة الأخيرة التي قالها الغازي في أحد تصريحاته، بالغة الدلالة بشأن مسائل الهوية والانتماء والاندماج والمواطنة وغيرها، وهي المسائل التي انفتح النقاش بشأنها مجدداً مع المشاركة اللافتة للمنتخب المغربي في النسخة الحالية من كأس العالم.
فعلى عكس الغازي، قرر لاعبون مغاربة من أبناء الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين تمثيل البلد الذي ينحدر منه آباؤهم، بدلاً من تمثيل البلدان التي ولدوا وترعرعوا فيها ويحملون جنسيتها ويجيدون لغتها (في بعض الحالات لا يجيد بعض هؤلاء اللاعبين لغة الدولة التي يمثلونها رياضياً). وقد تكون مفارقة لافتة أن اللاعب المغربي أشرف حكيمي، الذي انبرى لتنفيذ ركلة الجزاء الأخيرة خلال مباراة المغرب وإسبانيا في الدور ثمن النهائي من البطولة، وهي الركلة التي أطاحت بالإسبان من المونديال، من مواليد العاصمة الإسبانية مدريد، ولعب لناديها الأشهر ريال مدريد، قبل أن يواصل مسيرةً احترافيةً قادته للعب لحساب أندية أوروبية بارزة أخرى.
أحاول في هذه المقالة، الإشارة إلى نقاط عدة قد يجدر أخذها بالحسبان، عند التفكير بالقرارات والمسارات المركبة للاعبين المغاربة، وغيرهم، سواء عند اختيارهم تمثيل منتخبات الدول التي ولدوا فيها، أو اللعب لمصلحة منتخبات الدول التي ينحدر منها الآباء.
“إذا اخترت هولندا فسيعتقد المغاربة أنني لست مغربياً حقيقياً، وإذا اخترت المغرب، فسيقول الهولنديون أنني لم أهتم بالمكان الذي تربيت به”
أولى هذه النقاط تتعلق بأسلوب حياة تختاره فئات من مجتمعات المهاجرين، تنغلق فيها على نفسها، وتتبادل العداء مع المجتمعات المضيفة، مفضلة، قدر الإمكان، الاحتفاظ بكامل عاداتها من مأكل ومشرب وملبس ولغة تواصل وأسلوب حياة، وصولاً حتى إلى التعليم، وهو ما يؤثر بالطبع في خيارات أبناء هذه الفئات اجتماعياً ومهنياً وسياسياً، ويرمي بهم في أزمة هوية قاسية، ويحرمهم من ميزات المواطنة المتاحة لهم، بل قد يدفعهم هذا الشعور بالاغتراب باتجاه الانضمام إلى جماعات متطرفة، وهو ما تسهم فيه مراكز قرار سياسي وإعلامي وديني في المنطقة العربية، تبدو مهتمة بالغرب حد الهوس، هذا على رغم قصص النجاح الفردي والمجتمعي التي يسجلها مواطنون أوروبيون من أصول مهاجرة، على مختلف الأصعدة السياسية والمهنية، بما في ذلك لاعبو كرة قدم بالطبع.
لكن المشهد ليس وردياً دائماً في ما يتعلق بالأوضاع في البلد المضيف، على رغم حقوق المواطنة وسيادة القانون، فالنقطة الثانية التي أود الإشارة إليها، تتعلق بحالات رفض وعنصرية (بعضها ممأسس وممنهج) لطالما تعرض ويتعرض لها مهاجرون في بلدان المهجر، قد تدفع بعض هؤلاء باتجاه البحث عن الجذور، والانشداد إلى بدائل متاحة، قد تقبلهم كما هم بدون شروط، وهي قريبة نفسياً، وجغرافياً إلى حد ما.
ثالث النقاط التي يجدر التفكير فيها، بتقديري الشخصي، هي أن الهويات مسألة مركبة ومتعددة وسيالة، وليست أحادية الجانب، فلا شيء يمنع لاعباً في أي منتخب شمال أفريقي من أن يكون أوروبياً وفرنسياً (مثلاً) وأفريقياً ومغربياً ومسلماً وأمازيغياً وعربيّ الثقافة ويمينيّ السياسة (مثلاً) في الوقت نفسه. وكان من اللافت في الجدل الدائر على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام التقليدي، محاولة فرض هوية واحدة على اللاعبين المغاربة أو إسقاط أجزاء من هويتهم عنهم، فعمد إسلاميون إلى اختصار الإنجاز المغربي بدين غالبية عموم سكان البلد، وسار على نهجهم قوميون عرب، بينما ذهب في اتجاه معاكس ثقافويون وأقلويون، إذ ركزوا على البلدان التي ولد فيها بعض اللاعبين المغاربة، واعتبروهم منتجاً غربياً أصيلاً، أو أمازيغياً بحتاً.
والنقطة الرابعة، على علاقة بالنقطة السابقة، إذ كان لافتاً أن الإنجاز المغربي خصوصاً، والمشاركة العربية في المونديال عموماً، كشفا عن، أو ربما أعادا التذكير برابطةٍ ما تجمع أبناء البلدان التي تقطنها أغلبية سكانية عربية، وبدا ذلك واضحاً في احتفاء أصيل وواسع الانتشار، بكل انتصار حققه منتخب عربي في المونديال، من الفوز السعودي على الأرجنتين، وصولاً إلى بلوغ أسود الأطلس للدور نصف النهائي، مروراً بالانتصار التونسي على فرنسا. واللافت في هذه الرابطة أنها ظهرت بشكل عفوي بعيداً من أي توجيه مركزي أو استثمار سياسي أو إعلامي.
إقرأوا أيضاً:
لكن نقطة أخرى خامسة تتعلق بالمغرب تحديداً، وتجعل من المفهوم أكثر أن يفضل لاعبون من أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المغاربة اللعب لهذا المنتخب، فعلى عكس كتلة وازنة من الدول العربية والأفريقية، يمثل المغرب نموذجاً واضحاً لدولة- أمة راسخة بنظام تقليدي وسلطة مركزية، تكيّفا مع تقلبات تاريخية وتحديات متعددة، ما منح تلك البقعة طابعاً خاصاً، وساهم بارتباط أبنائها والمنحدرين منها بها بطريقة مغايرة لما تعرفه دول مجاورة للمغرب وقصية عنه.
أما النقطة السادسة، فهي فردية بحتة، وتتعلق بالخيارات البراغماتية للاعبين، وبحثهم عن النجاح والشهرة والمجد، فاللعب في بطولات الأمم القارية أو كؤوس العالم، هو حلم الكثير من اللاعبين وفرصة للحضور على أكثر من مستوى، وإذا استثنينا ثلاثة أو أربعة لاعبين من المنتخب المغربي من مزدوجي الجنسية، فإن من تبقى منهم ما كان له أن يجد طريقاً سهلاً للانضمام إلى منتخبات البلدان الأوروبية التي ولدوا فيها، وحتى حكيم زياش، نجم تشلسي الإنكليزي والمولود في هولندا، ربما كان سيواجه منافسة شرسة لإيجاد موطئ قدم ثابت له في المنتخب الهولندي الزاخر دائماً باللاعبين المميزين، بينما سيكون مفهوماً أن يفضل الحارس ياسين بونو تمثيل منتخب شارك في كأس العالم في أكثر من مناسبة، عدا حضوره الدائم في أفريقياً على منتخب ليس له حضور بارز في عالم كرة القدم، أي كندا (بونو من مواليد مونتريال ويحمل الجنسية الكندية). علماً أن أنور الغازي، الذي استهللت هذا المقال بالحديث عنه، حاول الانضمام للمغرب مؤخراً، لأن مدربي المنتخب الهولندي توقفوا عن استدعائه بعد تمثيله منتخب الطواحين في مناسبتين فقط.
والنقطة السابعة والأخيرة لها وجهان، وجهها الأول، هو أن كثيراً من اللاعبين المنحدرين من أصول شمال أفريقية مثلوا منتخبات أوروبية (هل علينا فعلاً التذكير بزين الدين زيدان وكريم بنزيما وسمير نصري ومروان فلاييني وخالد بولحروز)، ووجهها الثاني يتجسد في أن تمثيل لاعبين مهاجرين لدول ينحدر منها الآباء، لا يقتصر على المهاجرين من دول ذات غالبية عربية ومسلمة، كما أنه لا يقتصر على كرة القدم، بل يمتد إلى رياضات أخرى وهو حالة شائعة لدى كثير من البلدان التي تملك كتلاً سكانية مهاجرة كبرى (وفي حالة دولة متناهية الصغر مثل سان مارينو، فإن مايلز أمين نال ميدالية برونزية بلعبة المصارعة في أولمبياد طوكيو 2020، برغم أنه مولود في الولايات المتحدة، وله أصول لبنانية، إلا أنه مثل سان مارينو، لأن جدّه لأمه ينحدر من ذلك البلد الأوروبي الصغير).