fbpx

كُردستان… الصيد الجائر بأسلحة لمحاربة “داعش”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

التمرين على قتل الطيور والحيوانات لم ينتهِ بعد. في إقليم كُردستان العراق، كما في جنوبه، يتم قتل أي كائن يتحرّك من دون سبب يذكر، مثلاً يتم قتل طائر الغراب وصيده، علماً أن لحمه لا يؤكل…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اعتاد سكّان مدينة أربيل في كُردستان العراق على رؤية طائر لقلق (مهاجر- مقيم) فوق منارة جامع في مدينتهم لسنين طويلة. كان لقلق المنارة كما سمّاه أهل أربيل، يغيب في مواسم الهجرة ويعود ليستقر فترة فوق مئذنة جامع الخانقاه، وأصبح جزءاً من ذاكرة المكان.

في أحد أيام الحرب الداخلية بين الحزبين الكرديين (الاتحاد الوطني الكُردستاني والحزب الديموقراطي الكُردستاني) في العقد الأخير من القرن المنصرم، صوّب أحد المقاتلين فوهة بندقيته نحو لقلق المنارة وأرداه قتيلاً، وقضى بذلك على جزء من ذاكرة المدينة. هل كان ذلك المقاتل من صنف المقاتلين الذين تحدث عنهم الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشة: “حين يضيع المقاتل أثر عدوّه، يطلق النار على نفسه”، أم أنه كان نموذجاً “كُردياً” مرّن يديه على تصويب اللقلق وفرّغ بندقيته من فراغ لم تملأه له الحرب؟

إنه ليس سؤالاً عن الأمس، بل نسأله اليوم وربما غداً، ذاك أن التمرين على قتل الطيور والحيوانات لم ينتهِ بعد. في إقليم كُردستان العراق، كما في جنوبه، يتم قتل أي كائن يتحرّك من دون سبب يذكر، مثلاً يتم قتل طائر الغراب وصيده، علماً أن لحمه لا يؤكل.

تصوير كورش آرارات

يحتل كُردستان اليوم الموقع الثاني في الصيد الجائر في الشرق الأوسط. لا قوانين فعالة تمنع صيد عشوائي يفتقد للمبادئ والأساليب العلمية بحسب الأستاذ الجامعي والناشط في مجال التنوع الحيوي كورش آرارات. صيادون لا يملكون حتى رخصة الصيد، يصطادون ويقتلون بأسلحة جديدة ومتقدمة، ناهيك عن استخدامهم بنادق صيد تصيب أعداداً كثيرة من الطيور أثناء إطلاق النار وذلك بسبب طلقاتها الانشطارية. ويتحدث كورش عن انتشار أنواع متقدّمة من الأسلحة في السوق السوداء أثناء حرب “داعش”، يتم تجريبها في صيد حيوانات وطيور كُردستان وقتلها. ويقول الناشط: “سجّلنا حالات كثيرة في الجبال المحيطة بمدن كُردستان، كيف يستخدم الصيادون الأسلحة الجديدة التي دخلت البلاد لمحاربة الإرهاب، إنما منتشرة في السوق السوداء وتستخدم للصيد الجائر وتفريغ هوايات الصيادين من دون أن يعترضهم أحد”.

وقد أثّرت الحروب المتعاقبة وتجريب أسلحة كثيرة في كردستان، في حياة الطيور والحيوانات البرّية، بخاصة استخدام الأسلحة الكيماوية في نهاية ثمانينات القرن المنصرم من قبل الحكومة العراقية. ويشير آرارات في هذا الشأن إلى مفارقة من مفارقات تلك الحروب، وهي “بقاء الطيور في المناطق المزروعة الألغام الشخصية في أمان، وذلك بسبب بقائها بعيدة من النشاط الإنساني”.

الحاجة إلى المياه، الحاجة إلى البيانات

لا تنجو الحيوانات البرّية والجبلية من واقع كُردستان المرير في ما خص الحياة البرّية، فهي أيضاً عرضة للقتل والصيد الجائر، بخاصة في فصل الصيف إذ تضطر إلى التنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن المياه والغذاء. تشير الباحثة في مكتب السليمانية لمنظمة طبيعة العراق هانا أحمد، إلى أن رحلة البحث عن المياه تُعرّض الحيوانات لخطر القتل والصيد الجائر. “في جبال قرداغ الواقعة جنوب مدية السليمانية مثلاً، تجف العيون في فصل الصيف ولا تبقى سوى عيون محدودة تتجه إليها الحيوانات وتصبح فرائس سهلة للصيادين. وقد تعرّض الغزلان في منطقة كرميان لحالات العمى بسبب العطش وانعدام مصادر مياه الشرب في فصل الصيف الطويل”. وتتحدث هانا عن مشكلة أخرى في ما خص الصيد الجائر وهي وجود مسؤولين سياسيين وعسكريين يقومون بالصيد الجائر أو يحمون من يقوم بذلك. وتعجز الجهات المحلية المكلفة، بما فيها شرطة الغابات، بالوقوف أمامهم وحماية الطبيعة والتنوع الأحيائي منهم.

إلى جانب ذلك، تشير الباحثة إلى واقع مرير آخر يواجه التنوع الأحيائي، وهو وصول الإنسان إلى مستعمرات الحيوانات الجبلية والبرّية وجعلها مساحات للنشاط البشري، ويتم القضاء تالياً، على مصادر غذائها وشربها، ويجبرها على الرحيل أو التوجه إلى القرى والبلدات أو المدن. المشكلة متفرعة ومتسلسلة، فحين يتم القضاء على الحيوانات العاشبة من خلال الصيد الجائر والعمران القسري، تضطر الحيوانات اللاحمة إلى التوجه إلى الأماكن التي يتوفر فيها الغذاء. من هنا يبدأ الاختلال في النظام البيئي الذي يقتضي وجود جميع الحيوانات. تالياً، إن تخريب مستعمرات الحيوانات البرّية وتدميرها بحسب هانا، يؤدي الى تقليص أعدادها وتغيير نمط حياتها وتكاثرها. “لا يمكن أن تستمر النمور في الحياة وتتكاثر حين تتعرض بيئاتها ومصادر غذائها للتدمير، الافتقاد للغذاء يعني انقراض الحيوان، تحديداً الكائنات اللاحمة”.

تصوير كورش آرارات

بغية دراسة تأثير التغيير المناخي والصيد الجائر في التنوع الأحيائي في كُردستان، يعتمد العاملون في (طبيعة العراق) على مراقبة المناطق التي يعملون فيها، والمقارنة بين ما يحدث الآن من تغييرات بيئية وبين الماضي، ذلك أن المنظمة كما تقول هانا “لا تمتلك قاعدة بيانات دقيقة حول الآثار التي تركها التغيير المناخي على عدد الحيوانات في كُردستان، أما تأثيراته في الطبيعة وتنوعها الحيوي، فالأمر واضح، ولو قمنا بمقارنة بسيطة بين نسبة سقوط الثلوج في ثمانينات القرن المنصرم واليوم، نلاحظ الفرق الشاسع”.

وضعت طبيعة العراق قاعدة بيانات للحيوانات البرّية منذ بداية عملها عام 2006، إنما تبقى مثل هذه البيانات ناقصة ما لم تتم مقارنتها مع بيانات قديمة. تالياً، معرفة الباحثين في المنظمة بأعداد النمور والماعز الجبلي والحيوانات الأخرى في كردستان، اليوم دون الأمس، لا تساعدهم على تحديد الآثار التي يتركها التغير المناخي في الحياة البرّية وتنوعها الحيوي.

مدن مرتجلة على أنقاض الغابات

يشير واقع القرى الكُردية إلى تقليص أنواع كثيرة من الأحياء بالمقارنة مع الماضي، وبشكل خاص القرى الواقعة في المناطق السهلية. يتحدث رجل، إسمه حسن محمود، من منطقة كرميان جنوب شرقي مدينة كركوك، عن اختفاء طيور مهاجرة كانت تأتي وتستوطن في المنطقة في الشتاء والربيع مثل الزرازير والسنونو، “لكننا لم نعد نرى هذه الطيور”. يعلق كورش على هذا الواقع بالقول: إن امتداد التوسع العمراني إلى القرى في ظل احترار مستمر، إذ يحل فيه السمنت محل البيوت الطينية التقليدية، عاملاً آخر من عوامل اختفاء أنواع من الطيور إذ كانت تشكل البيوت التقليدية بيئة صحية لها. البيوت الاسمنتية تجبرها على الهروب والبحث عن ملاذات أخرى أو تتعرض للانقراض”. ويشير الباحث إلى خلو منطقة الشهرزور من طيور الدرّاج تقريباً للسبب ذاته. ولم ينسَ كورش الإشارة إلى تأثير أبراج الاتصالات في حياة الطيور ومسارات هجراتها الفصلية.

يُلحظ انتشار أنواع متقدّمة من الأسلحة في السوق السوداء أثناء حرب “داعش”، يتم تجريبها في صيد حيوانات وطيور كُردستان وقتلها

تمتد تأثيرات التوسّع العمراني والقضاء على المساحات الخضراء على الحشرات أيضاً. تابعت هانا أحمد هذه التأثيرات في مناطق هَورامان الملائمة لتربية النحل واكتشفت تغييرات جذرية حصلت في السنوات الأخيرة إذ يصعب إبقاء النحل الذي يُعتبر دوره مهماً للغاية في التوازن البيئي. تقول هانا، “لقد قلّت أعداد النحل في كُردستان وأصبح من الصعب تربيته اليوم، وذلك بسبب التلوث في البيئة والغذاء واستخدام مبيدات حشرية مضرة في الزراعة، تؤثر في صحة النحل وتكاثره ونموه، كما تؤثر في انتاجيته. هناك حالات غربية تحصل في حياة النحل بكردستان إذ يصنع الخلية من دون إنتاج عسل، لأنه وبسبب التوسع العمراني على حساب المساحات الخضراء والمواد الكيمياوية الزراعية، لم يعد منتجاً.

يذكر أن ظهور مدن مرتجلة بعد 2003 في محيط المدن الحالية وأطرافها، قضى على الغابات الطبيعية التي كانت تشكل البنية التحتية الوحيدة للتنوع الحيوي بعدما تعرضت غالبية مصادر المياه للجفاف والتلوث والاحتضار. ولم تتحرك الحكومة لوضع حد للبناء العشوائي الذي شجعت طفرة “مالية” موقتة على انتشاره، وبقيت القوانين المتعلقة بالبناء والاستثمار من جهة، وقانون غابات إقليم كُردستان- العراق لعام 2012 من جهة أخرى، أسيرة النفوذ الحزبي والعسكري “للقادة” السياسيين. ففي محافظة دهوك غرّمت الحكومة جزّار ثلاثة آلاف شجرة بمبلغ لا يتجاوز 2500 دولار أميركي. كل ذلك على حساب التنوع الأحيائي والنظام البيئي، وعلى حساب القانون بطبيعة الحال.

تصوير كورش آرارات

على رغم وجود هيئة خاصة بها، لا تحتل البيئة في سياسات حكومة إقليم كُردستان مساحة تذكر، ويعود سبب ذلك برأي هانا أحمد الى “حصر جميع القرارات بيد رئيس مجلس وزراء الذي يتركز جل اهتمامه على النفط وليس البيئة، فإذا تم العثور على حقل نفطي داخل محمية طبيعية، يعتبر بمثابة ذلك خسارة له، لأنه لا يستطيع استثماره”. مشكلة أخرى من مشكلات البيئة في كُردستان هي عدم الاهتمام بالبحث العلمي من جانب، وضعفه إن وجد من جانب آخر. تالياً، باستثناء ضغوط الناشطين البيئيين، لا تؤثر الأبحاث الجامعية حول حماية البيئة والتنوع الأحيائي في سياسات الحكومة.

هل من حلول؟

تعمل طبيعة العراق الآن مع هيئة حماية البيئة على تأسيس محمية طبيعية في منطقة قرداغ، جنوب مدينة السليمانية، إذ تعتبر من المناطق المهمة والمناسبة للتنوع الأحيائي عالمياً. إن الموقع الجغرافي للمنطقة، يبدو كواد منفصل عن محيطه، فيه نباتات، ثديات، زواحف وطيور تنقرض ما لم تتم حمايتها. تقول هانا أحمد، “إذا تم تحويل هذه المنطقة إلى محمية طبيعية نعمل على تفعيل القوانين وسبل تنفيذها وتكثيف التوعية ودعم السياحة البيئية”. ويحتاج هذا المشروع إلى إدارة جيدة وحديثة من شأنها خلق أجواء بيئية وعلمية لإجراء البحوث والدراسات الخاصة بالتنوع الأحيائي في كُردستان.

بحسب الباحثة، أصبح وجود وزارة خاصة بالبيئة وقوانين خاصة بها ضرورة ملحة في كُردستان، وترى أن فرض قانون حماية البيئة على الحكومة بشكل لا يمكنها النفاذ منه، شرط من شروط الحفاظ على النظام البيئي. إن حماية مساحات الخضراء والتنوع الأحيائي بالنسبة إلى هانا، “تتجسد في تأسيس محميات طبيعية وتجنيد أعداد كثيرة من الناس وجعلهم حماة التنوع الحيوي، ذاك أن انقراض الحيوانات ما هو إلا مقدمات لانقراض البشر، تالياً علينا توعية الناس بأن المحافظة على النباتات والحيوانات لها علاقة مباشرة بحياتهم ومستقبلهم”.

وفي سياق البحث عن إيجاد حلول تحول دون الاختلال بالتنوع البيئي، يقول كورش “تجب المحافظة على طبيعة تلك المناطق التي تتصف بتنوعها الأحيائي وعدم تبليط طرق الوصول إليها، ذاك أن التبليط والأساليب العمرانية الحديثة تدمر مستعمرات الطيور والحيوانات الطبيعية”.

نمر في جبال كردستان – الصورة من منظمة طبيعة العراق

كُردستان ملاذاً على رغم الصيد الجائر

وفق مسح أجراه كورش وزملائه في طبيعة العراق، هناك بين 230 الى 350 نوعاً من الطيور في كُردستان و410 أنواع في عموم العراق. ما يقارب 19 نوعاً من هذه الأنواع مهدد بالانقراض في عموم البلاد، و9 أنواع في كردستان. قلّت أعداد طيور الحباري التي تقطن في المناطق السهلية مثل جنوب العراق ومناطق دربنديخان في محافظة السليمانية، كما تتعرض طيور مثل عقاب الملك وصقور البراري للانقراض في عموم البلاد بسبب قلة الغذاء.

ولكن هناك حالات أخرى يمكن النظر إليها بإيجابية، مثل لجوء طائر الرخمة المصرية، الذي قلّت أعداده عالمياً، إلى جبال كردستان في الصيف وذلك بسبب بيئتها الملائمة له. يتمثل جانب من جوانب التغير المناخي في نمط حياة الطيور إذ أصبح بعض منها طيوراً مقيمة مثل اللقلق الذي نراه حتى في الشتاء وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة. كما هناك طيور تتجه إلى كردستان من روسيا مثل وزة ذات الواجهة البيضاء، وزة حمراء الصدر، وتقطع هذه الطيور التي قلّت أعدادها اليوم في العالم، مسافات طويلة للوصول إلى هنا، كما هناك نوع من الحبش الأخضر وطير المينا، أصبحا من الطيور التي تأقلمت مع بيئة كردستان.

هذا الموضوع تم انجازه بدعم من مؤسسة Rosa-Luxemburg-Stiftung’s Beirut Office 

إقرأ أيضاً:
التغيّر المناخي وراء كارثة البحر الميت… ومؤشرات إلى مزيد منها

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!