fbpx

لا الأتاتوركيّة ولا الإردوغانيّة في صِيغ عربيّة أردأ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يقدّم تاريخ تركيّا الحديثة عيّنة نموذجيّة عن التعرّض لاستبدادات ذات مصادر متعارضة، بل متناقضة ومتحاربة. واكتمال الصورة التركيّة هذه وصفاؤها إنّما يغريان بالعودة إلى مُصغَّراتها العربيّة الأقلّ اكتمالاً وصفاءً وأهميّةً في آن.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يقدّم تاريخ تركيّا الحديثة عيّنة نموذجيّة عن التعرّض لاستبدادات ذات مصادر متعارضة، بل متناقضة ومتحاربة. واكتمال الصورة التركيّة هذه وصفاؤها إنّما يغريان بالعودة إلى مُصغَّراتها العربيّة الأقلّ  اكتمالاً وصفاءً وأهميّةً في آن.

ففي تركيّا الجمهوريّة سادت درجة بعيدة من العلمنة التي فصلت الدين عن الشأن العامّ، وفي تصدّيها للعالم السحريّ والخرافيّ الذي لا تستقيم معه أيّة حداثة، بلغت أحياناً مَديات كاريكاتوريّة. لكنّ هذه العلمنة صاحبَها تصنيع دؤوب لقوميّة متأخّرة زمناً استعاضت بالخرافة عن تأخّرها هذا، وقد لازمها حكم حزب واحد (الشعب الجمهوريّ) وزعيم واحد (أتاتورك) هما اللذان تولّيا علمنة المجتمع من الأعلى. وما إن أحدث هذا النظام انفراجاً جزئيّاً، وتوسيعاً جزئيّاً للحياة السياسيّة (انتخابات 1950)، حتّى انتهت التجربة بإعدام رمزها، قائد “الحزب الديمقراطيّ” عدنان مندريس، وبنشأة ما يكاد يكون تقليداً تركيّاً، وهو “تصويب” الحياة السياسيّة كلّ عشر سنوات بانقلاب عسكريّ.

ما انتفض عليه رجب طيّب إردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” هو، قبل كلّ شيء آخر، قبضة العسكريّين على الحياة العامّة. هذا ما منح الإردوغانيّة، في سنواتها الأولى، مضموناً ديمقراطيّاً عزّزته النجاحات الاقتصاديّة التي كانت تتحقّق حينذاك. فوق هذا، استحضر إردوغان المكبوتَ الدينيّ والثقافيّ الذي برهن عن استعداده للعودة القويّة بسبب تلك العلمنة التي فُرضت عليه قسراً من المنصّة السلطويّة الأعلى. مبدئيّاً، كان في وسع هذا الاستحضار أن يضفي مضموناً ديمقراطيّاً آخر على الإردوغانيّة لولا الذهاب بعيداً في فهم التفويض الشعبيّ وعدم التزام حدوده. فالتجاوز عى القانون ومصادرة التعدّديّة المجتمعيّة أعادا جمع الإردوغانيّة بالأتاتوركيّة ولو من موقع الاختلاف والتعارض. وهذا لئن دلّ عليه التعامل مع الأكراد والعلويّين، فضلاً عن القضاء والإعلام وعموم المجتمع المدنيّ، فقد دلّ إليه تحويل الرئيس إلى زعيم أب، وموضعة النفس في موقع متخلّف حيال العالم: فكما يصطفّ إردوغان في طليعة السياسيّين الشعبويّين في زمننا، قلّدت الأتاتوركيّة، مرموزاً إليها بعصمت إينونو، الفاشيّة الإيطاليّة، لا سيّما حيال النقابات، قبل أن تتّخذ الحرب العالميّة الثانية مساراً آخر. ويمكن القول إنّ الجامع الأبرز يبقى القوميّة التي توسّل أتاتورك من أجلها علمانيّة تركيّة أكثر ممّا هي فرنسيّة، فيما توسّل إردوغان إسلاماً إخوانيّاً وسلطانيّاً هو أيضاً تركيّ أكثر منه مصريّاً أو عربيّاً.

الحرّيّة بمحض حركتها الآليّة والعفويّة – في مجتمعات تعدّديّة ومصابة عميقاً بالتناقضات الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة، وفي محيط فكريّ لم يعرف الإصلاحات الدينيّة – قد تفضي أيضاً إلى الفوضى والاحتراب الأهليّ، وبالتالي التدمير الذاتيّ.

هذان المآلان الاستبداديّان المكتملان، بل الناصعان، يذكّران بثنائيّات عربيّة مشوّهة قد تكون أهمّها راهناً ثنائيّة بشّار الأسد – الإسلام السياسيّ النضاليّ (الإخوان من ناحية، ومن ناحية أخرى داعش، النصرة، علّوش…).

فالقوميّة العلمانيّة التي صدر عنها النظام البعثيّ (وهي بلا قياس أقلّ قوميّة وعلمانيّة من النمط البدئيّ الأتاتوركيّ) هي التي أنشأت، بالتضامن مع تصدّع النسيج الوطنيّ، نظاماً قهرَ الإسلاميّين خصوصاً، وإن قهر سائر المجتمع أيضاً. أمّا الإسلام السياسيّ الذي صدر عنه، وبالتضامن مع التركيب الأهليّ، معارضوه الإسلاميّون، فمارس هو الآخر ما استطاعه من قهر اعتباطيّ، خصوصاً تجاه ممثّلي الاختلاف والتعدّد ورافعي لواء التنوير والحداثة والعقلانيّة.

بيد أنّ معارضة كلّ من هذين الاستبدادين انتسبت إلى تقليد مقطوع عن التقليد الذي انتسبت إليه معارضة الاستبداد الآخر. فمناهضة الاستبداد الدينيّ مالت إلى تقديم المسألة بوصفها صراعاً بين العقل واللاعقل، من دون التوقّف عند مسألة السلطة السياسيّة. وهذا إذا بدا جائزاً في بلدان تقنع فيها الدولة باحتلال الحيّز السياسيّ وترك الحيّزات الأخرى (الدين، التعليم، الحرّيّات على أنواعها) خارج رقابتها، فإنّه غير جائز حيث الدول حاضرة وتدخّليّة في أبسط تفاصيل الحياة اليوميّة للسكّان. لكنْ إذا كان حسم مسألة السلطة مقدّمة لـ “تحرير العقل”، فإنّ ما شهدناه على مدى قرن ونيّف كان تراجعاً ملحوظاً على هذا الصعيد: فبدل الاستدلال بالثورة الفرنسيّة، التي كانت “الحريّة” أوّل ثالوثها، والتي لولاها لبقي “التنوير” حبراً على ورق، تراكمت الطبقات الفكريّة القوميّة والاشتراكيّة والقوميّة – الاشتراكيّة لتغرّب الطاقات الفكريّة والثقافيّة عن المسألة السياسيّة، ولتحوّل النظر عن أنظمة العبوديّة المعاصرة إلى ثنائيّات العقل واللاعقل، والتنوير والظلاميّة، ممّا تستطيع تلك الأنظمة استيعابه، إن لم يكن ترويجه.

هذا، بطبيعة الحال، لا يقلّل من أهميّة الكفاح ضدّ اللاعقل والظلاميّة، وإلاّ وجدنا أنفسنا حلفاء للإردوغانيّات الصغرى في مواجهة الأتاتوركيّات الصغرى، لننتهي في آخر المطاف في المكان نفسه. فإذا صحّ أنّ الحرّيّة السياسيّة توفّر الشرط الضروريّ للانطلاق، إلاّ أنّها لن تكون الشرط الكافي ما لم تُقرَن بالنضال الثقافيّ ضدّ الأصوليّات النضاليّة. ذاك أنّ الحرّيّة بمحض حركتها الآليّة والعفويّة – في مجتمعات تعدّديّة ومصابة عميقاً بالتناقضات الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة، وفي محيط فكريّ لم يعرف الإصلاحات الدينيّة – قد تفضي أيضاً إلى الفوضى والاحتراب الأهليّ، وبالتالي التدمير الذاتيّ.

يردّنا هذا إلى المعادلة التي لا يُستغنى عنها من دمج الديمقراطيّ بالعلمانيّ والعلمانيّ بالديمقراطيّ، كي لا تستقرّ بنا الحال عند الثنائيّة التركيّة الكئيبة بشروط أسوأ ألف مرّة.

 

إقرأ أيضاً:

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 27.03.2024

“بنك عودة” في قبضة الرقابة السويسرية… فما هو مصدر الـ 20 مليون دولار التي وفّرها في سويسرا؟

في الوقت الذي لم ينكشف فيه اسم السياسي الذي قام بتحويل مالي مشبوه إلى حساب مسؤول لبناني رفيع المستوى، والذي امتنع بنك عودة سويسرا عن ابلاغ "مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال" عنه، وهو ما ذكره بيان هيئة الرقابة على سوق المال في سويسرا "فينما" (FINMA)، تساءل خبراء عن مصدر أكثر من 20 مليون دولار التي…