fbpx

“لا مكان لدفننا”: في لبنان الوفيات ترتفع والمقابر تضيق والتكاليف تتضاعف

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في لبنان، يتخبط اللبنانيون والمقيمون بأزمات كثيرة، ويبدو أن المعاناة لا تقتصر على الأحياء، إذ باتت الأرض تضيق بالموتى أيضاً، فقد بدأت تتصاعد اشكالية جديدة تتعلق بالمدافن إذ لم يعد هناك مساحات أرض كافية لدفن الراحلين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المثوى الأخير بات أغلى مما تستطيع الأكتاف حمله في لبنان.

هكذا يتحدث حسن بمرارة عمّا حدث لعمته التي توفيت منذ سنتين، “متنا وعشنا ألف مرة حتى نجد لها مكاناً ترقد فيه. المقابر كلّها مفولة (أي ممتلئة كلياً)، عدا عن الكلفة الباهظة التي يتطلبها الدفن، والتي قد تصل إلى 5 آلاف دولار، إذا احتسبنا إيجار الأرض وتكاليف الدفن والرخامة وغير ذلك”. ويضيف: “أخيراً اضطررنا إلى دفنها في قبر جدي الذي توفي قبل سنوات”، خاتماً حديثه: “لا راحة في هذا البلد حتى بعد الموت”.

قصة عائشة تشبه قصة عائلة حسن، إنما ربما بمزيد من اللوعة، فعائشة لاجئة سورية في لبنان وهي، فقدت زوجها في الحرب السورية ونزحت مع أولادها الثلاثة إلى لبنان لتتنقل من خيمة إلى أخرى، إلى أن استأجرت شقة صغيرة في صيدا، هي عبارة عن غرفة واحدة وحمام. تروي عائشة لـ”درج”: “كان ابني سامر يعاني منذ ولادته من مشكلة في شرايين القلب، ومع الحرب وظروفها تدهورت حالته وحين جئت إلى لبنان على أمل بأن أجد حلاً، توفي بعد أشهر قليلة ولم يتجاوز عمره الأربع سنوات. وهنا بدأت مرحلة معاناة جديدة، إذ لم أستطع دفن ابني في أي مكان، بحجة أن لا أماكن شاغرة، وقد طلب مني أن أدفع نحو 2000 دولار بدل الأرض، ولم أكن أملك مبلغاً كهذا. بقي ابني ينتظر أياماً في براد المستشفى وقد استدنت لأدفع ثمن ذلك. ساعدني أحد رجال الدين وسمح بأن أدفن ابني في أرض تابعة للأوقاف الإسلامية، مقابل مبلغ ليس بقليل. لقد دفنت ابني، متمنيةً أن يكون قد ارتاح الآن من العذاب.”

في لبنان، يتخبط اللبنانيون والمقيمون بأزمات كثيرة، ويبدو أن المعاناة لا تقتصر على الأحياء، إذ باتت الأرض تضيق بالموتى أيضاً، فقد بدأت تتصاعد اشكالية جديدة تتعلق بالمدافن إذ لم يعد هناك مساحات أرض كافية لدفن الراحلين. لا جثة توضع في مثواها الأخير من دون أن يحمل ذووها هموم الجنازة وبدل الأرض وأجرة الحفار وثمن الرخام، واستجداء واسطة من رجل الدين هذا ومن المسؤول ذاك. وقد زادت الأمور تعقيداً في السنوات الأخيرة مع دخول أكثر من مليون لاجئ سوري إلى البلاد ما جعل مشكلة المدافن أكثر تعقيداً خصوصاً بالنسبة الى اللاجئين.

وكذلك حال أبو يوسف وهو لاجئ سوري أيضاً، “أنا أبو يوسف، الله يرحم يوسف!”، يخبر المأساة ذاتها: “بعد العذاب والحرب والتهجير، واستجداء الأسرّة من مستشفى إلى آخر، لأن يوسف كان مصاباً بالسرطان، راح يوسف”. يكرر: “يوسف راح! نعم راح”. ويضيف: “حين سقط ابني، شعرت بأن كل شيء تهاوى معه. بعد موته أصبح همي أن أجد له قبراً ومكاناً يرقد فيه. كانت فعلاً مهمّةً صعبة، واحتاجت إلى أيام وإلى مساندة أهل الخير في منطقة عين السكة، الذين ساعدونا وتوسطوا من أجلنا عند المعنيين حتى دفنّا المسكين”.

محاولات خجولة

حاولت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التدخل لحل جزء من مشكلة دفن المتوفين من بين اللاجئين من خلال تأمين مساحات قليلة، إلا أن تلك المحاولات تبقى غير كافية. وقد شارف مشروع لبناء مقابر في منطقة بعلبك بمساهمة المفوضية ومفتي المنطقة، على الانتهاء. وهي مجهزة لتسع 200 جثمان. كذلك هناك مشاريع متفرقة في هذا الإطار في قب الياس وراشيا بواسطة تقديمات من بعض الأشخاص والبلديات وبرعاية المفوضية، بهدف تخفيف وطأة الذل عن كاهل اللاجئين حين يفقدون غالياً. لكنها مشاريع محدودة ولا تلبي الحاجة، أمام مشكلة تطاول الجميع لبنانيين وسوريين.

فوضى عارمة

يوضح الشيخ صادق النابلسي لـ”درج”، “المشكلة متعددة الأوجه، إنما من حيث المبدأ، يجب ألا يكلف دفن الميت شيئاً ما عدا التكاليف اللوجستية البسيطة، فالأراضي المخصصة للمقابر تكون عادة هبة أو تقدمة من أحد المتبرعين، لذلك من الضروري احترام الميت وعدم إهانته يوم رحيله وتحميل أهله ثقل دفع مبالغ طائلة”، محمّلاً جزءاً من المسؤولية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وللهيئات الدينية المسؤولة “كونها قيمةً على هذه الأوقاف، إضافة إلى بعض البلديات التي تملك صلاحيات معينة في رعاية شؤون البلدات”.

ويتابع: “ما يحصل هو فوضى عارمة، لا سيما في بعض المناطق، حيث لا تنسيق، وإمام المنطقة يتولى هذه المسؤولية ويتفرّد في اتخاذ القرارات، وليست هناك آلية واضحة. لذلك هناك دوماً شكاوى من المواطنين، لا سيما لناحية الغلاء الفاحش في إيجار الأراضي، واضطرار الفقراء إلى طلب واسطة لاستجداء مكان لدفن موتاهم، فيما قد يستطيع الأغنياء الحصول على مقبرة بسهولة أكبر مقابل دفع المال”.

وتطرّق إلى موضوع اللاجئين السوريين، أو سكان المناطق الذين ليسوا من أهلها الأصليين، “هؤلاء يصطدمون بمشكلة عدم وجود مقبرة لهم، في أماكن سكنهم”، مشيراً إلى “دفن السوريين في مقابر للأجانب، وهذا أمر فيه الكثير من العنصرية التي لا تجوز لا سيما في حالة الموت”. ولفت الانتباه إلى أن “السوريين يعانون بالفعل حتى يجدوا مكاناً لدفن الموتى والموضوع يتأزم في بعض المدن والقرى لا سيما في صيدا وبيروت”. ويضيف: “هناك أيضاً دفن سوريين في أرض وعر، أي متروكة أو ليست لأحد، وربما في ذلك مخالفة قانونية”.

كلفة الموت…

“لا تتعدى كلفة نبش الأرض 100 دولار، و200 دولار للرخامة والحجارة، ونحو 400 دولار ثمن القبر أو الصندوق، وبالتالي من دون أجرة الأرض، قد تكون تكلفة الدفن مقبولة، أو مقدوراً عليها. إلا أنّ ما يطلبه القيمون على المقابر هو المشكلة الأساسية، إضافةً إلى صعوبة إيجاد أرض”، وفق متابعين.

في المقابل، تفيد مصادر كنسية بأنّ هذه المشكلة عند الطوائف المسيحية قد تبدو أقل بكثير، لأنّ المدافن تكون عبارة عن غرفة لكل عائلة، يوضع فيها أكثر من قبر، أو تكون على شكل أدراج في أرض تابعة للكنيسة أو للوقف. وبالتالي كل عائلة تشتري مقبرة لأفرادها، وتتوارثها الأجيال. وتوضح المصادر أن “المسلمين يدفنون موتاهم في الأرض، وهم يخصصون لكل ميت قطعة أرض وهذا أمر مكلف، أما عند المسيحيين فالمقابر على شكل غرف أو جوارير تتسع لأكثر من جثمان.

إلاّ أن التكاليف الأخرى غير الدفن، عند المذاهب المسيحية ليست بقليلة، فبين أجرة الصالة وبدل الكنيسة والأطعمة أو ما يسمّى “لقمة الرحمة”، لا تقلّ تكلفة دفن الميت والقيام بالواجب الديني والاجتماعي عن الـ3500 دولار.

والسوريون؟ أين يدفنون موتاهم؟

توضح المنسقة الإعلامية في مفوضية الأمم المتحدة لحقوق اللاجئين ليزا أبو خالد لـ”درج”، “عدد الوفيات من السوريين في لبنان وصل إلى 8400 شخص حتى مايو/ أيار 2018″، مشيرةً إلى أن “حوالى 4200 حالة أرفق الإعلان عنها لدى المفوضية بوثيقة وفاة، فيما بقيت الحالات الأخرى من دون إبراز أي وثيقة تثبت الوفاة”.

وتقول: “نحن كمفوضية شاركنا ونشارك في بعض المشاريع لبناء مقابر (سلف ذكرها)، لكننا لا نملك القدرات المادية للمساهمة في تكاليف الدفن لكل العائلات النازحة التي تفقد فرداً من أفرادها، لكن في حال وفاة المعيل، يمكن أن نساعد عائلته بعد حصولنا على وثيقة الوفاة، وذلك ضمن برامجنا للمساعدات، أي 175 دولاراً شهرياً لكل عائلة، إضافةً إلى استفادة جزء من السوريين من المساعدات الغذائية والعينية وغير ذلك”.

من جهة أخرى، يتحدّث الدكتور إيلي شديد وهو مختص بالتنمية المستدامة عن مسألة الوفيات، مشيراً لـ”درج” إلى أن “عدد الوفيات في لبنان يزيد بشكل مطرد خلال السنوات الأخيرة بسبب حوادث السير والتلوث وانتشار الأمراض، وإن كنا ننعم الآن بطبابة أفضل، يضاف إلى ذلك تزايد حالات الانتحار، إلى جانب النزوح السوري، إذ كلما زاد عدد السكان، ستزيد أعداد المتوفين بطبيعة الحال”.

وتفيد معلومات “درج” بأن معدل الوفيات العام في لبنان هو بين 3.5 و4 في المئة، وهو معدّل تقريبي في غياب الإحصاءات الرسمية في هذا المجال، فيما يتوزع السكان الـ8 ملايين، بين 4 ملايين و300 ألف لبناني، ومليون و750 ألف نازح سوري، والبقية موزعون بين الجنسيات الأخرى.

وكما يقول رامي الذي استدان لدفن أمه “لا أحد يفكّر بالأحياء، فمن باله بالموتى؟ في الخلاصة، ربما علينا على سبيل الجد لا المزاح، احتساب تكلفة الموت في هذه البلاد، لا تكلفة الحياة وحسب!