بسهولة ومن دون الكثير من المجازفة يمكن للمرء أن يعتبر مشهد اقتراع المغتربين اللبنانيين عينة للبناء عليها، لا لكي يتوقع النتائج العامة، انما ليواجه النتائج المتوقعة باختبار سبقها، وهو اختبار خالٍ من شوائب ستصيب من دون شك تجربة الاقتراع في لبنان. فالعينة الاغترابية ممثلة إلى حد كبير، ومن السهل احتساب ضعف تمثيلها ونقاط ضعف أخرى شابتها، وعلى هذا الأساس يمكن للمرء أن يقول أن نحو مئة ألف لبناني اقترعوا من دون ضغوط قوى النظام، ونتائج اقتراعهم يمكن أن يُبنى عليه تصوراً عن حقيقة خيارات ما يزيد عن 60 في المئة من اللبنانيين. أما النسبة المتبقية، وهي ما يجب أن تلحظه العينة، فتتمثل في أن شريحة واسعة من مؤيدي الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) في بلاد الاغتراب، لا سيما في دول الخليج وفي الولايات المتحدة الأميركية لم يتح لها التعبير عن خياراتها في الصناديق، نظراً لاحتمالات أن تعاقب إذا ما فعلت ذلك.
لكن مفارقة أخرى تلوح هنا، فالمقترع المغترب القريب من حزب الله، لم يستفد من “الحرية” التي أتيحت لمواطنيه في الاغتراب، في حين أن مقترعين في بلاده ومناطقه سيكونون مثله عرضة لضغوط موازية تمارسها القوى التي مُنع من التصويت لها في الخارج. لكن يبقى حجم الضرر محدوداً في الخارج ولن يتجاوز مئات أو الاف قليلة من الأصوات، فيما سيتسع في الداخل ليشمل أكثر من ثلث مساحات الاقتراع.
اذاً يجب ان لا نكتفي بنتائج انتخابات المغتربين، بل يجب أن نواجه بها النظام عندما يدعي أن نتائج الانتخابات كانت لصالحه. المشاهد أمام السفارات والقنصليات في معظم دول العالم قالت الكثير عن توجهات اللبنانيين، وهي فاضت على نحو لافت عن توقعات المستطلعين هنا في بيروت، ممن تزدحم اعتباراتهم بحسابات أهل السلطة. قالت إن لبنانيين كثراً راغبون بالإطاحة بأهل النظام. انتظروا لساعات في حر دبي وفي برد كندا لكي يوصلوا أصواتهم، وهذا ليس تفصيلاً إذا ما قسناه بما يجود علينا به أهل الإحصاءات واستطلاعات الرأي الجائرة. هناك انتخبوا من دون ضغوط الأحزاب وماكيناتها الانتخابية، وفي دول ليس لنظام الفساد والسلاح من نفوذ، ولا يمكن فيها توظيف المال والخدمات الزهيدة الثمن في زمن الجوع والانهيار.
المشهد كان ساطعاً، حتى لو استبقنا في هذا الانطباع ما تحمله الصناديق من أرقام واحتمالات. لا نريد أكثر من ذلك، لبنانيون متوجهون إلى صناديق الاقتراع من دون ضغوط وإغراءات غير ما تحمله قناعاتهم من رغبات بالتغيير. وهنا يجب أن تترافق الغبطة بالمشهد مع حسرة موازية تبعث عليها حقيقة أن لبنانيين آخرين عجزوا في هذا المشهد عن الاقتراع لأنهم سيعاقبون لو فعلوا. يجب أن ننصفهم على رغم أن ماكينات أحزابهم الانتخابية لن تتيح لنا انتخاباً حراً يوم الأحد المقبل.
نعم لا نريد أكثر من أن نصل إلى صناديق الاقتراع من دون ضغوط وتهديد وإغراءات موازية لفقرنا وجوعنا. هذا ما نحن بصدد الاحتفال به في أعقاب مشاهد الاقتراع في السفارات والقنصليات. النتائج ليست أكثر أهمية من حقيقة أن لبنانيين أتيح لهم انتخاباً حراً. والجميع يعلم أن صناديق المغتربين ستحمل نتائج مختلفة عن الصناديق التي ستشرف عليها السلطة يوم الأحد المقبل. المقارنة ستكشف من دون شك حجم الضغوط والتهديدات والإغراءات والمال.
لكن لمشهد اقتراع المغتربين وظيفة أخرى، فهو سيمثل قوة دفع نحو اقتراع مماثل في لبنان، وسيتولى تزخيم الرغبة في التغيير. بدأنا نشعر بأن الغبطة ستصيب المترددين، وكثيرون ممن كانوا يشعرون أن لا قيمة لأصواتهم بدأوا يعيدون حساباتهم، ثم أن المشهد في الخارج سريعاً ما دفع أصحاب استطلاعات الرأي أن اعتبارات الاقتراع مختلفة هذه المرة وأن الانهيار والانفجار سيشطبان وجوهاً كثيرة.
الأيام القليلة التي تفصلنا عن الاقتراع في الداخل ستحمل الكثير، ومن المتغيرات الأساسية التي ستحملها، قوة الدفع المتولدة عن مشهد اللبنانيين مصطفين بالمئات أمام السفارات في محاولة للرد على من تسبب بهجرتهم.
إقرأوا أيضاً: