fbpx

لبنان على خطى نابولي: المحرقة والنفايات… والمافيا بينهما

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أزمة النفايات لا تنفجر فجأة، بل هي تراكم لسنين من الفساد، ونقص في الكفاءة السياسية، وكلما تفاقمت، ازداد عدد المحارق التي يراد بناؤها، كحل جذري وسريع. محارق لبنان ستشبه تلك التي أقيمت في نابولي الايطالية. الكارثة متوقعة..

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“قتلوا أطفالنا وسمّموا أراضينا”.

“منذ عقود، كانت أرضنا جنّة، كان بإمكانك زرع ألف صنف”.

“لماذا علينا إيجاد مساحات جديدة للمطامر والمحارق ونحن نعيش في أكثر المناطق تلوّثاً حيث ترتفع معدّلات السرطان. لماذا تتم إعادة تدوير النفايات في بقيّة المناطق وليس هنا؟”.

تصلح هذه العبارات لتكون شهادات لسكّان برج حمود، أو سرار، أو الناعمة، أو سبلين بعد ثلاث سنوات على انفجار أزمة النفايات في لبنان. لكنّها في الواقع شهادات لسكان إقليم كمبانيا الأكثر فقراً واكتظاظاً في جنوب إيطاليا، وتحديداً عاصمته نابولي، وقد أدلوا بها عند افتتاح محرقة أسيرا عام 2009، بعد نحو 5 سنوات من إعلان انتهاء حال الطوارئ الناتجة عن أزمة نفايات امتدّت عقدين من الزمن.

وإذا ما تتبّعنا مسار أزمة النفايات اللبنانية، نجد أنّها باتت هي الأخرى تمتدّ إلى أكثر من عقدين، إذ يعود سوء إدارة هذا الملف إلى زمن الحرب الأهلية ومكبّ النورماندي، ثمّ مكّب برج حمود ومطمر الناعمة “الموقّت”، فتلزيم شريكة السلطة “سوكلين” مهمّة التخّلص من نفاياتنا بكلفة تفوق بأربعة أضعاف المعدّل في المنطقة، وما تلا ذلك من أزمة أعادت إحياء مكبّ برج حمود والكوستا برافا، وصولاً إلى التوجّه الحالي صوب المحارق. فالسلطات اللبنانية التي لم ترد يوماً حلاً مستداماً لأزمة النفايات، تقترح اليوم حرقها من دون اكتراث إلى أسئلة اللبنانيين الشبيهة بشهادات أهالي نابولي. لفهم هذا المسار الانحداري تحديداً، تبدو العودة إلى التجربة الإيطالية مفيدة، إذ توضح لنا تحت أي ظروف من سوء الإدارة والفساد يصل المسار إلى قرار بإنشاء المحارق.

هكذا بدت شوارع نابولي في أزمة النفايات عام 2011

في نابولي بدأت القصّة عام 1989، حين سيطرت مافيا الـ”كامورا” على تجارة النفايات في إقليم كمبانيا، لتجعل منها تجارة خطرة وغير شرعية. قامت الكامورا بنقل النفايات السامة والخطيرة من شمال إيطاليا الصناعي إلى المكبّات العشوائية والمطامر في كمبانيا، عبر شركات نقل ومواقع تخزين خاصة بها تفتقر إلى أي معالجة للنفايات المنقولة. ومع فشل أول خطة إقليمية لإدارة النفايات للحد من نفوذ الكامورا، وامتلاء مطامر كمبانيا بسبب الإفراط في طمر النفايات الخطرة والسامّة، أعلنت حال الطوارئ عام 1994. 

عقب إعلان حال الطوارئ، عيّنت الحكومة الإيطالية مفوّضاً خاصاً أو استثنائياً لإدارة أزمة النفايات المتفاقمة. وفي السنوات الأربع اللاحقة، لم يكن توقيف المافيا المدعومة سياسياً بأمر متاح، في ظل التواطؤ معها وتزايد الأرباح التي أصبحت تفوق الستة مليارات يورو سنوياً. فبقيت معالجة النفايات غير فعّالة، ومواقع رمي النفايات وطمرها تتكاثر باستمرار، كما أعيد فتح بعض المطامر القديمة ما قاد إلى سلسلة من الاحتجاجات المدنيّة. فطُلب عام 1998 من المفوّض الخاص الذي يتمتّع بنفوذ استثنائي بغية تطبيق إجراءات حاسمة، صياغة خطّة إقليمية لمعالجة أزمة النفايات، وإصدار مناقصة تتضمّن بناء محرقتين.

المحارق عادة هي الحل الأنسب لتجارب إدارة النفايات التي يسودها الفساد، والإجرام البيئي، وغياب المساءلة السياسية. أما الحلول البيئية المستدامة فلا تصلح لتجارب كهذه.

مع انعدام الشفافية بحجة حال الطوارئ، فازت شركة FibE في مناقصة العام 2000، وعلى رغم أن المصادر الإيطالية تحدّثت عن التقييم السيّئ للجانب التقني لاقتراح شركة FibE، إلا أنها كانت الأرخص والأسرع بتقديرها للمدّة الزمنية المطلوبة لبناء المحارق. والأهم أنّ هناك مصادر تحدّثت عن أن FibE ، قدمت للمفوّض الخاص عرضاً لا يفوّت، يتضمن التخلّص من نفايات منطقة كمبانيا بأجمعها عبر حرقها من دون “الاضطرار” إلى اللجوء إلى خطة معالجة أو إعادة تدوير. فالعلاقة الوطيدة التي تربط الشركة بالكامورا مكّنتها من تقديم عروض أرخص ثمناً من منافسيها، ذلك أنّ خفض الكلفة مرتبط باستعمالها مكبات ومطامر غير شرعية. ودائماً تحت شعار حال الطوارئ، تم إلغاء التقييم السلبي للأثر البيئي لشركة .FibE

وعلى رغم أن المناقصة نصّت على بناء محرقتين، لا وجود لمعلومات عن المحرقة الثانية، وقد التزمت شركة FiBE بناء محرقة واحدة في منطقة أسيرا خلال 300 يوم. ويندرج اختيار منطقة أسيرا ضمن السياسة الحكومية التي تختار المناطق الأكثر فقراً لبناء المحارق والمطامر، لأن “الجهل والفقر والتلوّث الحاد” في هذه المناطق يمنع سكّانها من الاحتجاج.

 لكن، خلافاً لتوقّعات الحكومة والمافيا، عندما علم سكّان أسيرا بالمحرقة شكّلوا لجاناً لمحاربتها، واقترحوا حلولاً بديلة مستدامة. كما شكّكوا بكفاءة FibE وارتباطها بالـ”ايكو مافيا”، الاسم الذي كان يطلق على الكامورا وجميع الشركات والخيوط المرتبطة بها. في طبيعة الحال، لم تستطع شركة FibE بناء المحرقة في أقل من سنة لعدم كفاءتها، لكن أيضاً بسبب مصادرة مكان المحرقة من قِبل أهالي أسيرا بين عامَيْ 2002 و2004. وقد أنشأ الأهالي حديقة عامة وأقاموا نشاطات اجتماعية وحملات مناهضة للمحرقة بالقرب من موقع البناء. كما انشأوا شبكات معنيّة بإعادة التدوير في المنطقة، ما دفع السلطات الأمنية إلى اللجوء إلى العنف لقمع تظاهرة حاشدة ضمّت 30 ألفاً من سكّان أسيرا. 

إقرأ أيضاً: نفايات لبنان… جريمة ضد الانسانية في طريقها الى محاكم دولية

بحلول عام 2006، انطلق عدد كبير من تحقيقات الشرطة والدعاوى القانونية، بهدف تفكيك خيوط الفساد المعقّدة في هذه المنطقة الغارقة في النفايات. وقد أقرّ أحد القوانين بمسؤوليّةFiBE ، في أزمة إدارة النفايات، وحوكم مسؤولون من القطاع العام وأصحاب الشركات. بيد أنّ التحقيقات والمحاكمات لم تخفِ مئات الأطنان من النفايات السامّة المتفشّية في الشوارع، والأهم أنها لم توقف FibE عن بناء محرقة أسيرا، بل قرّرت تحويل إدارة المحرقة إلى شركة أخرى عند الانتهاء من بنائها.

ومع استلام سلفيو برلوسكوني رئاسة الحكومة عام ٢٠٠٨، عمد إلى استعمال المقاربة عينها، مضيفاً هذه المرّة نفحة متسلّطة. فأصدرت الحكومة المرسوم رقم 90 الذي نصّ على بناء تسعة مكبّات وأربع محارق، معتبرة الأمر «من المصالح الوطنيّة الاستراتيجيّة» التي تحظى بحماية الجيش، فبات أيّ احتجاج يدخل في عداد الجرائم الجنائيّة. هكذا، وبعد عشر سنوات على تلزيم بنائها، افتتحت المحرقة في آذار/ مارس 2009 بحماية الجيش، وكان يتوجّب استعمالها لمعالجة معظم النفايات السامّة والخطرة المكدسة في الشوارع والمكبّات الشرعية وغير الشرعية. وخلال حفل الإطلاق في أسيرا، أعلن برلوسكوني انتهاء حالة طوارئ النفايات في الإقليم.

انتقلت إدارة المحرقة من شركة FibE إلى شركة أخرى. وأشارت التقديرات إلى أن أرباحها فاقت الـ250 مليون يورو في السنوات الأربع الاولى من تشغيل المحرقة. وفي المقابل، فإنّه حتى الساعة، لا توجد هيئات مستقلّة للتحكّم بالانبعاثات، ولم يتم بعد استصلاح المناطق الملوّثة في الأراضي الزراعية، وما زالت هناك مخاطر صحية عالية بسبب التلوّث، في ظلّ تحدّث مصادر عن إحراق النفايات السامّة والخطرة، ما يتسبّب بانبعاثات فوق المعدّلات المقبولة.

كما كان متوقعاً إذاً، لم تجلب المحرقة حلاً سحرياً لأزمة النفايات المستمرة على مدى عقدين، بل جلبت أرباحاً هائلة لإدارتها. ذلك أنّ 6 ملايين طنّ من النفايات المتراكمة التي تمّ إهمالها وتخزينها كحلّ مرحلي، كانت لا تزال في حاجة إلى معالجة. لكنّ دور المحرقة اقتصر على إحراق النفايات كلها، ما ساهم بتفاقم أمراض خطيرة جرّاء الانبعاثات السامة المتعاقبة على مدى سنوات. كما أن الشوارع راحت تفيض بالنفايات مع كلّ افتتاح أو إعادة افتتاح مطمر جديد.

للوهلة الأولى، يبدو للقارئ أن السلطات في لبنان راقبت عن كثب أزمة نابولي وضواحيها على مدى عقدين، وتتوق لاعتماد المقاربة عينها في حلولها لأزمة النفايات

هكذا أطلقت الجريدة العلمية “ذا لانست” على كمبانيا اسم “مثلّث الموت” بسبب التلوث العالي في الهواء، في التربة، والمياه، والمواد السامة والخطيرة المسبّبة للسرطان. فنسبة السرطان تبلغ 11 في المئة، وهي أعلى لدى السكّان حول المكبات غير الشرعية. على مر عقدين، وبعد تعرُّض حوالي 250 ألف شخص من سكان المنطقة للانبعاثات السامة، وفي حين لا تزال آثار ذلك على الصحة والبيئة قيد الدرس، تحوّلت منطقة كامبانيا إلى حقل علمي للتجارب كونها المنطقة الأكثر خضوعاً للبحث في ما يتعلق بالتأثيرات الصحية والبيئية الناجمة عن سوء إدارة النفايات الصلبة.

وبسبب استمرار أهالي المنطقة بالاعتراض على المحرقة وأزمة النفايات المتفاقمة، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات هائلة على إيطاليا، ما دفع السلطات الإيطالية إلى الموافقة على خطّة جديدة لإدارة النفايات، هي عبارة عن خطّة إقليميّة شديدة الالتزام باستراتيجيّة تقوم على تخفيف النفايات والفرز والتدوير، وهي من المطالب التي سعى سكّان كامبانيا والمجتمع المدني إلى تحقيقها طوال عقود. كما تمّ إقرار قانون الطوارئ البيئية في أرض الحرائق عام 2014، والذي منع إحراق النفايات عشوائياً، وخصّص موازنة جديدة للاكتشاف المبكر لحالات السرطان.

لكنّ أحد المسؤولين في بروكسيل يقرّ بأن إيطاليا في حاجة إلى 20 سنة كي تعود الأمور إلى “طبيعتها”. فحتى الساعة، لم يتم اتخاذ أي إجراء حقيقي لعلاج الأراضي الملوثة. والتدوير والفرز لم يتعدّيا بعض المحاولات الخجولة في بعض المناطق المحلية. عام 2016، تم اكتشاف ألف مكب عشوائي ونحو 200 من الحرائق المرتبطة بالنفايات.

مطمر كوستا برافا جنوب بيروت

للوهلة الأولى، يبدو للقارئ أن السلطات في لبنان راقبت عن كثب أزمة نابولي وضواحيها على مدى عقدين، وتتوق لاعتماد المقاربة عينها في حلولها لأزمة النفايات. والواقع أن مقاربة كهذه هي مسار طبيعي لإدارة فاسدة ومجرمة بيئياً وغير كفوءة لأزمة النفايات. في لبنان، تتولى إدارة ملف النفايات سلطات فاسدة أتت بشركات مشبوهة شبيهة بالمافيا الإيطالية، ردمت البحر، وتغاضت عن استعمال معامل الفرز وتحسينها، وزيّنت مطامرها بمكبات عشوائية لعدم قدرتها على استيعاب النفايات المكدّسة. وهي نفسها الإدارة التي سعّرت سلامة أهل عكار والبقاع وصحّتهم بـ100 مليون دولار، عرضتها على بلدياتها على امتداد ثلاث سنوات لاستقبال النفايات.

أزمة النفايات لا تنفجر فجأة، بل هي تراكم لسنين من الفساد، ونقص في الكفاءة السياسية، وكلّما تفاقمت، ازداد عدد المحارق التي يراد بناؤها، كحل جذري وسريع. محرقتنا ستشبه محرقة أسيرا. المشهد الإيطالي يوطّد حقيقة أن ملف النفايات هو إدارة أولاً وفي الأساس، والحديث عن تقنيات المحارق وأجيالها والطاقة التي تنتجها ومنافعها يخفي حقيقة أن الدولة ومافيات الشركات ليست مخولة لإدارة مطمر واحد لمصلحة الشأن العام، فكيف لها أن تدير محرقة؟ إن الآثار المترتبة عن غياب الرقابة والأمثلة الفاقعة للتلوّث الناجم عن المطامر والمكّبات الحالية، كما التخبّط العشوائي في إدارة ملف النفايات حتى الآن، إنما ينبئ بالكارثة المتوقعة.

 ذات يوم، كانت هناك أرض تدعى “فيليكس كمبانيا”، أي “الريف الخصب”، تحوّلت هي نفسها إلى “مثلث الموت” و”أرض الحرائق”، وكتبت لسكّانها محاربة موتهم وموت الأجيال المتعاقبة من بعدهم ومحاربة الجريمة التي حوّلت أرضهم إلى أرض حرائق، وإلى مثلثات موت.

لبنان على خطى نابولي.