من قتل هشام الهاشمي؟ السؤال ليس عبثياً إذا ما ارتبط بواقعة قتل في بغداد، وهو ليس عبثياً إذا استعدنا حملات التحريض على الرجل، التي أقدمت عليها وسائل إعلام الحشد الشعبي من تلفزيونات ومواقع الكترونية ناطقة باسم الفصائل، وهي حملات سبقت مقتله بأيامٍ، وهو ليس عبثياً أيضاً إذا ما قرأنا مقالات له تنتقد النفوذ الإيراني في العراق. والأهم من ذلك، ليس عبثياً بعدما نشر صديقه رسالة تهديد وصلته من كتائب “حزب الله” في العراق! إنها قصة قتلٍ معلن. الجريمة حصلت في أول المساء، وشريط الفيديو كشف عن أن القتل كان سهلاً، وأن رجالاً أربعة في سيارة رباعية الدفع كبيرة، تتقدمهم دراجة نارية انتظروا هشام أمام منزله في منطقة زيونة في بغداد، وقتلوه برشاشاتهم.
ولكي تكتمل فصول المشهد، أعلنت وكالة الأنباء الإيرانية أن تنظيم “داعش” تبنى العملية.
لكن لماذا قتلوا هشام؟ الرجل فعلاً لا يشكل خطراً على أحد! إنها رسالة إلى مصطفى الكاظمي، رئيس الحكومة، ولبرهم صالح، رئيس الجمهورية، قال الأصدقاء في بغداد. أي عبث هذا؟ أن توصل رسالة بدماء رجل بريء، رجل لطالما قادته الحماسة للعراق إلى الانتشار على الشاشات وفي المواقع وفي مراكز البحث، متحدثاً ومصوباً وجاداً في البحث والتقصي. رجل قادته بداياته الإسلامية إلى خصومة مريرة مع ماضيه، ورجل راح يحذر العراق وسلطاته من أن “داعش” ما زال مقيماً هناك في الصحراء، وأن انبعاثه مسألة وقت طالما أن المذهبية ما زالت تصنع حاضر العراق، وأن الفساد والمحاصصة خلفا وراءهما جوعاً سيسهل على التنظيم توظيفه.
نعم إنها رسالة لصالح وللكاظمي، الرجلين اللذين لطالما استقبلا هشام واستمعا إلى خوفه على العراق. وهما الرجلان اللذان أرادنا هشام أن نواجههما بما عاينا خلال زياراتنا بغداد. بصوته الخفيض وسط الأصوات المرتفعة في بغداد كان هشام يوصل فكرته من دون تكلف ومن دون تخفيف من وقعها ومن مباشريتها.
هشام ليس قتيلهما لوحدهما، إنه قتيل العراق وقتيلنا أيضاً، نحن الذين ما أن وطأت أقدامهم مطار بغداد في زيارتهم الأخيرة لها، حتى تلقفهم وساروا معه طوال أسبوعٍ كامل متجولين بين الملفات الأمنية التي أشبعها تمحيصاً، وبين بيئات “المجاهدين” وأراملهم وشيوخ عشائرهم.
كنا بـ”أيد أمينة” على ما كان صديقنا المشترك مشرق عباس يقول لنا. سيقودكم هشام إلى معرفة أخرى بالعراق، وسيسمعكم أصواتاً صادرة من الصحراء البعيدة والممتدة إلى مشارف بغداد. ونحن إذ كنا بدورنا نصطحبه إلى بؤرٍ أخرى لم يسبق أن اختبرها كباحث في الجماعات الإسلامية، كانت غبطة غامضة تصيبه، فبغداد كبيرة وواسعة ولا بأس بأن يعيد اكتشافها بوجوه غرباء عنها مثلنا.
حين اصطحبناه إلى منزل صديقتنا التي لم يكن التقاها من قبل هناء ادوارد في الكرادة، شعر بالفخر بأن في بغداد من يقيم منزلاً لاستقبال الهاربات من ظلم عشائرهن، ومن خطر قتل أعمامهن وأخوالهن لهن.
لكنه حين كان يعود من الغربة التي أملتها عليه مرافقتنا، كان يشبعنا عرضاً في الخرائط، وهو إذ كان يُسهب في عرض الطبيعة القاسية والغريبة للصحراء الغربية، كان يعيد علينا فكرته المتمثلة بأن القضاء على “داعش” في هذه الصحراء غير ممكنٍ إلا إذا ترافق مع تسوية سياسية تجعل من وجود التنظيم في هذه التجاويف الرملية عبثاً كاملاً. هذه الصحراء هي صحراء الانتظار للانقضاض، وثمة من يُعد العدة في المدن لاستقبال التنظيم حالما تحين الفرصة.
لقد قتلوا هذا الرجل، وأرادوا أن يوصلوا رسالة! قتلوا حكاية من حكايات بغداد التي لطالما صارت تفضي إلى نهاية موقعة بالدماء. واقعة القتل مصورة من ألفها إلى يائها، ومحطات التلفزيون التي مهدت لها لم تذرف دمعة كاذبة على جثة هشام. والقتل السهل كما كل واقعة غدرٍ نعهدها، جاء موقعاً بمسار معلن من التحضير والاستعداد. وتتويج الجريمة ببيانٍ لـ”داعش” هو امتداد لأداء صار مملاً لكثرة توظيفه.
قتلوا الرجل الشغوف ببغداد وبأهلها وبعمارتها وبنهرها الكبير، وبالكرخ والرصافة. الرجل الذي أعد العدة ليدهشنا بمدينته التي لطالما طردته منذ أيام صدام حسين وصولاً إلى بغداد نوري المالكي وصحبه، ومروراً ببغداد أبي بكر البغدادي طبعاً.
هشام كان رحلتنا الأخيرة إلى بغداد، وكان معرفتنا الأخيرة بها. ها هي مدننا تستأنف قتلنا، وها نحن يا هشام نتحول إلى رسائل متجولة بين بيروت ودمشق وبغداد. ومن المؤكد أن الرسالة وصلت، وأن هشام مات.