fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

لم أتعلم كيف أكون سائحاً… كل عام وأنا لاجئ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا بد أن إسطنبول معتادة على المهاجرين. شوارع تزخر بمحلات بيع الحقائب بشكل مخيف. حقائب محشوة بالطرقات والمسافات. فارغة من أي وطن قد يتسع لنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كيف أحتفل بـ”اليوم العالمي للاجئين”؟ 

هل من طقوس خاصة أمارسها لأشعر بالسعادة؟ لأشعر بأنني كبرت عاماً آخر كلاجئٍ؟ “كل عام وأنا لاجئ بخير”، هكذا نتذكر كيف يكون القلق صديقاً أبدياً في يوم عيدنا العالمي.

ربما لم أشعر بهذا الحجم من القلق يوم دخلت مدينة إسطنبول، قبل أربعة أشهر. كان خياراً مناسباً لمزاجي المتقلب، أن أدّخر بعض القوة للأيام اللاحقة، حيث ستبدأ موجة مشاعر ثقيلة وكاسرة، كنت متيقناً من أنها ستقتحمني في أي لحظة. هذا ما علمتني إياه بيروت قبل رحيلي عنها.

في إسطنبول، ستغدو سائحاً بلمحة بصر، قبل الانتباه لمكانتك القانونية. لن تلبث أن تدرك ذلك حتى تتواطأ مع هويتك. ستعود مكبلاً بمساحات جغرافية تلوح في أفق الخوف والأمل. ثم تشهر سكين الحقيقة لقتل هذا التعريف المزيف. “من زرع في عقلي فكرة النجاة؟”، سألت نفسي حين دخلت أحد المتاجر الخاصة ببيع حقائب السفر للمرة الثانية في حياتي. طريقة ترتيبها وتعليقها وألوانها وأشكالها وأحجامها، كل ذلك، كان كافياً لأفهم أن الحقيبة الرياضية التي أجرها على ظهري، هي مجرد مراوغة نفسية أتغلب بها- لفترات متفاوتة- على هويتي كلاجئ. خلت نفسي سائحاً يستطيع بمظهره الحسن وملابسه الأنيقة، نوعاً ما، أن يشاطر الآخرين سلوكياتهم الطبيعية. الاستمتاع بالبلد ومناظره الطبيعية، دخول محال الألبسة ذات الماركات العالمية والمطاعم والمقاهي المميزة بديكوراتها وأثاثها، تقبيل فتاة في الشارع دون رقيب أو حسيب. إنها أفعال عادية يمارسها أهل البلد بشكل تلقائي. دون حاجة إلى تبرير نظرات ازدرائهم تجاه أجانب يتنزهون ويتلذذون بمدنهم وخدمات دولتهم. ولعل غيرتي هذه، وإن لم تنشأ من عدم، فإنما كانت لمقاربة استفسر من خلالها شكل الحياة والحريات هنا، في إسطنبول- والحياة التي كنا نعيشها في سوريا قبل اندلاع الحرب وخلالها. 

ليس على الفلسطيني أن يكون ماهراً في الاندماج، بقدر ما يتحتم عليه أن يكون ماهراً بالاستقرار. هناك في القارة العجوز، فلسطينيون تحولوا بلا رحمةٍ، إلى سياح أو يحاولون ذلك. لكن المهارة تكمن، على ما أعتقد، في الاحتيال على الانصياع، مثلما كان يفعل بطل “الرجل ذو الحقائب” ليوجين يونيسكو، وهو يبحث عن هويته مشوشاً ومدهوشاً أمام هذا العالم الذي يعج بالقهر والنفاق. وهذه لغة لم يتعلمها فلسطينيو سوريا يوم خرجوا من مخيم اليرموك نحو لبنان، مروراً بتركيا أو ليبيا والجزائر ربما، ثم أوروبا. لم يتعلموا كيفية النجاة من قبضة الحضارات خوفاً من أن تتلاشى صفعة التاريخ عن وجه وطنهم. لكنهم تعلموا الحياة خلف أقنعتهم.. لكم تحزنني أقنعتهم الجميلة. 

في بيروت لم أتعلم كيف أكون سائحاً، وهذا ليس ذنباً تحمله عائلتي على عاتقها. معذورة هي أيضاً. ولربما أجدادنا شعروا، لوهلة، بأنهم سائحون حين دخلوا سوريا وكذلك مصر والأردن ولبنان. ثم اكتشفوا لاحقاً أنهم باتوا لاجئين إلى أجل غير مسمى. دخلت لبنان قبل 11 سنة. لم أكن قلقاً حينذاك مثلما أنا اليوم. لمجرد أن وطأت قدماي أرضه حتى تلاشت، بسرعةٍ، صور المدافع والطائرات الحربية في سوريا من مخيلتي. ذكريات الطفولة وسنوات المراهقة في مخيم اليرموك، هي كل ما بقي في ذهني. أشياء كثيرة منّت عليّ بها بيروت. أغوتني ببحرها ومدنها وبسواحلها وأناسها. نسيت معها شكل الخوف حين تمر سيارة سوداء (مفيمة) بجواري. أو حين ألمح حاجزاً عسكرياً على بعد أمتار، يخطف الموت قبل نضوجه في العروق. وجدْتُني مرقداً لرحمتها وبطشها، لجمالها وتعاستها. 

دخلتها منصاعاً. عشقتها وهمت بها منصاعاً. نعم هي بلد التناقضات الجميلة والساحرة. بلد الخيال والواقع. كانت أحاسيس تناسبني، أو تناسبها. لكنها نبذتني حين أوهمتني بأني سائحٌ فقيرٌ في جيبه قروش معدودة، وضمتني كلاجئٍ ثريٍ بالأحلام. باذخ بفردانيته أمام هذا الخراب كله. 11 عاماً لم أتوانَ خلالها عن زيارة المخيمات الفلسطينية. هناك حيث كان ملاذي لاستعادة ذكريات اليرموك وأزقته. اتجول فيها. أحثّ البحث عن ملامح هجِّرْتُ عنها عنوةً. جاراً لوعتي وحنقي كأسطورة بعيدةٍ ومنسيةٍ تفتقر لمشاعها. ألاحق روائح الأطعمة المنبثقة من المنازل، وأشرطة الكابلات المتشابكة والمتدلية فوق رؤوس المارّة، وأصوات الباعة وزحام الشوارع المكتظة بالمتسوقين والضجرين من سخط الحياة. تلك الطرقات المبللة والأروقة المتعرّجة، والحياة العشوائية وبساطة الأشياء، التي مررت بها للمرة الأخيرة قبل أن أغادر إلى تركيا، قاصداً شراء حقيبةٍ للسفر. وجدت نفسي يومئذ داخل متجرٍ لبيع الملابس والحقائب. شعرت بارتباك كبيرٍ.

إقرأوا أيضاً:

 

كيف أجر وحشاً بأربعة دواليب من عنقه؟ خروجي من اليرموك عند اندلاع الحرب عام 2011 كان تدريبي الأول على الهجرة، على الفكرة أن اخرج بلا حقائب. كان لبنان ما زال لا يخشى الوحوش. كنا نرى في اليرموك مساد أمننا وحريتنا. مزار دهشتنا خارج خارطة العالم. بين حواريه وطرقاته تعلمنا كيف نسير حفاة دون قلقٍ من ضياعٍ وتشتتٍ. فيكفي أن نجتاز شارع حيفا والمنصورة وصفد ولوبية للقادمين من جهة الشمال، وشارع “الثلاثين” والـ”15″، للقادمين من جهة الغرب والجنوب الغربي، وحي “الجاعونة” وفلسطين للآتين من الشرق، وشارع الحلم والعودة للقادمين من جهة الأمل. من الذي جرني من عنقي؟

خطفني منظر الحقائب المدرسية المتدلية حولي، وأشكالها مختلفة: سوبر مان، وبات مان، زورو، والرجل العنكبوت وغيرها الكثير من الشخصيات الكرتونية. تلك الحقائب الملونة برسومات بوب كين، جونستون مكولي، جيري سيغل وجوشاستر، المأخوذة بأفكار نيتشه وفكرة الإنسان الأعلى أو الخارق، التي تمثل معاني البطولة والعدالة والخير المطلق، تلك الحقائب أخذت تنبش الحنين في أمكنة باتت مشوهة وحالكة لا يأتيها نور، سوى نور الشهب النارية التي تخلّفها قذائف الدبابات والطائرات في بلادي. ظننت بصخبها، وبسذاجة طفولية، أنها ستوقظ الرسوم المطبوعة فوق الحقائب، فتخرج أبطالها من كبوتهم، ليطلّوا علينا من مكان بعيد، كما الأفلام، متجاوزين طائرات القتل وراجمات الصواريخ، ليأخذوا بنا بعيداً عن الدمار والهلاك اللذين لحقا بمخيم اليرموك وسوريا. بعيداً عن الحصار الخانق الذي يطوق مخيمات اللجوء في بلداننا العربية. “أشعر بأنني لاجئ خارق”.

لاح في ذهني صوت كارمن توكمه جي وهي تغني شارة مسلسل “ضبوا الشناتي”. “سفرني ع أيا بلد، واتركني وانساني”. اختار ممدوح حمادة، كاتب المسلسل، أن يموت جميع أبطاله الرئيسيين غرقاً في البحر. لم ينجُ منهم سوى حقائبهم وطفلة رضيعة ًلم تلبث أن تتعلم الغرق مثلي. “سأغرق، ربما أنجو”.

لا بد أن إسطنبول معتادة على المهاجرين. شوارع تزخر بمحلات بيع الحقائب بشكل مخيف. حقائب محشوة بالطرقات والمسافات. فارغة من أي وطن قد يتسع لنا. نهرب بواسطتها نحو المجهول. بعيداً من شواطئنا وبحارنا. من بيوتنا وقرانا واسلافنا. وبعيداً من يد صاحب المتجر التي انسلّت من بين الحقائب، لتوقظني.

إقرأوا أيضاً:

يمنى فواز- صحافية لبنانية | 18.01.2025

ماكرون يحاول تعويض خساراته الفرنسية في شوارع بيروت !

يسير إيمانويل ماكرون في شوارع بيروت يتلفت يميناً ويساراً، يأمل أن تلتقط الكاميرات مجدداً امرأة تهرع إليه كمنقذ وكأنه رئيس لبنان، أو طفل فرح يركض إليه من أي اتجاه، لكنه وجد نفسه محاطاً بجمع من الصحافيين، ومتفرجين من المارّة، في الشارع ذاته الذي استقبله بحفاوة وكأنه رئيس البلاد في 6 آب 2020.
22.06.2022
زمن القراءة: 5 minutes

لا بد أن إسطنبول معتادة على المهاجرين. شوارع تزخر بمحلات بيع الحقائب بشكل مخيف. حقائب محشوة بالطرقات والمسافات. فارغة من أي وطن قد يتسع لنا.

كيف أحتفل بـ”اليوم العالمي للاجئين”؟ 

هل من طقوس خاصة أمارسها لأشعر بالسعادة؟ لأشعر بأنني كبرت عاماً آخر كلاجئٍ؟ “كل عام وأنا لاجئ بخير”، هكذا نتذكر كيف يكون القلق صديقاً أبدياً في يوم عيدنا العالمي.

ربما لم أشعر بهذا الحجم من القلق يوم دخلت مدينة إسطنبول، قبل أربعة أشهر. كان خياراً مناسباً لمزاجي المتقلب، أن أدّخر بعض القوة للأيام اللاحقة، حيث ستبدأ موجة مشاعر ثقيلة وكاسرة، كنت متيقناً من أنها ستقتحمني في أي لحظة. هذا ما علمتني إياه بيروت قبل رحيلي عنها.

في إسطنبول، ستغدو سائحاً بلمحة بصر، قبل الانتباه لمكانتك القانونية. لن تلبث أن تدرك ذلك حتى تتواطأ مع هويتك. ستعود مكبلاً بمساحات جغرافية تلوح في أفق الخوف والأمل. ثم تشهر سكين الحقيقة لقتل هذا التعريف المزيف. “من زرع في عقلي فكرة النجاة؟”، سألت نفسي حين دخلت أحد المتاجر الخاصة ببيع حقائب السفر للمرة الثانية في حياتي. طريقة ترتيبها وتعليقها وألوانها وأشكالها وأحجامها، كل ذلك، كان كافياً لأفهم أن الحقيبة الرياضية التي أجرها على ظهري، هي مجرد مراوغة نفسية أتغلب بها- لفترات متفاوتة- على هويتي كلاجئ. خلت نفسي سائحاً يستطيع بمظهره الحسن وملابسه الأنيقة، نوعاً ما، أن يشاطر الآخرين سلوكياتهم الطبيعية. الاستمتاع بالبلد ومناظره الطبيعية، دخول محال الألبسة ذات الماركات العالمية والمطاعم والمقاهي المميزة بديكوراتها وأثاثها، تقبيل فتاة في الشارع دون رقيب أو حسيب. إنها أفعال عادية يمارسها أهل البلد بشكل تلقائي. دون حاجة إلى تبرير نظرات ازدرائهم تجاه أجانب يتنزهون ويتلذذون بمدنهم وخدمات دولتهم. ولعل غيرتي هذه، وإن لم تنشأ من عدم، فإنما كانت لمقاربة استفسر من خلالها شكل الحياة والحريات هنا، في إسطنبول- والحياة التي كنا نعيشها في سوريا قبل اندلاع الحرب وخلالها. 

ليس على الفلسطيني أن يكون ماهراً في الاندماج، بقدر ما يتحتم عليه أن يكون ماهراً بالاستقرار. هناك في القارة العجوز، فلسطينيون تحولوا بلا رحمةٍ، إلى سياح أو يحاولون ذلك. لكن المهارة تكمن، على ما أعتقد، في الاحتيال على الانصياع، مثلما كان يفعل بطل “الرجل ذو الحقائب” ليوجين يونيسكو، وهو يبحث عن هويته مشوشاً ومدهوشاً أمام هذا العالم الذي يعج بالقهر والنفاق. وهذه لغة لم يتعلمها فلسطينيو سوريا يوم خرجوا من مخيم اليرموك نحو لبنان، مروراً بتركيا أو ليبيا والجزائر ربما، ثم أوروبا. لم يتعلموا كيفية النجاة من قبضة الحضارات خوفاً من أن تتلاشى صفعة التاريخ عن وجه وطنهم. لكنهم تعلموا الحياة خلف أقنعتهم.. لكم تحزنني أقنعتهم الجميلة. 

في بيروت لم أتعلم كيف أكون سائحاً، وهذا ليس ذنباً تحمله عائلتي على عاتقها. معذورة هي أيضاً. ولربما أجدادنا شعروا، لوهلة، بأنهم سائحون حين دخلوا سوريا وكذلك مصر والأردن ولبنان. ثم اكتشفوا لاحقاً أنهم باتوا لاجئين إلى أجل غير مسمى. دخلت لبنان قبل 11 سنة. لم أكن قلقاً حينذاك مثلما أنا اليوم. لمجرد أن وطأت قدماي أرضه حتى تلاشت، بسرعةٍ، صور المدافع والطائرات الحربية في سوريا من مخيلتي. ذكريات الطفولة وسنوات المراهقة في مخيم اليرموك، هي كل ما بقي في ذهني. أشياء كثيرة منّت عليّ بها بيروت. أغوتني ببحرها ومدنها وبسواحلها وأناسها. نسيت معها شكل الخوف حين تمر سيارة سوداء (مفيمة) بجواري. أو حين ألمح حاجزاً عسكرياً على بعد أمتار، يخطف الموت قبل نضوجه في العروق. وجدْتُني مرقداً لرحمتها وبطشها، لجمالها وتعاستها. 

دخلتها منصاعاً. عشقتها وهمت بها منصاعاً. نعم هي بلد التناقضات الجميلة والساحرة. بلد الخيال والواقع. كانت أحاسيس تناسبني، أو تناسبها. لكنها نبذتني حين أوهمتني بأني سائحٌ فقيرٌ في جيبه قروش معدودة، وضمتني كلاجئٍ ثريٍ بالأحلام. باذخ بفردانيته أمام هذا الخراب كله. 11 عاماً لم أتوانَ خلالها عن زيارة المخيمات الفلسطينية. هناك حيث كان ملاذي لاستعادة ذكريات اليرموك وأزقته. اتجول فيها. أحثّ البحث عن ملامح هجِّرْتُ عنها عنوةً. جاراً لوعتي وحنقي كأسطورة بعيدةٍ ومنسيةٍ تفتقر لمشاعها. ألاحق روائح الأطعمة المنبثقة من المنازل، وأشرطة الكابلات المتشابكة والمتدلية فوق رؤوس المارّة، وأصوات الباعة وزحام الشوارع المكتظة بالمتسوقين والضجرين من سخط الحياة. تلك الطرقات المبللة والأروقة المتعرّجة، والحياة العشوائية وبساطة الأشياء، التي مررت بها للمرة الأخيرة قبل أن أغادر إلى تركيا، قاصداً شراء حقيبةٍ للسفر. وجدت نفسي يومئذ داخل متجرٍ لبيع الملابس والحقائب. شعرت بارتباك كبيرٍ.

إقرأوا أيضاً:

 

كيف أجر وحشاً بأربعة دواليب من عنقه؟ خروجي من اليرموك عند اندلاع الحرب عام 2011 كان تدريبي الأول على الهجرة، على الفكرة أن اخرج بلا حقائب. كان لبنان ما زال لا يخشى الوحوش. كنا نرى في اليرموك مساد أمننا وحريتنا. مزار دهشتنا خارج خارطة العالم. بين حواريه وطرقاته تعلمنا كيف نسير حفاة دون قلقٍ من ضياعٍ وتشتتٍ. فيكفي أن نجتاز شارع حيفا والمنصورة وصفد ولوبية للقادمين من جهة الشمال، وشارع “الثلاثين” والـ”15″، للقادمين من جهة الغرب والجنوب الغربي، وحي “الجاعونة” وفلسطين للآتين من الشرق، وشارع الحلم والعودة للقادمين من جهة الأمل. من الذي جرني من عنقي؟

خطفني منظر الحقائب المدرسية المتدلية حولي، وأشكالها مختلفة: سوبر مان، وبات مان، زورو، والرجل العنكبوت وغيرها الكثير من الشخصيات الكرتونية. تلك الحقائب الملونة برسومات بوب كين، جونستون مكولي، جيري سيغل وجوشاستر، المأخوذة بأفكار نيتشه وفكرة الإنسان الأعلى أو الخارق، التي تمثل معاني البطولة والعدالة والخير المطلق، تلك الحقائب أخذت تنبش الحنين في أمكنة باتت مشوهة وحالكة لا يأتيها نور، سوى نور الشهب النارية التي تخلّفها قذائف الدبابات والطائرات في بلادي. ظننت بصخبها، وبسذاجة طفولية، أنها ستوقظ الرسوم المطبوعة فوق الحقائب، فتخرج أبطالها من كبوتهم، ليطلّوا علينا من مكان بعيد، كما الأفلام، متجاوزين طائرات القتل وراجمات الصواريخ، ليأخذوا بنا بعيداً عن الدمار والهلاك اللذين لحقا بمخيم اليرموك وسوريا. بعيداً عن الحصار الخانق الذي يطوق مخيمات اللجوء في بلداننا العربية. “أشعر بأنني لاجئ خارق”.

لاح في ذهني صوت كارمن توكمه جي وهي تغني شارة مسلسل “ضبوا الشناتي”. “سفرني ع أيا بلد، واتركني وانساني”. اختار ممدوح حمادة، كاتب المسلسل، أن يموت جميع أبطاله الرئيسيين غرقاً في البحر. لم ينجُ منهم سوى حقائبهم وطفلة رضيعة ًلم تلبث أن تتعلم الغرق مثلي. “سأغرق، ربما أنجو”.

لا بد أن إسطنبول معتادة على المهاجرين. شوارع تزخر بمحلات بيع الحقائب بشكل مخيف. حقائب محشوة بالطرقات والمسافات. فارغة من أي وطن قد يتسع لنا. نهرب بواسطتها نحو المجهول. بعيداً من شواطئنا وبحارنا. من بيوتنا وقرانا واسلافنا. وبعيداً من يد صاحب المتجر التي انسلّت من بين الحقائب، لتوقظني.

إقرأوا أيضاً: