ككل ليلة باردة في المخيم في ظل الشتاء القاسي على النازحين، مدت أم عبد الباري على أجساد أطفالها الثلاثة الأغطية، والضحكات تملأ الخيمة بين الأم وأبنائها على أمل صباح جديد لأسرة بسيطة يجمعها الحب بعد تهجيرها قسرياً من أرضها، ومكوثها في مخيمات أطمه شمال إدلب. لكن الصباح التالي لم يأت إلا بفاجعة كسرت ظهر الأم والأب، إذ مات الأطفال جميعاً في ساعة واحدة بعدما اختنقوا بانبعاثات مدفأة الفحم التي كانت الوسيلة الوحيدة للتدفئة في خيمة أصبحت وطناً لآلاف العوائل التي هجّرها نظام الأسد من منازلها قسرياً.
مع ساعات الفجر الأولى ليوم 15 كانون الثاني/ يناير 2024، دخلت أم عبد الباري خيمة أبنائها _ عبد الباري وعيسى وموسى _ لتفقّد أغطيتهم جراء البرد القارس، بيد أنها لم تلحظ أي حراك من الأطفال الثلاثة. بدأت تصرخ بأسمائهم مع هز أجسادهم الباردة التي قتلها الفحم بدل تدفئتها بحسب عمر اليونس، صهر العائلة.
استجابة معدومة
تستخدم غالبية مخيمات النازحين شمال غربي سوريا، مدافئ تعمل على الفحم أو المستهلكات البلاستيكية من مكبات النفايات، بسبب ارتفاع أسعار مواد التدفئة واتساع دائرة البطالة وارتفاع نسبة الفقر بين السكان إلى 91.10 في المئة، ما أدى الى وفاة عدد كبير من النازحين في الخيم خلال السنوات الخمس الماضية بانبعاثات الغازات الطاردة للأوكسجين.
ومع تخفيض برنامج الغذاء العالمي WFP مساعداته في سوريا إلى نحو 72 في المئة في مطلع عام 2024، وسنوات النزوح الطويلة وارتفاع مستوى الفقر، تجد آلاف العائلات نفسها أمام وحش البطالة والعوز، ما يجبرها على الاستعانة بوسائل بدائية للتدفئة، بخاصة الفحم المتوافر بأسعار أقل مقارنة بمواد التدفئة الأخرى.
يقول فريق “منسقو استجابة سوريا”، إن شتاء هذا العام شهد انخفاضاً هائلاً في عملية تخصيص الاستجابة الشتوية المقدم من المنظمات الدولية، وذلك في أدنى استجابة له منذ سنوات عدة، والتي لم تتجاوز عتبة الـ9.5 مليون دولار، وذلك لتمويل العمليات الإنسانية في شمال غربي سوريا، موزّعة على مختلف القطاعات الإنسانية في المنطقة خلال فصل الشتاء.
وفي بيانه المنشور في 24 كانون الأول/ ديسمبر2023 ، أشار الفريق إلى أن هناك انخفاضاً كبيراً في تمويل قطاع المخيمات، على رغم الصعوبات الكبيرة التي تعاني منها المخيمات، بخاصة مع انخفاض درجات الحرارة والحاجة الكبيرة الى تأمين مواد التدفئة.
وعلى رغم تخصيص مبلغ لقطاع الأمن الغذائي، إلا أنه لم يتجاوز الحدود المطلوبة لتمويل المنطقة، بخاصةً مع ارتفاع أسعار المواد والسلع الغذائية، في ظل عمليات التخفيض المستمرة من برنامج الأغذية العالمي WFP الأخيرة، والتي ستوقف إمداداتها لملايين المدنيين مع بداية العام المقبل، وذلك في ذروة احتياجات الشتاء.
غازات قاتلة والمجرم واحد
لم يكد ينسى أبو عبد الباري القصف الكيماوي الذي تعرضت له مدينته اللطامنة شمال محافظة حماة في ربيع العام 2017 وما نتج منها من حالات إصابة واختناق بين السكان، حتى فُجع بموت أطفاله الثلاثة بانبعاثات مدفئة الفحم، التي أجبرهم بشار الأسد على استخدامها بعدما هجّرهم من أرضهم ومنزلهم قسرياً إلى خيام النزوح.
يعمل أبو عبد الباري وأبناؤه ضمن خيمتهم المتهالكة في مخيمات شمال غربي سوريا، في صيانة مقاعد الدراجات النارية وخياطة البالية منها، كصنعة بسيطة لا تكفي غالباً لتأمين سعر الوجبة اليومية لعائلة مكونّة من ثمانية أفراد، غالبيتها إناث.
وفي اتصال “درج” مع أبو عبد الباري وسؤاله عن حاله، لم يستطع كتم بكائه على أبنائه الذين خسرهم بليلة واحدة. يقول، “بالأمس قُتل أقاربي بنيران قوات النظام في مدينة اللطامنة ولم تمحُ الأيام الحزن عليهم. واليوم، أفقد أفلاذ أكبادي بعدما أجبرنا النظام ذاته على السكن في الخيم واستعمال تدفئة رديئة رخيصة أودت أدخنتها بأروح أحبابي، وقد أظلمت الدنيا على بعدهم”.
تعرضت مدينة اللطامنة، الموطن الأصلي لعائلة أبو عبد الباري، لمجازر متتابعة عدة من قوات النظام، كان أبرزها مجزرة نيسان/ أبريل2012، التي راح ضحيتها أكثر من 70 شخصاً من أبناء المدينة. وقالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إنها استطاعت إحصاء 70 قتيلاً في اللطامنة، بينهم أكثر من 20 جثة محترقة ومشوهة بالكامل لم يعرف أصحابها، إضافة إلى عشر جثث اختطفتها قوات الأمن التي كانت تتحرك في البلدة بسيارات الدفع الرباعي. لم يسلم أحد من الموت، كبيراً كان أم صغيراً، نساء أم رجالاً، ولم يفرق النظام بين أحد منهم.
في العام 2017، استهدفت قوات النظام وروسيا وميليشيات إيران الأحياء السكنية في مدينة اللطامنة بثلاث هجمات بالأسلحة الكيماوية، تسببت بإصابة 106 أشخاص بحالات اختناق، بحسب تقرير فريق تحقيق تابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية الصادر في 7 نيسان 2020. وأجبرت قوات النظام سكان المدينة على الفرار منها بعد عمليات قصف جوي وأرضي مكثفة انتهت بسيطرة قوات الأسد وميليشياتها على المدينة في صيف العام 2019 وتهجير سكانها باتجاه المخيمات الحدودية مع تركيا، بحسب شهادة الناشط الميداني محمود الحموي.
أحد أحياء مدينة اللطامنة
بحسب المحامي عبد الباقي السيف، يتحمل بشار الأسد اليوم المسؤولية الكاملة عن موت أطفال أبو عبد الباري، مثلما كان مسؤولاً عن مقتل أقاربه في مدينة اللطامنة. إذ عمد نظام الأسد إلى تهجيره من أرضه ومنزله قسرياً وحرمانه وعائلته من العمل في أرضهم والحصول على حياة كريمة، بعيداً عن سكن المخيمات والعوز، والبرد الذي أجبر رب الأسرة على استخدام مدفئة الفحم البدائية، فمات أبناؤه بأبخرتها التي تسربت إلى صدورهم وقتلتهم.
مأساة سنويّة
لم تكن فاجعة عائلة أم عبد الباري الأولى في مخيمات النزوح بحسب الناشطة داليا اليوسف، إذ لا تمر سنة إلا وتتكرر حوادث الاختناق بنواتج المدافئ، وتحصد أرواح كثر من النازحين، جلّهم من الأطفال.
وتذكر اليوسف حادثة وفاة عائلة مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال في مخيمات جبل كللي في شتاء العام 2021، جراء استنشاقهم نواتج الفحم المحترق في المدفئة داخل خيمتهم، التي تتحوّل الى ثلاجة في فصل الشتاء.
يتم استخراج الفحم الحجري من الرواسب النفطية، ويعد أسوأ أنواع التدفئة كونه يبث غاز أول أكسيد الكربون، وهو أكثر خطورة من ثنائي أكسيد الكربون، إذ يؤدي إلى الاختناق حال استنشاقه، بخاصة للشخص النائم، بحسب طبيب الأمراض التنفسية شادي الطلال.
وفي مناطق شمال غربي سوريا، يُستخرج الفحم من حراقات النفط البدائية في منطقة ترحين شمال حلب، والخارجة كلياً عن معايير السلامة وشروط الإنتاج، بحسب رواد حساني، العامل سابقاً في حقول نفط الحسكة، ما يفضي إلى نتاج فحم بمواصفات سيئة.
ويلجأ بعض التجار إلى شراء فحم تدفئة حجري مستورد من تركيا مغلف ضمن أكياس ويحمل دلالات لمواصفاته، وهذا النوع مرتفع الثمن، إذ سجّل سعر الطن الواحد هذا العام نحو 180 دولاراً، وبيعه محدود في الأسواق، بحسب التاجر عبد المعطي السلوم. فيما يعمد تجار آخرين إلى شراء فحم من حراقات ترحين البدائية، الذ يشبه التراب وغير مغلف ويحوي رائحة كريهة، ويعمل على تشكيل طبقة إسفلت في المدافئ، ولا يتجاوز سعر الطن منه الـ 130 دولاراً، وهو الأكثر مبيعاً في الأسواق.
يقول مصباح العبد سلام، المهجر من ريف حمص إلى مخيمات دير حسان شمال إدلب، “نعلم أن الفحم والمستهلكات البلاستيكية والأحذية ليست آمنة للتدفئة، لكن ليس أمامنا سوى خيارين، إما أن نموت من البرد جراء فقرنا وغياب القدرة على شراء الحطب والمازوت، أو نمنح أطفالنا بعضاً من الدفء مع الحذر قدر المستطاع، وهذه حياتنا منذ أكثر من 10 سنوات مع الشتاء الذي يحلّ علينا مثل الوحش الساعي الى أخذ أرواحنا”.