يحاول الكثير من النواب الحاليين والمرشحين إلى الانتخابات النيابية في لبنان المرتقبة في 15 أيار/ مايو، إقناع المقترعين ودعوتهم إلى منحهم أصواتهم التفضيلية، بحملات انتخابية تخطّت غالباً سقف الإنفاق المحدد في القانون.
ففي بلد يواجه مواطنوه أقسى أزمة معيشية، تصرف مئات آلاف الدولارات على حملات انتخابية، بما يتجاوز ما ينص عليه القانون كما سنبيّن في متن المقال. مع العلم أن القانون يسمح بقسم ثابت مقطوع للصرف الانتخابي قدره 750 مليون ليرة لبنانية (نحو 30 ألف دولار)، يضاف إليه قسم متحرك مرتبط بعدد الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى التي ينتخب فيها وقدره 50 ألف ليرة لبنانية عن كل ناخب من الناخبين المسجلين في قوائم الناخبين في الدائرة الانتخابية الكبرى.
في ما يلي نورد بعض الأرقام حول الحملات الانتخابية، مع العلم أنها تشمل الصرف على اللوحات الإعلانية والظهور المدفوع على وسائل الإعلام فقط، أي أنها لا تشمل وسائل التواصل الاجتماعي وأساليب الترويج الأخرى. وفق مصدر خاص من إحدى شركات الإعلان (ولم يتسنَّ لنا الاطلاع على بيانات الشركات الأخرى التي تعمل لمصلحة مرشحين آخرين)، بلغ إنفاق النائب الحالي والمرشح فؤاد مخزومي عن المقعد السني في بيروت الثانية في شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس فقط، 367,028 دولاراً، فيما تجاوز إنفاقه على اللائحة 322 ألف دولار. أما لائحة “بيروت تواجه” المدعومة من رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة فقد بلغ إنفاقها للفترة ذاتها 393,196 دولاراً. المرشح عن دائرة صيدا عبد الرحمن البزري أنفق على حملته 63,451 ألف دولار، فيما أنفق المرشح عن طرابلس عمر حرفوش 190,425 دولاراً خلال شباط وآذار وحدهما وهذا وفق إحدى شركات الإعلان وهي أرقام لا تشمل كل الدعاية الانتخابية… كما أنفقت حملة “لبنان السيادة” التابعة لـ”حزب القوات اللبنانية”، وفق البيانات التي حصل عليها “درج” 415،225 دولار، وأنفقت حملة “relebanon” المدعومة من “لوطني” أكثر من 195 ألف دولار، بينما صرفت المرشحة عن المقعد الأرمني ضمن اللائحة في دائرة بيروت الأولى على حملتها 60 ألف دولار خلال شباط وآذار 2022… هذه مجرد عينة لشركة إعلانات واحدة، يمكن تخيّل بقية الأحزاب والمرشحين وحجم الصرف غير القانوني.
من يراقب؟ وكيف يتعامل المرشحون مع الأزمة المصرفية والمالية؟
والأسماء المذكورة في الأعلى ليست وحدها المعنية بتجاوز سقف الإنفاق، بل معظم الأحزاب التقليدية، هذا قبل التطرق إلى الرشاوى الانتخابات وشراء الأصوات.
وفق المادة 59 من قانون الانتخاب الحالي، يتوجب على كل مرشح ولائحة فتح حساب في مصرف عامل في لبنان يسمى “حساب الحملة الانتخابية”، وان يرفق بتصريح الترشيح، افادة من المصرف تثبت فتح الحساب المذكور لديه وتبين رقم الحساب واسم صاحبه. ولا يخضع حساب الحملة الانتخابية للسرية المصرفية، كما يجب استلام جميع المساهمات ودفع جميع النفقات الانتخابية عن طريق هذا الحساب حصراً، كما لا يجوز قبض أو دفع أي مبلغ يفوق المليون ليرة إلا بموجب شك.
لكن من يراقب؟ وكيف يتعامل المرشحون مع الأزمة المصرفية والمالية؟ ومن يستطيع ضبط الإنفاق الانتخابي الذي تكفي جولة واحدة في شوارع المناطق اللبنانية للتأكد من أن معظم مرشحي الأحزاب أطاحوا به، من أجل تعليق ترّهات وشعارات يستعطفون بها ناخبيهم، على طريقة استجداء الأصوات، بدل استحقاقها.
وإذ تناولنا كلفة بعض الحملات الانتخابية، ننتقل في ما يلي إلى تفنيد سريع للشعارات الانتخابية وما تعكسه وما تعنيه…
“… ورح نبقى”
لم يكلّف “حزب الله”، نفسه عناء البحث عن شعار جديد، تمسك بشعار انتخابات عام 2018 “نحمي ونبني” مضيفاً في أوّله كلمة غاية في الدلالة “باقون”. “باقون نحمي ونبني”، بمعنى آخر، لم يتغيّر شيء، انهار البلد، غرق الناس في قوارب الموت، تم إذلالهم على محطات البنزين وأفران الخبز، مات أكثر من 200 شخص في مرفأ بيروت، ولكنهم “باقون”. وعمد إلى نشر صور أمينه العام حسن نصرالله والأعلام الصفر على امتداد مناطقه، مع الشعار القديم الجديد، وهو ما احتاج ميزانية وافرة تتعدى بطبيعة الحال الـ30 ألف دولار المنصوص عليها في القانون. ومثله فعل “التيار الوطني الحر” في استنساخ لافت لشعار “حزب الله” مطلقاً شعار “كنّا… ورح نبقى”. وبذلك يؤكد لنا الحليفان أنهما باقيان شئنا أو أبينا… وإذ لا نملك معلومات أو بيانات دامغة حول ما صرفه الحليفان على حملتهما حتى الآن، إلا أن حجم التجييش على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام وعلى الطرقات إلى اللقاءات والمهرجانات الانتخابية، يكفي لتوقع أرقام خيالية، تعكس القلق والخوف من اتجاهات الرأي العام الجديدة. وهذا الانفاق يمتد ليصل الى مواقع التواصل الاجتماعي حيث يجهد حزب الله أكثر من غيره على التمسك بصدارة وسوم أو هاشتاغات “تويتر” مثلا ومن المعلوم أن تصدر الوسوم اليومية على تويتر يكلف مبالغ طائلة تقدر بمئة ألف دولار يومياً على الأقل.
إقرأوا أيضاً:
الكرامة والوفاء
لا تخلو الشعارات غالباً من استحضار “الكرامة” و”الوفاء” وكأن الاقتراع دين على المواطن سداده، إذ يرفق محمد كبارة صورته بشعار “طول عمرك معنا واليوم كلنا معك”، على الطرابلسيين الذين غرق أطفالهم في قوارب الموت والقهر أن يقترعوا للسيد كبارة الذي لم يفعل شيئاً لتخفيف مآسيهم وفقرهم. و”الكرامة أغلى من المال- يلي خلف ما مات”، هكذا يخاطب المرشح فيصل كرامي أهل طرابلس، أفقر مدينة في الشرق الأوسط. ويهيب رعيل سعد الحريري المستقيل من الحياة السياسية بالمقترعين داعين إياهم إلى المقاطعة بشكل مبطّن، عبر شعار “معك واليوم أكتر”.
“جئت للإصلاح في أمة جدي”، هذا شعار انتخابي آخر، اقتبسته المرشحة بشرى خليل عن المقعد الشيعي في دائرة الجنوب من المرويات الشيعية القديمة للتأثير في الناخبين. والشعار يتناغم مع فكرة الكثير من الوجوه القديمة والجديدة، عن الانتخاب وعن العلاقة غير الندّية بين المرشّح والمقترع، والتي ما زالت بمثابة كرنفال عائلي ضيّق، وحدث شخصي يخص المرشّح وحده، بعيداً من معنى المواطنة والإصلاح الحقيقي في بلد منهار، تم تدمير عاصمته في 4 آب/ أغسطس، ولم نعرف حتى الآن من فعل ذلك. الديموقراطية في مفهوم السيدة خليل تعني أن ننتخبها من أجل أرض جدّها!
الأصالة والخلود
في زحلة مثلاً، ترفع ميريام سكاف إحدى المرشحات عن المقعد الكاثوليكي شعار “بيت الأصيل”، وتذهب إلى أبعد إذ يدعو ابنها الناخبين إلى اختيار أمه قائلاً، “صوتوا لإمي لأنو هيك بتكونوا عم تعطوا صوت لبيي”. وبذلك تؤكد السيدة سكاف أنها تستحق الوصول إلى المجلس النيابي لأنها زوجة الياس سكاف الذي توفي قبل سنوات، ومن حقها أن ترث اسمه وتستثمر فيه وبـ”أصالته” قدر المستطاع. ويرفع صديقها في اللائحة مارون مخول شعاراً عصياً على الفهم أيضاً، “ريّح ضميرك… قرر مصيرك”.
“معاً في الأمس واليوم ودائماً”، إنه شعار النائب الحالي والمرشح عن دائرة المتن عن مقعد الأرمن الأرثوذكس آغوب باقرادونيان. السيد باقردونيان، رئيس “حزب الطاشناق”، حسم المعركة وأكّد لمقترعيه أنه باقٍ إلى الأبد، وبذلك لم يترك لهم حتى فرصة للاختيار أو المراوغة.
ومثله المرشح ميشال المر “جونيور”، الذي شرح لنا أن لا فائدة من أن يقدّم لنا أي برنامج انتخابي، حتى لا نحاسبه بعد 4 سنوات. ولإقناع ناخبيه بشخصه نشر صورته مع ميشال المرّ الجدّ… ورأى أن ذلك حسن ويكفي.
“عماد مارون الحاج الملقّب بالمعلم مرشّح عن المقعد الماروني- دائرة عاليه- الشوف”، هكذا كتب المرشح الجديد على صورته المرفوعة على طريق عاليه، متوجهاً إلى مقترعيه بمنتهى الفوقية، مذكّراً إياهم بأنه “المعلّم”… هل يسع الإنسان ألا يستجيب لمعلّمه؟
ولا تخلو الشوارع من الشعارات الرومانسية التي تخاطب الغرائز والمشاعر، لا المنطق أو العقل، كأن يقول النائب فؤاد مخزومي المرشح عن المقعد السني في بيروت، “بيروت بدا قلب”… ولمن لم يلتقط الـeffet، بيروت “بدا قلب” أي “فؤاد”. وتمتدّ الرومانسية إلى لائحة “بيروت تواجه”، “هيدي مش لائحة، هيدي بيروت”… شعار تقشعر له الأبدان لكنه لا يعني أي شيء.
بالانتقال إلى “القوات اللبنانية”، “بدنا وفينا…” المعدّل بعض الشيء عن حملة انتخابات 2018، يشعر المرء بأن بإمكان نواب الحزب صناعة المعجزات وإدخالنا في نعيم لا ينتهي. ربما تكون حملة القوات الانتخابية هي الأوسع على طول البلاد “نحنا فينا نوقف الفساد”… “نحنا فينا نضوّي البلد”… لماذا لم تفعلوا ذلك حتى الآن ما دام “بدكن وفيكن”؟
أما “حركة أمل” فلم تختر لنفسها شعاراً انتخابياً، تكتفي برفع صور رئيسها نبيه بري في بلدات الجنوب… لا داعي لبذل الجهود.
وإذ لا يكفي مقال واحد للمرور على كل الشعارات التي تلوّث شوارع لبنان وتكلف مئات آلاف الدولار فيما يواجه الناس الفقر والعوز… نكتفي بهذا القدر من التفاهة والانحدار…
إقرأوا أيضاً: