بينما كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان منشغلاً بتسليط الأضواء العالمية عليه لشغفه الجديد بالبيئة خلال منتدى مبادرة السعودية الخضراء، التي خرج في افتتاحها بكلمة مسجلة، تسلل غريمه الأكبر المسؤول الاستخباراتي السابق سعد الجبري من منفاه عبر برنامج “ستون دقيقة”، أحد أقدم البرامج الأميركية وأكثرها مشاهدة، ليكشف عن شيء من أوراق الضغط التي يمتلكها ضد بن سلمان. “ستون دقيقة” هو برنامج على طريقة المجلة التلفزيونية المنوعة التي تقدم مواضيع بطريقة مميزة إعلامياً على قناة “سي بي أس”، وهو البرنامج العالمي الوحيد الذي اختاره ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للظهور فيه ولمرتين، بهدف تبرير أخطاء إدارته والرد على الاتهامات الموجهة له عالمياً، بخاصة في ما يتعلق بحرب اليمن وملف حقوق الإنسان في السعودية.
انطلقت شرارة معركة الجبري وهو أحد رجالات وزير الداخلية وولي العهد السعودي السابق محمد بن نايف، مع بن سلمان منذ عام 2015، عندما أقال بن سلمان الجبري، لكنه ظل يعمل مع ولي العهد آنذاك محمد بن نايف بصفة شخصية، إلى أن غادر البلاد في أيار/ مايو 2017، قبيل اندلاع الخلاف السعودي- القطري وخروج مواطنه الصحافي جمال خاشقجي الذي لحق به هو الآخر بعدها بأسابيع قليلة، نتيجة الأحداث المتسارعة والخارجة عن المألوف في البلاد، وعلى رأسها تنحي ولي العهد السعودي محمد بن نايف عن منصبه وسط أجواء غامضة تابعها الملايين، وقيل لاحقاً إنها تمت تحت ضغوط وبسطوة مسلحين، ما منع عودة الجبري إلى بلاده ومنع ابنه عمر وابنته سارة من اللحاق به.
قد تبدو الاتهامات بين الرجلين معركة جانبية بالنسبة إلى مواطنين سعوديين، بخاصة أولئك الذين اختاروا الانسحاب من متابعة المشهد السياسي، خوفاً على أنفسهم من تمضية بقية حياتهم في سجون محمد بن سلمان، إلا أن كشف الجبري بالأدلة كما يقول، عن نية محمد بن سلمان اغتيال العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز بسم روسي، ووصفه بن سلمان بالمريض النفسي والقاتل، قد جعلا من اللقاء مادة نقاش ساخنة محلية وعالمية عبر منصة “تويتر”، الأكثر استخداماً في السعودية. كما أن إفصاح الجبري عن تسجيله مواد فيلمية يكشف فيها المزيد من المستور وقد يتم نشرها في حال نجحت محاولات اغتياله من قبل فرق يرسلها ولي العهد السعودي والتي تناولتها مراراً وسائل إعلام عالمية، نقلاً عن جهات استخباراتية في كل من كندا والولايات المتحدة، عوامل قد تقود المشهد السياسي السعودي إلى مزيد من الأسئلة حول مستقبل الحكم في البلاد، وما قد تؤول إليه الأمور.
في اللقاء استخدم الجبري إحدى بطاقاته التي يحتفظ بها للنيل من خصمه ولي العهد السعودي، فالحديث عن محاولة اغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز داخلياً ومن ابن أخيه تحديداً، يعد أمراً صادماً للمواطنين السعوديين ويعيد مشهد اغتيال الملك فيصل بن عبدالعزيز أواسط السبعينات، بخاصة أنه كان من الملوك القلائل الذين بلغوا شعبية عالية، لكن هذه الرواية دفعت كثراً إلى طرح الأسئلة حول أسباب تجاهل أفراد الأسرة الحاكمة الأمر! ولعل أحد أبرز أخطاء محمد بن نايف والأسرة الحاكمة السعودية، يكمن في محاولة لملمة أخطاء أبناء العائلة، فما خرج من فم محمد بن سلمان وفقاً لأقوال الجبري يؤكد أنه خطر محقق، وأن حنكة محمد بن نايف وخبرته لم تسعفاه لإيقاف السم الأخطر الذي أوصله لما هو عليه اليوم، من اعتقال وتعذيب وإخفاء قسري طاوله وطاول أفراداً من أسرته وعدداً كبيراً من المواطنين السعوديين.
وفي المقابلة ذاتها، قال النائب الأسبق لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “سي اي اي” مايكل موريل، إن 70 في المئة من السكان في السعودية هم تحت سن الثلاثين، والمجتمع السعودي اليوم منقسم بين مؤيد لبن سلمان ومعارض له.
وتبدو قسمة موريل غير مبنية على أرقام واقعية، إذ تنعدم تقريباً الإحصاءات الدقيقة في السعودية عند الحديث حتى عن أبسط الأمور الاجتماعية، كما أن الفئة المعارضة تخشى الحديث علناً عن رأيها كي لا تتعرض لأي شكل من أشكال الاعتقال أو تضييق الخناق عليها. وعلى رغم ذلك فمن يعرف الواقع السعودي سيدرك حتماً أن المعترضين على السياسة الحالية هم متنوعون من الأجيال السعودية والطبقات الاجتماعية، إذ لم يترك ولي العهد السعودي باعتقالاته فئة تميل لما يسمى بإصلاحاته في البلاد، بعدما امتلأت السجون بمختلف أطياف المجتمع، فضلاً عن أن البيئة المحافظة والتي تشكل نسبة كبيرة من المجتمع، تبدي تذمرها بين حين وآخر من مشاهد التغييرات الكبيرة التي طرأت على الشارع والبيت السعودي.
إقرأوا أيضاً:
ووسط كل ما تمر به السعودية اليوم، بخاصة على الصعيد السياسي، فإن الاختلافات والانشقاقات في الصفوف داخلياً وخارجياً باتت شديدة الوضوح، وعلى رغم أن رجلاً بأهمية د. سعد الجبري يمكنه أن يلعب دوراً كبيراً في تكوين معارضة خارجية قوية، إلا أن عدداً كبيراً من المعارضين في الخارج يلقون اللوم عليه كونه كان يعمل بالقرب من بن نايف، الذي شهدت مرحلة توليه المسؤولية اعتقالات كثيرة وقطع رؤوس، بخاصة بين المواطنين الشيعة في المنطقة الشرقية من السعودية، فضلاً عن الفساد المالي وغيره من الملفات الشائكة في البلاد منذ تأسيسها، فيما يلمس معارضون آخرون في كلماته وخروجه عن صمته، شيئاً من الندم. كما يروح آخرون إلى فكرة أن ما كان يحدث في ظل سيطرة بن نايف لا يشبه لا من بعيد ولا من قريب ما وصلت إليه الحال اليوم في السعودية، من انتهاكات بخاصة على مستوى حقوق الإنسان.
لقاء الجبري ضربة جديدة يتلقاها ولي العهد السعودي، أياً كان حجمها وأثرها المستقبلي، ومقارنة الاتهامات بين الجبري ومحمد بن سلمان، لا يمكن قبولها ولا بأي شكل من الأشكال، فهذا يقول اقبضوا على القاتل وهم يردون، اسكت يا فاسد!
لكن البعض لا يستطيع الخروج من ثوب مقارنة مواطن بأمير، فالأول متهم بفساد مالي سرق الأبيض والأسود من المواطنين السعوديين، بينما الثاني متهم بقتل أرواح المواطنين إضافة الى الفساد المالي الذي يبرره بأنه ليس غاندي ولا مانديلا ليُحاسب على شراء يخت أو لوحة مزورة بملايين الدولارات، الفرق واضح وكبير، لكن مبادئ الناس وأولوياتهم تختلف.
إقرأوا أيضاً: