fbpx

“ميدان التحرير” يحرسه العساكر…
حتى محو الذاكرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحرب على الرمزية، ليست مجرد احتلال المكان عبر الانتشار فيه، ووضع البصمات أو تغيير معالمه، إنما هي حرب على مجالات التصور والخيال وعلاقات الأجيال بالتاريخ، وعلاقاتنا نحن بماضينا وواقعنا وأحلامنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنت عائداً إلى أسرتي ماراً بميدان التحرير باتجاه محطة مترو أنور السادات، وبينما كنت أهبط سلالم المترو التقطتُ صورة “سيلفي” خاطفة بهاتفي، ولم أتفحصها إلا بعدما قطعت مسافة آمنة من البوليس الذي لا يتزحزح من هناك. نظرت إلى مبنى مجمع التحرير من ورائي في الخلفية، وانتابني شعور غامض بأن هذه الصورة تنتمي إلى أرشيف الثورة الذي دخل كل بيت وانتشر في كل مكان عبر وسائل نشر الصورة. وتبادرت إلى ذهني فكرة غريبة، قلت؛ ربما سبب وجود البوليس هناك إلى الآن بعد 11 سنة هو أن نفس الثورة لا يزال موجوداً في الميدان برغم سطوتهم عليه.

بإمكان الرائي أن يلاحظ عبر الصورة البصرية التي يراها اليوم في ميدان التحرير، معركة خفية، لها طرفان، سلطة الدولة و”المكان”. فالأماكن التي تشهد معارك أو وقائع تاريخية لها قيم ودلالات معينة، يمكنها أن تتحول مع مرور الزمن إلى طرف أو خصم أساسي في النزاع.  

وخصومة الدولة مع ميدان التحرير هي نزاع على الهوية التاريخية والرمزية الثورية التي يحملها. والتي يمكن شحنها في كل الأشياء حجراً كان أو نباتاً أو حتى المباني الحكومية. كيف يتحول مبنى حكومي مثل مجمع التحرير إلى فكرة (بصرية) ومثال ثوري مشحون بهذه العاطفة التي في الصورة؟

لماذا هدمت الحكومة في آب/ أغسطس 2015، مبنى الحزب الوطني المطل على ميدان التحرير؟ برغم أن هذا الحزب كان بمثابة الذراع السياسية لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك؟ وقد أحرقه ثوار يناير.

كل شجرة تم قلعها من قلب الميدان لوضع نافورة مياه أو حجر فرعوني ضخم أو أضواء اصطناعية للزينة، هي محاولة لنفي مجرد التلميح أو الإشارة الدالة إلى عبارة الثورة.

الرمز يقوم مقام التاريخ، أو يختزل لحظات معينة منه، كما في رموز الفيزياء التي تقوم مقام الصوت المنطوق، لذلك فإن المعركة تستهدف في الأساس الأصوات المنطوقة من التاريخ والأصوات الحاضرة، برغم كبتها والأصوات التي من المحتمل أن تدوي في أي وقت في المستقبل. 

الحرب على الرمزية، ليست مجرد احتلال المكان عبر الانتشار فيه، ووضع البصمات أو تغيير معالمه، إنما هي حرب على مجالات التصور والخيال وعلاقات الأجيال بالتاريخ، وعلاقاتنا نحن بماضينا وواقعنا وأحلامنا.

على رغم ذلك، تشن السلطة هذه الحرب العمرانية على المعاني التاريخية والفكرية وتستهدفها فقط، لأنها ما زالت حية.

مرت 11 سنة على الثورة المصرية، تغيرت خلالها مصائر البلاد وصيرورات العباد، دخل كثيرون السجن حيث مات ثوار ورؤساء، إلى جيل كامل تم نفيه وتغريبه، فيما ما زال العسكر يحتل ميدان التحرير. 

لماذا انفضّ كل شيء ولم يعد أولئك العساكر منذ ذلك اليوم إلى بيوتهم؟

إن الشاهد الحقيقي هو منظر ميدان التحرير العادي الآن، مع عربات الشرطة المصفحة الحاضرة على مدار أكثر من عقد من الزمن، ما الذي يخيفهم؟

إذا اتفقنا على أن المباني الحكومية والبيروقراطية قابلة لشحنة ثورية في صورة مناقضة لوظيفتها كما تقدم، فإن العساكر الذين ما زالوا في ميدان التحرير هم أيضاً أكثر الناس إحياء لذكرى الثورة. استمرارية هذا الوجود يجعل من الميدان استعارة دائمة للثورة، فعلاً ثورياً في حد ذاته، أو على الأقل مساحة معبرة عن الفعل الثوري. 

لقد محت الدولة الآثار الوحيدة والمعبرة عن الفعل الثوري المباشر والمتمثلة في رسوم “الغرافيتي” التي نقشها الفنانون على البنايات المجاورة للميدان أثناء الثورة. 

كما أنها تفعل كل ما يمكن للقضاء على تلك الذاكرة وطمس معالمها بشتى الطرائق، سواء بتغيير النمط الهندسي للمكان بشكل متكرر، أو تفريغ الحياة العامة من وسط المدينة، وإعادة التوطين للمؤسسات الحيوية الذي يقلل من مركزيتها الاجتماعية كما ينزع هويتها التاريخية والثقافية، أو عبر تغيير أنشطة المكان وعاداته، وفرض الحواجز المختلفة، والهجوم المباشر على الذاكرة الرمزية لمرتاديه، عبر تفتيش هواتفهم الشخصية، وانتهاك خصوصياتهم بشكل عشوائي ومفاجئ.

عقب الثورة مباشرة، قامت الدولة، بإغلاق شوارع حي “وسط البلد” الذي يؤدي إليها ميدان التحرير بالمتاريس الخرسانية لفترة طويلة خشية من مواجهة الشعب. كما شيدت بوابة حديدية ضخمة ودائمة، ما زالت حتى الآن في الشارع المؤدي إلى وزارة الداخلية من شارع محمد محمود.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، قام رئيس الوزراء حينها بافتتاح نصب تذكاري في منتصف الميدان لشهداء الثورة، الأمر الذي اعتبره الثوار محاولة أخرى للطمس والخداع، وخطوة مضادة لما هو ثوري، لأن الأشياء تنتهي فقط عندما يوضع لها نصبٌ تذكاري. فقامت مجموعة من الثوار حينها بهدمه عبر طمس معالمه وعلقوا عليه صورة “جيكا” الذي قضى في أحداث محمد محمود عام 2012.

غيرت الحديقة التي تتوسط ميدان التحرير أكثر من مرة. وقامت لاحقاً بنقل تماثيل لأربعة كباش من الحجر الرملي كانوا في معبد الكرنك بالأقصر، برغم اعتراض منظمة اليونيسكو، وتوجيه رئيسة المركز العربي للتراث العالمي رسالة إلى وزارة الآثار المصرية تحذر من عملية نقل التماثيل وتعارضها مع المبادئ التشغيلية لاتفاقية التراث العالمي.

إضافة إلى ذلك، نقلت 22 مومياء ملكية من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة، في موكب عالمي فخم، زين ميدان التحرير وانطلق منه إلى الفسطاط حيث يستقر المتحف القومي للحضارة. الأمر الذي اعتبره كثيرون بمثابة تكلفة باهظة الثمن لتوجيه رسالة ضمنية إلى مجتمع الثورة “إننا نحن من يمتلك ميدان التحرير لا ذاكرتكم”. 

وتم أيضاً نقل مبنى وزارة الداخلية من “وسط المدينة” إلى القاهرة الجديدة، وأخلي مبنى مجمع التحرير في إطار متسق مع الخطة المرتقبة لنقل الحكومة بأكملها إلى العاصمة الإدارية الجديدة. 

إقرأوا أيضاً:

 الأمر الذي وصفه مختبر عمران القاهرة للتصميم والدراسات (كلستر)، والذي نشرت مدى مصر جزءاً منه، بأنه تحدٍ صارخ للعاصمة القديمة، محذراً من أنها عملية “إعادة توطين لمؤسسات حضرية ذات رمزية تتجاوز خصوصية موقعها، كالبرلمان والمتحف ومجمع التحرير، وكذا تطبيق العديد من الاعتبارات المرورية والأمنية، ما قد يؤدي إلى اختفاء المزيد من السمات التي تجعل المدينة “مدينة” بتنوعها وتناقضاتها.

كما ربط أيضاً بين موجة التطوير العمرانية والإزاحة الطبقية، “تجديد الكثير من عقارات المنطقة، تحسينات متوالية للمساحة العامة، لتنظيم الحركة وتحجيم أي نشاط غير رسمي غير مرغوب فيه، إضافة إلى الاستبعاد المباشر أو غير المباشر من الأنشطة ذات الطابع المتميز لوسط المدينة، من مساحات الفنون المستقلة والمقاهي الثقافية والمكتبات ودور النشر، إلى جانب الباعة المتجولين الذين يتعرضون لحملات إخلاء مستمرة”.

في مقال نشره موقع “المدينة”، بعنوان، “تمشية في أرض العدو“، تذكر الباحثة الأنثروبولوجية لوسي ريزوفا، معيارية الانتباذ والفئات التي تستهدفها حملات التنظيف التي تتضمن إغلاق مقاهٍ وتوحيد واجهات بنايات في “وسط المدينة”، “في شتاء 2014- 2015 كشفت حلقات التطهير المتعددة لوسط البلد من العناصر غير المرغوب فيها، محاولات النظام الجديد فرض نظامه الخاص. استهدفت هذه الإجراءات تركيبتين سكانيتين هما الأكثر ارتباطاً، من المنظور المعياري، بـ”تلويث” وسط القاهرة: الباعة الجائلين والنشطاء الثوريين”.

يعد ميدان التحرير -المدخل الجنوبي لوسط المدينة- نقطة مرور بالغة الأهمية لمدينة القاهرة. وهو موقع جغرافي ممتاز لأي احتجاج جماهيري، إذ بإمكان الفعل الثوري شل حركة مرور العاصمة، وتعطيل المدينة.

اكتسب رمزيته السياسية منذ عصر الاحتلال البريطاني، حيث كان مسرحاً للتظاهرات الشعبية ضد الاحتلال وشهد بعد ذلك بعض الوقفات المناصرة لقضايا عربية وأخرى مناهضة للسلطة المصرية.

وفي موجات متتالية من التحضر منذ سبعينات القرن الماضي ومع سياسة انفتاح دولة السادات، انتقلت النخبة من مدينة وسط البلد الكولونيالية إلى الأحياء الحضارية الجديدة ذات البوابات المغلقة، وتصاعدت هوية وسط البلد الثورية، بحسب مقال “تمشية في أرض العدو” مع تراجع المنطقة كقلب سكني وتجاري للقاهرة خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، واكتسبت تدريجياً سمة بوهيمية خاصة كموقع رئيسي للثقافة المستقلة، وغالباً ما ترتبط هذه الثقافة بالمقاومة السياسية.

يمكن اعتبار كل توسع سكني في إطار سياسات التنمية العمرانية التي تنقل الاقتصاد والراحة إلى الصحراء، تعدياً على مركزية القاهرة التاريخية ومنطقة ميدان التحرير. 

كما يمكن اعتبار العاصمة الإدارية الجديدة حصناً لإدارات الدولة وأجهزتها العليا من قاهرة المقاومة السياسية، فضلاً عن كونها امتيازاً طبقياً لملايين الأشخاص، ما يبعد مسافات شاهقة من مطالب الثورة.

الرمزية السياسية للمكان لا تساهم في تشكيل نمطه الهندسي وخلق عادات خاصة به فحسب، بل أيضاً تساهم في خلق هويات أخرى لأماكن بديلة. كما يمكنها أن تؤثر بشكل مباشر في كتل سكانية وتوسّع الهوة بين طبقات المجتمع.

إقرأوا أيضاً:

26.01.2022
زمن القراءة: 6 minutes

الحرب على الرمزية، ليست مجرد احتلال المكان عبر الانتشار فيه، ووضع البصمات أو تغيير معالمه، إنما هي حرب على مجالات التصور والخيال وعلاقات الأجيال بالتاريخ، وعلاقاتنا نحن بماضينا وواقعنا وأحلامنا.

كنت عائداً إلى أسرتي ماراً بميدان التحرير باتجاه محطة مترو أنور السادات، وبينما كنت أهبط سلالم المترو التقطتُ صورة “سيلفي” خاطفة بهاتفي، ولم أتفحصها إلا بعدما قطعت مسافة آمنة من البوليس الذي لا يتزحزح من هناك. نظرت إلى مبنى مجمع التحرير من ورائي في الخلفية، وانتابني شعور غامض بأن هذه الصورة تنتمي إلى أرشيف الثورة الذي دخل كل بيت وانتشر في كل مكان عبر وسائل نشر الصورة. وتبادرت إلى ذهني فكرة غريبة، قلت؛ ربما سبب وجود البوليس هناك إلى الآن بعد 11 سنة هو أن نفس الثورة لا يزال موجوداً في الميدان برغم سطوتهم عليه.

بإمكان الرائي أن يلاحظ عبر الصورة البصرية التي يراها اليوم في ميدان التحرير، معركة خفية، لها طرفان، سلطة الدولة و”المكان”. فالأماكن التي تشهد معارك أو وقائع تاريخية لها قيم ودلالات معينة، يمكنها أن تتحول مع مرور الزمن إلى طرف أو خصم أساسي في النزاع.  

وخصومة الدولة مع ميدان التحرير هي نزاع على الهوية التاريخية والرمزية الثورية التي يحملها. والتي يمكن شحنها في كل الأشياء حجراً كان أو نباتاً أو حتى المباني الحكومية. كيف يتحول مبنى حكومي مثل مجمع التحرير إلى فكرة (بصرية) ومثال ثوري مشحون بهذه العاطفة التي في الصورة؟

لماذا هدمت الحكومة في آب/ أغسطس 2015، مبنى الحزب الوطني المطل على ميدان التحرير؟ برغم أن هذا الحزب كان بمثابة الذراع السياسية لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك؟ وقد أحرقه ثوار يناير.

كل شجرة تم قلعها من قلب الميدان لوضع نافورة مياه أو حجر فرعوني ضخم أو أضواء اصطناعية للزينة، هي محاولة لنفي مجرد التلميح أو الإشارة الدالة إلى عبارة الثورة.

الرمز يقوم مقام التاريخ، أو يختزل لحظات معينة منه، كما في رموز الفيزياء التي تقوم مقام الصوت المنطوق، لذلك فإن المعركة تستهدف في الأساس الأصوات المنطوقة من التاريخ والأصوات الحاضرة، برغم كبتها والأصوات التي من المحتمل أن تدوي في أي وقت في المستقبل. 

الحرب على الرمزية، ليست مجرد احتلال المكان عبر الانتشار فيه، ووضع البصمات أو تغيير معالمه، إنما هي حرب على مجالات التصور والخيال وعلاقات الأجيال بالتاريخ، وعلاقاتنا نحن بماضينا وواقعنا وأحلامنا.

على رغم ذلك، تشن السلطة هذه الحرب العمرانية على المعاني التاريخية والفكرية وتستهدفها فقط، لأنها ما زالت حية.

مرت 11 سنة على الثورة المصرية، تغيرت خلالها مصائر البلاد وصيرورات العباد، دخل كثيرون السجن حيث مات ثوار ورؤساء، إلى جيل كامل تم نفيه وتغريبه، فيما ما زال العسكر يحتل ميدان التحرير. 

لماذا انفضّ كل شيء ولم يعد أولئك العساكر منذ ذلك اليوم إلى بيوتهم؟

إن الشاهد الحقيقي هو منظر ميدان التحرير العادي الآن، مع عربات الشرطة المصفحة الحاضرة على مدار أكثر من عقد من الزمن، ما الذي يخيفهم؟

إذا اتفقنا على أن المباني الحكومية والبيروقراطية قابلة لشحنة ثورية في صورة مناقضة لوظيفتها كما تقدم، فإن العساكر الذين ما زالوا في ميدان التحرير هم أيضاً أكثر الناس إحياء لذكرى الثورة. استمرارية هذا الوجود يجعل من الميدان استعارة دائمة للثورة، فعلاً ثورياً في حد ذاته، أو على الأقل مساحة معبرة عن الفعل الثوري. 

لقد محت الدولة الآثار الوحيدة والمعبرة عن الفعل الثوري المباشر والمتمثلة في رسوم “الغرافيتي” التي نقشها الفنانون على البنايات المجاورة للميدان أثناء الثورة. 

كما أنها تفعل كل ما يمكن للقضاء على تلك الذاكرة وطمس معالمها بشتى الطرائق، سواء بتغيير النمط الهندسي للمكان بشكل متكرر، أو تفريغ الحياة العامة من وسط المدينة، وإعادة التوطين للمؤسسات الحيوية الذي يقلل من مركزيتها الاجتماعية كما ينزع هويتها التاريخية والثقافية، أو عبر تغيير أنشطة المكان وعاداته، وفرض الحواجز المختلفة، والهجوم المباشر على الذاكرة الرمزية لمرتاديه، عبر تفتيش هواتفهم الشخصية، وانتهاك خصوصياتهم بشكل عشوائي ومفاجئ.

عقب الثورة مباشرة، قامت الدولة، بإغلاق شوارع حي “وسط البلد” الذي يؤدي إليها ميدان التحرير بالمتاريس الخرسانية لفترة طويلة خشية من مواجهة الشعب. كما شيدت بوابة حديدية ضخمة ودائمة، ما زالت حتى الآن في الشارع المؤدي إلى وزارة الداخلية من شارع محمد محمود.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، قام رئيس الوزراء حينها بافتتاح نصب تذكاري في منتصف الميدان لشهداء الثورة، الأمر الذي اعتبره الثوار محاولة أخرى للطمس والخداع، وخطوة مضادة لما هو ثوري، لأن الأشياء تنتهي فقط عندما يوضع لها نصبٌ تذكاري. فقامت مجموعة من الثوار حينها بهدمه عبر طمس معالمه وعلقوا عليه صورة “جيكا” الذي قضى في أحداث محمد محمود عام 2012.

غيرت الحديقة التي تتوسط ميدان التحرير أكثر من مرة. وقامت لاحقاً بنقل تماثيل لأربعة كباش من الحجر الرملي كانوا في معبد الكرنك بالأقصر، برغم اعتراض منظمة اليونيسكو، وتوجيه رئيسة المركز العربي للتراث العالمي رسالة إلى وزارة الآثار المصرية تحذر من عملية نقل التماثيل وتعارضها مع المبادئ التشغيلية لاتفاقية التراث العالمي.

إضافة إلى ذلك، نقلت 22 مومياء ملكية من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة، في موكب عالمي فخم، زين ميدان التحرير وانطلق منه إلى الفسطاط حيث يستقر المتحف القومي للحضارة. الأمر الذي اعتبره كثيرون بمثابة تكلفة باهظة الثمن لتوجيه رسالة ضمنية إلى مجتمع الثورة “إننا نحن من يمتلك ميدان التحرير لا ذاكرتكم”. 

وتم أيضاً نقل مبنى وزارة الداخلية من “وسط المدينة” إلى القاهرة الجديدة، وأخلي مبنى مجمع التحرير في إطار متسق مع الخطة المرتقبة لنقل الحكومة بأكملها إلى العاصمة الإدارية الجديدة. 

إقرأوا أيضاً:

 الأمر الذي وصفه مختبر عمران القاهرة للتصميم والدراسات (كلستر)، والذي نشرت مدى مصر جزءاً منه، بأنه تحدٍ صارخ للعاصمة القديمة، محذراً من أنها عملية “إعادة توطين لمؤسسات حضرية ذات رمزية تتجاوز خصوصية موقعها، كالبرلمان والمتحف ومجمع التحرير، وكذا تطبيق العديد من الاعتبارات المرورية والأمنية، ما قد يؤدي إلى اختفاء المزيد من السمات التي تجعل المدينة “مدينة” بتنوعها وتناقضاتها.

كما ربط أيضاً بين موجة التطوير العمرانية والإزاحة الطبقية، “تجديد الكثير من عقارات المنطقة، تحسينات متوالية للمساحة العامة، لتنظيم الحركة وتحجيم أي نشاط غير رسمي غير مرغوب فيه، إضافة إلى الاستبعاد المباشر أو غير المباشر من الأنشطة ذات الطابع المتميز لوسط المدينة، من مساحات الفنون المستقلة والمقاهي الثقافية والمكتبات ودور النشر، إلى جانب الباعة المتجولين الذين يتعرضون لحملات إخلاء مستمرة”.

في مقال نشره موقع “المدينة”، بعنوان، “تمشية في أرض العدو“، تذكر الباحثة الأنثروبولوجية لوسي ريزوفا، معيارية الانتباذ والفئات التي تستهدفها حملات التنظيف التي تتضمن إغلاق مقاهٍ وتوحيد واجهات بنايات في “وسط المدينة”، “في شتاء 2014- 2015 كشفت حلقات التطهير المتعددة لوسط البلد من العناصر غير المرغوب فيها، محاولات النظام الجديد فرض نظامه الخاص. استهدفت هذه الإجراءات تركيبتين سكانيتين هما الأكثر ارتباطاً، من المنظور المعياري، بـ”تلويث” وسط القاهرة: الباعة الجائلين والنشطاء الثوريين”.

يعد ميدان التحرير -المدخل الجنوبي لوسط المدينة- نقطة مرور بالغة الأهمية لمدينة القاهرة. وهو موقع جغرافي ممتاز لأي احتجاج جماهيري، إذ بإمكان الفعل الثوري شل حركة مرور العاصمة، وتعطيل المدينة.

اكتسب رمزيته السياسية منذ عصر الاحتلال البريطاني، حيث كان مسرحاً للتظاهرات الشعبية ضد الاحتلال وشهد بعد ذلك بعض الوقفات المناصرة لقضايا عربية وأخرى مناهضة للسلطة المصرية.

وفي موجات متتالية من التحضر منذ سبعينات القرن الماضي ومع سياسة انفتاح دولة السادات، انتقلت النخبة من مدينة وسط البلد الكولونيالية إلى الأحياء الحضارية الجديدة ذات البوابات المغلقة، وتصاعدت هوية وسط البلد الثورية، بحسب مقال “تمشية في أرض العدو” مع تراجع المنطقة كقلب سكني وتجاري للقاهرة خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، واكتسبت تدريجياً سمة بوهيمية خاصة كموقع رئيسي للثقافة المستقلة، وغالباً ما ترتبط هذه الثقافة بالمقاومة السياسية.

يمكن اعتبار كل توسع سكني في إطار سياسات التنمية العمرانية التي تنقل الاقتصاد والراحة إلى الصحراء، تعدياً على مركزية القاهرة التاريخية ومنطقة ميدان التحرير. 

كما يمكن اعتبار العاصمة الإدارية الجديدة حصناً لإدارات الدولة وأجهزتها العليا من قاهرة المقاومة السياسية، فضلاً عن كونها امتيازاً طبقياً لملايين الأشخاص، ما يبعد مسافات شاهقة من مطالب الثورة.

الرمزية السياسية للمكان لا تساهم في تشكيل نمطه الهندسي وخلق عادات خاصة به فحسب، بل أيضاً تساهم في خلق هويات أخرى لأماكن بديلة. كما يمكنها أن تؤثر بشكل مباشر في كتل سكانية وتوسّع الهوة بين طبقات المجتمع.

إقرأوا أيضاً: