منذ سنوات مضت، حين كنت أتلقّى أحد دروس فنّ الخبز، جلتُ بناظريّ في أرجاء غرفة الدراسة لأجد خبّازاً جديداً تحدوه الحماسة في أقصى الغرفة، بينما كانت يداه غائرتين في وعاء فيه مخفوق كعكة الشيكولاتة الرطب، يمزجه ويقلبه بحماسة شديدة. كان من الواضح مدى حرصه على تنفيذ تعليمات الوصفة بدقة، إذ قال لي عندما عرضت عليه استعمال ملعقتي، “تقول الوصفة عليك تحريك المزيج باليد”.
لا شك في أن أي شخص يحضر فصلاً لتعلّم فن الطهي لم يأتِ إلا من أجل التعلم، وغالباً ما يدفعهم حضوري إلى بذل مزيد من الاهتمام بتفاصيل الوصفة التي أعددتها لكي يطبقوها. ولكن على رغم أن كتابة الوصفات هو الجزء الأكبر من عملي، لا يسعني إلا الشعور بأن وضع قائمة مُطوّلة من التعليمات المفصلة والمقادير الدقيقة يمثل عائقاً حقيقياً أمام تنمية حدس الطهي وتطويره. إن إعداد الكعكة أو طبق الكاري ليس كتركيب مكتبة من أيكيا، فليس هناك أجزاء محفورة أو معدّة مسبقاً لتُثبَّت فوق بعضها بعضاً وفق مجموعة من الإرشادات، والتي قد يؤدي اختلال بسيط فيها إلى حدوث فاجعة. فأعظم الأطباق وأفخرها لا تُعد دائماً وفق وصفة محدّدة مسبقاً، كما أن الطهاة من ذوي خبرة -وهم موجودون في عائلاتنا جميعاً- يصنعون الفطائر اللذيذة وأطباق البرياني الشهية اعتماداً على الحس والذوق، إذ يضيفون الملح والتوابل من دون استخدام معيار، ويضيفون القدر المناسب من السائل “للحصول على القوام المثالي للعجين”.
قد يرى كاتب الوصفة أن ملعقتين صغيرتين فقط من الزعتر كافيتان لإكساب النكهة المناسبة لنصف دستة من أفخاذ الدجاج، لكن المكونات تختلف وتتباين، والمذاق يخضع للتقدير الشخصي. لماذا تكون جميع الوصفات تقريباً مُعدّة لإطعام عائلة مكونة من أربعة إلى ستة أفراد؟ ومنذ متى كان من الضروري قياس مقدار الزيت المستخدم في قاع وعاء الحساء أو اليخنة، واعتباره نقطة انطلاقك في الوصفة؟ بالتأكيد يمكن استخدام المقادير كمعيار إرشادي -وتزيد أهمية تلك المقادير عندما يتعلق الأمر بنسب الخبز-، إلا أن التحديد الدقيق والمستمر للمقادير قد يوحي للطاهي أن النجاح في هذا المجال يعتمد بالضرورة على اتباع الدقة في التفاصيل بشكل متكرر.
لم تكن المطابخ تتميّز بالدقة الشديدة قبل ظهور المعايير القياسية الموحدة، وعادةً ما كانت تُستخدم أكواب الشاي والملاعق الصغيرة معايير تقديرية، نظراً لكونها الأدوات الموجودة تقريباً في معظم المطابخ وبأحجام متشابهة (وفق العادة في وصفات الطعام القديمة يذكر “مقدار من الزبد بحجم بيضة”).
يُعتقد أن كتاب مدرسة بوسطن لفن الطهي ” Boston Cooking School Cook Book”، الذي نُشر عام 1896 لمؤلفته فاني ميريت فارمر، أول ما استعان بالمعايير القياسية الموحدة (وقد نشر في ما بعد باسم كتاب طهي فاني ميريت فارمر “Fannie Farmer Cookbook”). بعد فترة وجيزة، تقرّر في كثير من بلدان الغرب أن يكون فن الطبخ جزءاً من المناهج الدراسية، ما يعني ضرورة إرساء توجيهات ذات صيغة متسقة تتكون من خطوة تلو أخرى، إضافة إلى قائمة مكونات يستعين بها المعلم في الشرح، وتكون مرجعاً سهلاً للطلاب في الوقت ذاته. ظلت الإرشادات مختصرة بما يكفي، كي تتسع الصفحة الواحدة لأكثر من وصفة، وهو ما يختلف تماماً عما بين أيدينا في الوقت الراهن من خطوات مستفيضة تحتوي على مؤشرات مفصلة عن نضج الطعام.
ومع ذلك، حتى سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، كان من المفترض توافر المعرفة الأساسية لفن الطبخ – ففي سلسلة كتب “Best of Bridge” الأصلية، والتي بيعت منها ملايين النسخ المنشورة ذاتياً لربات المنازل في كندا، كانت الإرشادات مقتضبة للغاية، مثل: “قم بطهي المعكرونة”، أو “حمري اللحم في المقلاة”، أو “اخبزي حتى تظهر فقاقيع”. أما في وقتنا هذا، فمع انتشار فيديوات أساليب الطبخ اللذيذ على موقع فيسبوك مثل صفحة Tasty، ونحن نحمل معنا وسيلة للحصول على كل وصفة طعام نشرت في أي وقت، إضافة إلى كل ما يتوافر لدينا من مصادر للطهي على هواتفنا في جيوبنا الخلفية. عندما أنشر بعض الطرق البسيطة على منصات التواصل الاجتماعي -من قبيل، قم بسلق بعض حبات البطاطس الطازجة، ثم اسحقها باستخدام شوكة، مع إضافة بعض قطرات من الزيت، وضعها بعد ذلك في الفرن على درجة حرارة 425 فهرنهايت (218 مئوية) حتى تصبح ذهبية اللون- سرعان ما تأتيني تعليقات حتمية من المتابعين مثل: “يبدو هذا رائعاً! ولكن أين الوصفة؟”.
أحاول جاهدةً تلبية طلباتهم، لكن لا يحتاج الجميع المقدار نفسه من البطاطس المهروسة المحمصة في أي وقت بعينه. وتختلف ميول تذوق التوابل والملح من فرد إلى آخر، وليس هناك أطباق تُخبز وفق معايير قياسية ثابتة. بعضنا لديه زجاجة من زيت الكانولا بجانب الموقد، بينما البعض الآخر لديه زيت الزيتون، وآخرون لديهم سمن حيواني. ونجد أن المطابخ تزخر بالعوامل المتغيرة – إذ تختلف المواد التي تُصنَع منها الأوعية والمقالي وأواني الخبيز، وتختلف دقة الأفران، وتتنوع ما بين الأفران التي تعمل بالغاز وتلك التي تعمل بالكهرباء، وهناك التقليدية والحرارية، يتباين الوضع أيضاً في ما يتعلق بطريقة المزج والطي والطهي، وهناك اختلاف كذلك في مكان طحن الدقيق الذي تستخدمه، وطريقة قياس مقاديره، وحجم قوالب عجين الكعك المستخدمة، وطريقة صفها في لوح الخبيز، بل قد يمتد الأمر إلى درجة حرارة المطبخ. يمكن لمؤلفي كتب الطبخ إجراء تجربة واختبار تلو الآخر باسم الدقة والإتقان، وكتابة وصفات ذات مقادير ودرجات حرارة فائقة الدقة، ولكن في نهاية المطاف، سيكون هناك اختلاف لا يمكن رصده في أي حال من الأحوال. تُؤخذ اختلافاتنا وتفضيلاتنا الفردية في ما يتعلق “بمقدار إضافة الملح والتوابل” في الاعتبار بطبيعة الحال، لكن الأمر يعتمد أيضاً على قدرة الطاهي على ضبط مقادير الملح والتوابل والحمضيات بحسب الحاجة. إذ يعتمد الأمر على مستوى معين من المعرفة الفطرية للطبخ.
لا بد أن نسأل إذاً، هل هذا المقدار المتنامي من المبالغة في توصيف خطوات الطهي يصنع طهاة أكفاء، أم يجبر الناس أن يكونوا أكثر اعتماداً على الآخرين؟ هل هذا هو الوقت المناسب لعمل صياغة جديدة موحدة للوصفات أو صياغة مُحدثة على أقل تقدير، بما يتناسب مع العصر الرقمي؟
من المرجح أنه إذا كانت هذه الوصفات المُصاغة بإسهاب منذ قرن من الزمان -قائمة المكونات مع إرشادات وخطوات التحضير- متأصلة بعمق في كياننا الثقافي، فلن يكون هناك معيار جديد. وسوف يُعاد طرح الوصفات نفسها في أُطر مختلفة مراراً وتكراراً، ربما تتطور فقط طريقة عرضها، إما من طريق الإنترنت، أو تُنقل رقمياً، على الأرجح من طريق قصص انستغرام. ثمة عبارة شهيرة تقول “إذا استطعت اتباع الوصفة، فبإمكانك الطهي”، ولكن ربما يجب علينا التحرر من الوصفة التفصيلية ولو لمرة واحدة كل حين، ونحاول صقل حسنا في الطهي على الموقد، وباستخدام وعاء وملعقة، من دون الاستعانة بدليل الطبخ أو الآيفون.
هذا المقال مترجم عن موقع The Globe and Mail ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
إقرأ أيضاً:
5 أطعمة من الكربوهيدرات تساهم في خسارة شحوم البطن
طهاة برامج الطبخ باتت أيامهم معدودة