قصف مجهول المصدر، يرجح أنه كان إسرائيلياً، استهدف قوات عراقية موالية لطهران، في بلدة الهرى جنوب شرقي البوكمال السورية. هذا القصف أعاد السؤال والشكوك في شأن قدرة الحكومة الحالية، التي شارف عمرها الدستوري على الانتهاء، من ضبط أوضاع مقاتلي الحشد الشعبي، بخاصة المؤمنين بنظرية التصدي لأميركا وإسرائيل من أي مكان وصولاً إلى ساحل البحر المتوسط.
في بيان لهيئة الحشد الشعبي العراقي، إقرار بأنه في مساء 17 يونيو/ حزيران الحالي، تعرض مقر ثابت لقطعات الحشد من لواءي 45 و46 على الشريط الحدودي مع سوريا، وقرب مدينة البوكمال لضربة صاروخية، خلفت 22 قتيلاً و12 مصاباً. العدد الأكبر من خسائر الضربة كان من صفوف “كتائب حزب الله” العراقي، التي اتهمت في بيان طائرات “الصهيونية الأميركية” بشنّ الضربة. وبررت “الكتائب” انتشار مقاتليها على الحدود بـ”ملاحقة فلول داعش، والقضاء عليها”.
والكتائب تشكيل جهادي شيعي ينتمي إلى فصائل ما يسمّى “المقاومة” الموالية للسياسة الإيرانية، وتستمد جزءاً كبيراً من أهدافها وثوابتها من شعارات من نوع “مواجهة المشروع الأميركي”، وتشدد على طرد آخر جندي أميركي من الأراضي العراقية، مع الأخذ بالحسبان عدم التعرض لحكومة بغداد التي هي “أفضل من الاحتلال” على رغم وقوعها تحت هيمنته، على حد تعبير هذا التشكيل العراقي الذي ينشط في سوريا ايضاً، بناء على رغبة طهران لمساعدة النظام السوري.
وعلى رغم أن القصف كان داخل الأراضي السورية وفق البيانات والتصريحات العسكرية، إلا أن استهدافه العراقيين المنضمين رسمياً إلى “هيئة الحشد الشعبي” التابعة رسمياً لرئاسة الوزراء العراقية، أعاد الى الواجهة في الأوساط العراقية موقع بغداد في الصراع الإقليمي، ومدى قدرة الحكومة الحالية على النأي بالنفس من المواجهات السياسية والأمنية، الدائرة بجوارها، بين محوري أميركا وإيران، وسط تشديد من “كتائب حزب الله” وأقرانها على مواجهة إسرائيل وأميركا بعد الضربة، مع التهديد باتخاذ موقف إن تكررت مرة أخرى.
قيادة العمليات المشتركة التي تتولى تنظيم مختلف فصائل القوات العراقية، حاولت إبعاد العراق من أي تبعات للهجوم، عبر تأكيد عدم تعرض أي قطعات عراقية إلى ضربات جوية داخل الحدود، واكتفت بإبداء الأسف لما حصل مع “قوات أمنية”، داخل الأراضي السورية جنوب البوكمال على الحدود العراقية، ونفت وجود اتصال وتنسيق بين تلك القوات وبين قيادة القوات العراقية.
قيادة العمليات اكتفت بذكر اسم “قوات أمنية” عند الحديث عن المستهدفين، خلافاً لهيئة الحشد الشعبي التي تبنت الفصيل، على رغم انتماء الطرفين لمرجعية عسكرية واحدة إدارياً، وهي قيادة القوات المسلحة العراقية التي يرأسها رئيس الوزراء حيدر العبادي.
إضافة إلى هذا، أكدت “هيئة الحشد الشعبي” تمركز تلك القوات على الشريط الحدودي منذ انتهاء عمليات تحرير الحدود من “داعش”، وحتى الآن، بعلم العمليات المشتركة العراقية، وبررت ابتعاد تلك القوات من الأراضي العراقية بطبيعة المنطقة الجغرافية، كون الحدود أرضاً جرداء، فضلاً عن الضرورة العسكرية، وأشارت إلى أن الفصائل العراقية ابتعدت، من الحدود 700 متر فقط، بعلم الحكومة السورية والعمليات المشتركة العراقية.
وفي الوقت الذي تحدثت فيه جهات سورية عن أن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة مسؤول عن الغارة الجوية، إلا أن الجانب الأميركي ومن خلال تدقيق موقف الضربات الجوية مع قوات التحالف الدولي، نفى توجيه أي ضربة جوية أو صاروخية باتجاه تلك المناطق، ونقل بيان لنائب رئيس الجمهورية العراقية أسامة النجيفي، الموقف ذاته من السفير الأميركي لدى بغداد، دوغلاس سيليمان، بعد لقاء جمعهما، ظهر الثلاثاء. وأشار السفير وفق بيان النجيفي إلى أن “القوة الجوية الأميركية غير مسؤولة عن الهجوم الذي طاول بعض الفصائل العراقية في سوريا”، مؤكداً “عدم وجود أي نشاط جوي أميركي في المنطقة”.
وفي ظل النفي الأميركي لشن الضربة، تتجه الأنظار والترجيحات إلى إسرائيل التي تنشط في الأجواء السورية خلال الفترة الأخيرة، وأيدت هذه الفرضية مصادر أميركية، على رغم ابتعاد مساحة تحليق الطائرات مسافة 560 كلم عن العمق الإسرائيلي، في أحدث صفحة من كباش طهران وتل أبيب على الأراضي السورية، ضمن مساعي تل أبيب إلى عرقلة طريق طهران- بيروت، وفق مصادر تحدثت لوسائل إعلام أميركية، بينها شبكة CNN، لكن الصدام طاول هذه المرة عراقيين محسوبين على محور “المقاومة”، ما يزيد من سخونة حراك الأطراف المؤيدة لهم، للضغط على العبادي وحكومته لإبداء موقف حاسم، وصل في بعض الأحيان إلى المطالبة بوقف عمليات التحالف في العراق، في وقت ما زال خطر “داعش” يهدد الأمن والسلم في البلاد.
وعلى رغم أن الحكومة العراقية أعربت عبر خارجيتها عن استنكارها الضربات التي استهدفت “قوات تقاتل تنظيم داعش في العراق أو سوريا” من جهة مجهولة في البوكمال السوري، إلا أن رئيس الوزراء، حيدر العبادي، عبر في أوقات سابقة عن رفض انخراط أي فصيل عراقي في النزاع السوري وعبورهم أرض الحدود، وأيده في هذا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. وقد انتقد العبادي العام الماضي توجه فصائل الحشد إلى الحدود السورية، مبرراً انتقاده بعدم دستورية القتال خارج الحدود.
بيانات الحشد والفصائل أجمعت على ضرورة اتخاذ موقف، وطالبت بشكل غير مباشر، بحماية فصائل الحشد الشعبي من الاستهداف، إلا أن أوساطاً مقربة من قائمة رئيس الوزراء، ذكرت أنه قادر على ذلك ضمن الحدود العراقية فقط، وحاولت استثمار حاجة الحشد للعبادي إلى الحماية، للمطالبة بالموافقة على ولاية ثانية، لأن بإمكانه تأمين تلك الحماية بسبب مدى المقبولية التي يتمتع بها لدى الأطراف الأميركية.
الضربة الأخيرة ذكرت جميع الأطراف بهشاشة الوضع العراقي في ظل خروج السلاح عن سيطرة الدولة بشكل كامل، وكذلك حراجة الموقف العراقي الواقع بين رغبة إيران في التمدد، عبر حلفائها، وإصرار غربي على مواجهة تلك المساعي، في مشهد مفتوحٍ على المفاجآت والتطورات، كلما اقترب العراق من حسم المواقع الرئاسية بعد الانتخابات، وكلما اشتد النزال الأميركي الإسرائيلي السعودي ضد إيران وذراعها شرق بلاد الرافدين وغربها.