أنهى عماد الفقي (54 سنة)، نائب رئيس قسم الأخبار في صحيفة “الأهرام”، حياته بأكثر طريقة لا تليق بهدوئه وميله إلى الصمت، بحسب زملائه المقرّبين، ليخلّف موجة من الصخب والاتهامات المتبادلة والأسئلة حول الرسالة التي كان يريد توجيهها بانتحاره داخل مقر الصحيفة، وفي المبنى الذي يحمل اسم رئيس تحريرها التاريخي، محمد حسنين هيكل.
شنق الفقي نفسه بسلك حاد للغاية، كيْ لا يترك فرصة للحياة لتتسرّب إليه مجدداً، فقطع السِلك رأسه، وصاغ مشهد النهاية بأقسى التفاصيل الممكنة، ليؤلم الجماعة الصحافية في مصر، ويغرقها في تأملاتٍ وأسئلة حول الظروف المهنية، والأوضاع الراهنة، والعنف النفسي داخل الصحف، والخوف الذي يجتاح الجميع، إلى الكبت المهني ومحاولات الإقصاء.
الحرمان من الترقية… الدليل “الفاضح”
إعادة رسم مشهد الانتحار، والساعات التي تسبقه قد يساعد في فهم الظروف التي دفعت الصحافي المصري عماد الفقي إلى الانتحار.
بعد منتصف ليل الخميس 28 نيسان/ أبريل، وصل الفقي في وقت متأخر إلى مقر صحيفة “الأهرام” وسط القاهرة، دخل المبنى العملاق الذي شهد حكايات ومواقف لأشهر الكتاب والصحافيين في تاريخ مصر، محمَّلاً بالكثير من القلق والتوتر والأفكار السوداوية، ويتزامن ذلك مع “شيفت منتصف الليل”، الذي ينتهي صباحاً، ولم يكترث له أحد. أدّى التوقيع الروتيني في كشف الحضور والانصراف، برغم أنه كان متأخراً.
25 عاماً أمضاها الفقي داخل مؤسسة “الأهرام”، عمل عقب التحاقه بها مباشرة في قسم الحوادث، ثم انتقل إلى قسم الأخبار، وعمل لاحقاً نائباً لرئيس القسم. بحسب لوائح المؤسسات الصحافية التابعة للدولة في مصر، تسمح 15 عاماً من العمل للصحافي بأن يصبح نائباً لرئيس التحرير، وأكثر منها بـ5 سنوات بأن يكون مديراً للتحرير، حتى لو لم يمارس ذلك الدور فعلياً، تسمح له وظيفته بالمزيد من المخصَّصات المالية والأدوار والصلاحيات، لكن الصحافي عماد الفقي توقّف نموه مهنياً عند منصب “نائب رئيس قسم”، ما يشير إلى الكثير من العقوبات والجزاءات والخصومات والحرمان من الترقية.
قوي ومحب للحياة وجري ويطالب بحقه…
يؤكد مصدر في صحيفة “الأهرام”، عمل سابقاً رئيساً لتحرير أحد إصدادرتها، لـ”درج”، أنّ “عماد كان غاضباً في الفترة الأخيرة، وإن كان يكتم غضبه، ولكنه وصل في مرات عدة إلى اليأس، من شعوره بالظلم، وعدم توفّر فرص أخرى خارج الأهرام، أمّا إذا كنت تسأل عن سبب مشكلاته مع رؤساء تحرير، فهي الفكرة السائدة عنه… كان جريئاً، ويفضّل المواجهات، فإذا شعر أن أحداً يضطهده أو يضيّق عليه، يذهب إليه مباشرةً ويلومه ويتشاجر معه أحياناً، مهما كان منصبه أو سلطاته”.
تتفق هذه الشهادة مع أخرى للكاتب الصحافي محمود كامل، عضو مجلس نقابة الصحافيين المصريين، قال فيها إن “الزميل الراحل عماد الفقي، خلال آخر 4 سنوات، تعرض لاضطهاد واضح وصريح وممنهج من علاء ثابت، رئيس تحرير الأهرام، وهذا الاضطهاد وصل إلى خصم الحوافز والأرباح طوال هذه السنوات، ومنعه من ممارسة عمله الصحافي بشكل غير رسمي ودون سبب، وتجاوزه في ترقيته لرئاسة قسمه”.
نتيجة للمنع عن العمل دون قرار رسمي، اعتاد الفقي الحضور إلى مؤسسة “الأهرام” مرة واحدة أسبوعياً، يوم الجمعة، حتى يحافظ على استمرار صرف الحد الأدنى من راتبه.
صدر بيان مؤسسة “الأهرام” لنعي الصحافي الذي ينتمي إليها متأخراً، وكأنها كانت ترتّب للتكتم على الحادث، كما حصل في حادثي انتحار سابقين على مرّ تاريخ المؤسسة، إلا أن خبر “الموت الغامض” انتشرَ بمواقع التواصل الاجتماعي من مصادر غير رسمية، وبعد نحو 10 ساعات من الروايات، ردّ رئيس التحرير، علاء ثابت، على اتهامه بالتورّط في “الاضطهاد المهني” للزميل الراحل، نافياً “كل ما نشره محمود كامل، عضو مجلس نقابة الصحافيين”، وقال: “لم يحدث إطلاقاً أن تم خصم أي من الحوافز أو الأرباح للزميل المتوفي منذ عام 2017 حتى الآن، وبيننا سجلات مؤسسة الأهرام والهيئة الوطنية للصحافة”.
يوحي الانتحار داخل مؤسسة الأهرام، بشكل رمزي، بظلم شديد وقع على الصحافي عماد الفقي، كما أن مماطلة المؤسسة في كشف ما حصل داخل مبناها قد يشي بتورط أحد قياداتها بالحادث. تواصل “درج” مع عضو مجلس نقابة الصحافيين المصريين، محمود كامل، فأكّد أن النقابة تتابع التحقيقات التي تجرى داخل مؤسسة “الأهرام”، وامتنع عن التعليق حتى تكشف النيابة العامة تفاصيل الحادث.
إقرأوا أيضاً:
“الأهرام”… صحيفة الرؤساء المفضلة
قبل عام 2014 كان الصحافي بجريدة “الأهرام” ينال ترقيات تلقائية كلما أمضى وقتاً أطول في العمل داخل المؤسسة، مهما كان مستواه أو تقييماته، وبناءً على ذلك، تتغيَّر امتيازاته المالية وحوافزه وصلاحياته كالموظف بأي مؤسسة حكومية دون الاضطرار للحصول على موافقة من رئيس التحرير، لكن ذلك العام شهد تعيين الكاتب الصحفي أحمد السيد النجار، رئيساً لمجلس إدارة “الأهرام”، فاتّخذ قراراً بإلغاء هذا النظام نهائياً.
كان “الترقّي التلقائي” يكبّد “الأهرام” خسائر مالية ضخمة، لكن النجار الآتي من خلفية اقتصادية، أقدم على إلغائه لتوفير ملايين الجنيهات، وأصبح الترقّي للصحافيين- بحسب حاجة العمل- بقرار من رئيس التحرير. بهذه الطريقة، تحوّلت الترقيات إلى أداة لكسب الولاءات واستبعاد المعارضين والمختلفين في الرأي وتهميش الموهوبين و”المنافسين المحتملين” داخل الصحيفة الأعرق في مصر، فقضت على المسار المهني لكثر من الصحافيين، وصعَّدت الكثير من أصدقاء “رؤساء التحرير” دون النظر لمستوياتهم المهنية.
دهست تلك “المجاملات المقنّنة” أحلام عماد الفقي وطموحاته المهنية، لحساب آخرين تميّزوا بـ”الولاء والطاعة” فاختيروا لمناصب أعلى. وكان الأمر بالنسبة إليه أكثر قسوة، لأنه اختار أن يكون صحافياً في “الأهرام” التي كان الانتماء إليها أحد أحلامه الكبرى. ففي بداية مسيرته المهنية، عمل صحافياً في مجلة “أخبار الحوادث”، التابعة لمؤسسة “أخبار اليوم” المنافس التقليدي والتاريخي لـ”الأهرام”، وحين واتته الفرصة للانتقال إلى “الأهرام” فضّلها وانضم إليها- قبل 26 عاماً- دون تردّد، لم يمرّ في باله أن هذه المؤسسة- الحلم ستظلمه.
ومن المعروف عن “الأهرام”، الصحيفة الأكثر قرباً لرؤساء مصر عبر التاريخ، أن رئيس تحريرها يملك جميع الصلاحيات، ويكون رجلاً قوياً يحكم المؤسسة بالطريقة التي يريدها دون تدخّل من أحد، ولا يصل إلى ذلك المنصب إلّا بدعم رئاسيّ، إذ إنه كان- في أغلب الفترات – صديقاً مقرباً للرئيس، سواء كان هيكل، ربيب جمال عبد الناصر وعقله السياسي، ثم المسؤول عن الحملة الانتخابية لأنور السادات قبل أن ينقلب كلاهما على الآخر، أو أحمد بهاء الدين، المقرّب من السادات، أو إبراهيم نافع– الذي شغل إلى منصبه في “الأهرام”، منصب نقيب الصحافيين في عهد حسني مبارك – أو أسامة سرايا، صاحب صورة “الفوتوشوب” التعبيرية الشهيرة التي جعلت مبارك في مقدمة الرؤساء خلال أحد اللقاءات.
العلاقات الرئاسية لرؤساء تحرير الأهرام جعلت كلاً منهم “الحاكم بأمره” داخل الصحيفة، يمنح ويمنع دون رقيب أو حسيب، ومهما شعر الصحافي أو الموظف بالظلم، لا يجد طريقاً للشكوى أو الحصول على حقه، ويلوذ بالصمت حتى لا يتمّ البطش به وتدمير حياته بالتعاون مع أجهزة الأمن. وبرغم أن “الأهرام”، منذ سقوط مبارك، فقدت بريقها ولم تعد “صحيفة الرئيس” كما كانت، إلا أن نظام العمل بداخلها لم يتغيّر، ظلّ رئيس التحرير حاكماً بأمرِه، يمارس ما تعلمه من أسلافه، من إقصاء وإبعاد وظلم لمن لا يروقونه على المستوى الشخصي والسياسي. ومن هنا نشأ مصطلح تاريخي مُتداول في الأوساط الصحافية، هو “الشر الأهرامي” لكثرة ما يمارس بتلك المؤسسة من مؤامرات بدعم من أذرع سياسية وأمنية، وفي النهاية، يلوذ من يشعر بالاضطهاد أو الظلم بالصمت حتى لا يدفع الثمن، أو ينتحر.
بحادث الصحافي عماد الفقي، تبلغ حوادث الانتحار داخل مؤسسة “الأهرام” 3 حالات، إذ لم يكن هو الأول. سبقه إلى الانتحار موظف في إدارة الإعلانات تمّ التمادي في البطش به وحرمانه الامتيازات في عهد إبراهيم نافع، الرجل القوي في تاريخ “الأهرام”، ثم موظفة في شؤون العاملين كانت تواجه مشكلات شخصية دون دعم نفسيّ أو مهني من داخل المؤسسة.
موتى “مع إيقاف التنفيذ”.. شكاوى الممنوعين من العمل الصحافي تعود للواجهة
تعليقاً على واقعة انتحار صحافي “الأهرام”، يقول يحيى قلاش، نقيب الصحافيين الأسبق، إن “الطريقة التي اختارها للموت من مكتبه في مؤسسة الأهرام كشفت الكامن بداخل صدور الأغلبية العظمى من الصحافيين دون انتظار نتائج التحقيقات”، ويرى أن “الواقعة باتت مدخلاً للتعبير عن آهات حبيسة تتجاوز مشكلة علاقة عمل وتتجاوز التقاليد المعروفة في التعامل مع وقائع حوادث مماثلة، فالأغلبية التي روعتها الحادثة من الزملاء كانت تعبر عن حالها والجميع كان يسطر إحباطه وأوجاعه وآلامه”.
يواجه معظم الصحافيين في مصر شعوراً عاماً بالإحباط، بسبب الطريقة التي تُدار بها الأمور داخل مؤسساتهم وخارجها، فلم تعد أصواتهم مسموعة، ووضعت الدولة خطوطاً حمراً يفرضها رؤساء تحرير يعملون لحسابها مباشرة، وأمَّمت المؤسسات الصحافية الخاصة عبر الاستحواذ عليها.
صار الإقصاء قراراً نابعاً من هوى شخصي، والفصل من العمل تحركه السياسة، كما حصل مع الصحافيين المعارضين للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، ولم يعد أحد يجرؤ على معارضة ما يحصل في أروقة الصحف في النهاية.
فجَّر حادث الانتحار شعوراً دفيناً لدى الصحافيين، بأنهم ربما يصبحون مكان المنتحر يوماً ما، نتيجة ما يُمارس ضدهم من اضطهاد وعنف وحرمان مهني ومالي، وتضييقات من جميع الاتجاهات على الموهوبين والكفاءات، وتحديداً داخل المؤسسات الصحفية التابعة للدولة كالأهرام والأخبار والجمهورية، دون قدرة على المواجهة، لكن الحادث دفع كثيرين للتلويح بحقوقهم المسلوبة، تمهيداً للمطالبة بها، للتأكيد على أن الرسالة التي أراد عماد توصيلها بانتحاره، وصلت بالفعل.
تروي سامية بكري، الصحافية في مجلة “حريتي”، التي صدرت للمرة الأولى عام 1990، للاهتمام بشئون المرأة والطفل، عن دار التحرير للطبع والنشر الحكومية، أن وفاة عماد دفعتها للحديث عن الظلم الذي تعانيه مع آخرين بين جدران المجلة، منذ 4 سنوات، برغم أنها كانت من أوائل من عملوا بها: “مفيش كلمة بتنزل أو اسمي يُنشر في مجلة حريتي، ففي أول عامين، جلب رئيس التحرير عصام عمران أصدقاؤه ومحاسيبه وأقاربه، وكنت أحتج وأجد فرصة للنشر، وأحاول العودة بكتابة باب جديد، وكان ينشر قليلاً، ثم يعاود منعي، حتى تولي رئيس تحرير جديد، ثم تولى رئيس تحرير جديد يُدعى شريف عطية، واستبشرنا خيراً بقدومه، وشجعناه، ورحّبنا به، فـ(قعّد كل زملائه الكبار في البيت) حتى إنه كان يتصل بزميلة، ويقول لها: ماتجيش المجلة، حاولت أشتغل، وكان يرفض، ليمنحَ شلته كل الامتيازات، حتى أصبحت مطرودة ومنبوذة من مكاني”.
لا يختلف حال سامية عن كثيرين بمؤسسات متعدّدة انتهى بهم الحال إلى أن يصبحوا “بطاقة مقنّعة” يعملون داخل المؤسسات الصحافية ويتقاضون رواتب هزيلة، ولا يفعلون شيئاً، فقد حُرموا ممارسة مهنتهم، دون أسباب واضحة سوى أنّ “رئيس التحرير يرى ذلك”.
ويكشف صحافي في “الأهرام”، رفض نشر اسمه، أن هناك غرفة بالدور السابع في مبنى المؤسسة صُنعت خصيصاً لمن شغلوا منصب رئيس التحرير من قبل، يتمّ “ركنهم” بها حتى يبلغوا سن التقاعد، مع استبعادهم من جميع الأعمال، كي لا يصبحوا منافسين لرئيس التحرير الحالي، ولا يسمح لهم بالكتابة، أو ممارسة أي أعمال: “نأتي لنلتقي زملاءنا، ونشرب الشاي، ونغادر رغم أننا نملك الكثير من الخبرة وكنّا مسؤولين عن صحف ومجلات ورؤساء تحرير في يوم من الأيام”.
كثيرون مثل هؤلاء في مؤسسات صحافية، تم إبعادهم من شغفهم ومهنتهم وحبهم للصحافة، بما يشبه “الموت الموقَّت”، أو “الانتحار الإجباري”…
إقرأوا أيضاً: